Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

النرجسية مرض العصر والنرجسي لا يرى سوى وجهه في المرايا

شوقي بزيع

أعترف بداية أن ما دفعني إلى قراءة كتاب ويندي بيهاري «تعرية النرجسي»، لم يكن اسم مؤلفته التي لم أكن قد سمعت بها من قبل، بل هو عنوانه المميز الذي ينتزع جاذبيته من تصديه لواحد من أكثر أمراض العصر شيوعاً، وبخاصة في عالم الكتّاب والفنانين، الذين تتحول النرجسية عندهم إلى معادل موضوعي لعملية الخلق والإبداع. كما أن عصرنا الراهن لا ينفك من جهة أخرى عن إنتاج أشكال متمادية من النرجسيات، ناجمة عن التوحش الرأسمالي واستشراء العنف وتفاقم البطالة والفقر، في سائر بلدان العالم وأصقاعه. وهو أمر لا تنحصر آثاره وتبعاته في المصابين بهذه الآفة وحدهم، بل إن المقيمين مع الأشخاص النرجسيين، من الأزواج والزوجات وأفراد العائلة والأصدقاء، هم الذين يدفعون أبهظ الأثمان وأكثرها كلفة وفداحة.
تحرص بيهاري، في إطار السؤال الذي تطرحه على نفسها «ما هو النرجسي؟»، أن تنظر في أصل التسمية نفسها، فتعود إلى التذكير بأن كلمة النرجسية مأخوذة من قصة نرسيس، ومعادلها العربي نرجس، الذي حكمت عليه الآلهة في الميثولوجيا اليونانية، بالوقوع إلى الأبد في حب صورته المنعكسة على سطح بحيرة جبلية. وكان ذلك عقاباً له على رفضه حب إيكو، حورية الجبل الشابة. ونظراً لأن نرجس لم يكن ليظفر إلا بانعكاس الصورة، من دون القدرة على امتلاكها، فقد غرق في العزلة التامة إلى حد التحول في نهاية المطاف إلى زهرة جميلة.
على أن بيهاري، وهي الاختصاصية في علم النفس السريري والعلاج الإدراكي، لا تتأخر في استتباع التعريف بالقول إن الدرس الأخلاقي الذي تهدف هذه الأسطورة المأساوية إلى تعليمنا إياه، مفاده أن الجمال الحقيقي والجاذبية المحببة يبدآن عندما ينتهي حب الذات المسرف والمفرط. فالنرجسيون، وفق المؤلفة، ينغمسون إلى أبعد الحدود في حب ذواتهم، وينشغلون بالحاجة إلى بلوغ الصورة المثالية التي ينتزعون من خلالها تقدير الآخرين، وصولاً إلى إثارة غيرتهم وحسدهم. لكنهم في المقابل لا يُظهرون أي اهتمام بهؤلاء الآخرين ولا يتفهمون حاجاتهم، أو ربما يعجزون لفرط افتتانهم بأنفسهم عن رؤيتهم وتحسس آلامهم. ولعل أفضل تعبير عن الاستغراق في الذات، أو عن علاقة النرجسي بمحيطه، هو وصف الشاعر العباسي ابن حمديس لأحدهم بالقول…
كأنما العالم مرآتُهُ فلا يرى فيها سوى شخصهِ
ولأن النرجسي، وفق المؤلفة، لا يسمع أي صوت سوى صوته الشخصي، فإنه حين يدخل في جدال لا يهتم بما يقوله الآخر، محصناً نفسه ضد ما يمكن أن يحمله على الاقتناع والتسليم بالحجج الدامغة لمنافسه، وهو بالتالي لا يفعل شيئاً سوى انتظار دوره في النقاش؛ حيث ينبغي لآرائه ووجهات نظره أن تكون حاسمة ويقينية وطاردة للشكوك. وفي تلخيص مكثف لتجاربها العيادية مع النرجسيين، تذهب بيهاري إلى القول إن هؤلاء لا يعترفون على الإطلاق بمشكلتهم، ولا يتقبلون فكرة الاستعانة باختصاصي أو طبيب معالج، بل إنهم يظنون أنهم «قادرون على سحب البساط من تحتك بلمح البصر، مثيرين فيك شعوراً بالقلق أو الرغبة بالبكاء أو الملل أو الاشمئزاز». وهي إذ تحرص على نقل كتابها من إطاره النظري البحت إلى إطار عملي وتفاعلي مع القراء، تختار لهؤلاء قائمة من الأعراض المتصلة بمواصفات الأشخاص النرجسيين وسلوكياتهم، طالبة منهم مقارنتها مع سلوكيات الأشخاص الذين يشاطرونهم المنزل أو العلاقة أو مكان العمل، بغية البحث عن الحلول الملائمة لهذه المعضلة، ودرجة مقبوليتها أو استفحالها. وفي هذه القائمة تحضر مواصفات متباينة، كالتنمر، والمكابرة، والتسلط، والغرور، والقسوة، وتبلد المشاعر، وازدراء الآخر، والتشكيك بنواياه، والتصرفات المتناقضة، واستدراج المديح، والإدمان على ارتكاب الأخطاء.
وفي إطار بحثها عن الأسباب المكونة للشخصية النرجسية، تعرض بيهاري للنظريات المتعلقة بهذه النزعة، ومن بينها نظرية الطفل المدلل، وهو الذي يتربى على أبوين يكرران على مسامعه فكرة التفوق على الآخرين، والتمتع بامتيازات خاصة لا تتاح لسواه. وفي منزل كهذا قلما نجد قيوداً على الطفل أو عواقب متناسبة مع حماقاته وأخطائه. وهو ما يدفعه فيما بعد إلى أن يصوغ بنفسه قوانينه وأعرافه الخاصة. وتشير نظرية أخرى إلى الطفل الاتكالي الذي يعمد ذووه إلى إعفائه من جميع مهماته والنيابة عنه في كل شيء، بدلاً من تشجيعه على تطوير مهاراته بنفسه.
الأمر الذي يُفقده الإحساس بالكفاءة الشخصية ومنحه شعوراً بالتبعية والعجز. وهو ما يعطي لنرجسيته طابع التعويض الرمزي عن عقد النقص وخيبات الأمل. أما النظرية الأكثر شيوعاً في هذا الشأن فهي نظرية الطفل الوحيد والمحروم، وبخاصة ذلك الذي ينشأ في جو من الحب المشروط؛ حيث يغرس أبواه في داخله أن حبهما له مرهون بقدرته على التفوق والنجاح، وأنه من غير ذلك لن يُمنح سوى التجاهل والازدراء.

الأمر الذي يخلق لدى الطفل في وقت لاحق شعوراً بالثأر لحرمانه العاطفي، سواء عبر المكابرة والتفرد بالرأي، تحت شعار «أنا لست بحاجة لأحد»، أو عبر استجماع ما يتسنى له من دفاعات لإخماد الألم المرتبط بما يحصل في حياته.
يسعى الشخص النرجسي، من جهة أخرى، إلى احتلال المركز الأول في سياق المنافسة مع الآخرين. كما يعمل أغلب الأحيان على تسويق نفسه كشخص مستقيم وكفؤ ومؤهل للفوز في السباقات التي يخوضها، أو المهام المسندة إليه. ولكنه يكف عن الإصغاء حين يحين دورك في الكلام. وهو يختفي أو «يتبخر» بشكل مفاجئ حين تحتاجه، أو تبوح أمامه بمعاناتك وحاجاتك، مختلقاً أعذاراً واهية لا تنطلي على أحد.
كما يُخفي النرجسي انعدام شعوره بالأمان، كي لا يتمكن أحد من أذيته أو تخييب أمله، بحيث يؤدي ذلك إلى تفويته كثيراً من الفرص الممتعة، كالمآدب والحفلات وأعياد الميلاد، وما سوى ذلك. على أن الأقنعة المختلفة التي يستخدمها تسهم في استدامة المشاعر التي يحاول إخفاءها. فهو في سعيه لتجنب الإحساس بالسماجة، على سبيل المثال، يبالغ عبر خطبة عصماء في شكواه من الملل الذي يعانيه، بما يجعله يبدو أمام مجالسيه بغيضاً ومملاً، وشديد السماجة في الآن ذاته!
وإذ تشير بيهاري إلى أن الإصابة بالنرجسية لا تقتصر على الرجال وحدهم، بل تشمل الجنسين معاً، فإن منسوبها لدى الرجال يفوق بمرتين مثيله عند النساء. وغالباً ما تلجأ المرأة النرجسية إلى التذمر والشكوى من كل شيء، معتبرة نفسها معينة الجميع، التي لا تجد من يعينها أو يقدّر تضحياتها. وبوصفها «شهيدة» دائماً، فهي لا تسمح لمن تحبه أو تشاطره الحياة بأن يخالفها الرأي. ولو حدث ذلك فهي تعمد إلى العبوس، والنحيب، أو التهديد بالهجر، أو إيذاء نفسها على طريقة شمشون، تحت شعار «عليّ وعلى أعدائي يا رب». ولا يفوت المؤلفة أن تذكّر بأن النساء النرجسيات يركزن على مظهرهن الخارجي أكثر من الرجال، ويتباهين بمؤهلاتهن الجسدية التي يسهم وقوفهن الطويل أمام المرآة في صقلها وتنميتها. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي تغذي لديهن هذا النزوع، وتفاقمه بشكل مطرد.
ومع أن الشفاء الكامل من «الآفة»، التي يزيدها عصرنا الراهن تفاقماً وشيوعاً، هو أمر مستبعد تماماً، فإن المؤلفة تضع مقترحات وخرائط طرق عدة، للتخفيف من حدتها لدى المصابين بها، ومن وطأتها على الذين يشاطرون النرجسيين العمل أو المسكن أو الحياة.ومن بينها العلاج الإدراكي الذي يقوم على سبر أغوار النواحي المعقدة في نظم المعتقدات العاطفية والعقلية للمصابين، التي يقوم الشخص النرجسي خلالها بتطوير ذخيرة من الأفكار والتوقعات، مستبدلاً الأفكار المحرفة المغروسة في عقله، بأخرى متوازنة وأكثر نجاعة وصوابية. إضافة إلى العلاج التخطيطي الذي أسّسه جيفري يونغ صاحب كتاب «إعادة اختراع الحياة»، الذي اقترح 18 مخططاً من سوء التكيف الاجتماعي، ومما يسميه «مصائد الحياة» التي تدخل في إطارها مشكلات القلق والخنوع والكبت وسوء الظن والشعور بالنقص أو بالعظمة والحرمان العاطفي، منوهاً بأن المعالجة تتطلب كثيراً من الصبر والتروي والمتابعة الدؤوبة وإظهار التعاطف، بعيداً عن تقريع المصاب أو إبداء الضيق منه واليأس من شفائه.
ويندي بيهاري لا تتوانى في نهاية الأمر عن الإقرار بأن ثمة حالات نرجسية يتعذر إصلاحها، وأن ثمة حالات أخرى يتعرض فيها المقيمون مع النرجسيين إلى كثير من المخاطر النفسية والجسدية. وهي لا تجد غضاضة تبعاً لذلك، في حثّ هؤلاء على الفرار من واقعهم المأساوي، والبحث عن سبل للنجاة وسوانح بديلة للعيش، قبل فوات الأوان.

 

  • شاعر لبناني

 

 

Share

التصنيفات: ثقافــة

Share