Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

كتبت عن مشاعر المرأة بجرأة.. الموت يغيب أيقونة الشعر العراقي لميعة عباس عمارة

علي لفته سعيد

غيب الموت اليوم الجمعة الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة في الولايات المتحدة الأميركية عن عمر ناهز 92 عاما، بعد صراع مع المرض، تاركة إرثا ثقافيا كبيرا.

ونعت الرئاسة العراقية ونقاد وأدباء الشاعرة الراحلة، بوصفها أحد أعمدة الشعر المعاصر في العراق، ورائدة من رواد الشعر العربي الحديث.

وكتب الرئيس العراقي برهم صالح إن “الراحلة زرعت ذاكرتنا قصائد وإبداعًا أدبيا ومواقف وطنية، حيث شكّلت عمارة علامة فارقة في الثقافة العراقية، في العاميّة والفصحى”.

ونعى وزير الثقافة والسياحة والآثار العراقي حسن ناظم الشاعرة الراحلة، وقال إنها “تميزت بشاعريتها الشفافة، وعاطفتها الجياشة وحبها العظيم لوطنها وناسها، رغم ابتعادها القسري الطويل عن الوطن”.

كما نعى الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق الشاعرة القديرة لميعة عباس عمارة، وقال في بيان “وداعًا أيتها الصوت النابض بالحياة والإنسانية، ستظل قصائدك تطير بجناحين من ورد وندى.. فقدانك يمثّل حزنًا ضاربًا في أنساغ القلب، ودمعةً مؤلمة”.

الفواز: لميعة عباس عمارة كتبت قصيدة البوح كأنها تتمرد على المسكوت عنه

جيل مغامر

ولأنها كانت شاعرة جاءت وسط احتدامات التمرد الشعري والبحث عن شكل جديد للقصيدة العربية التي كانت تسيطر عليها قصيدة العمود، فإن هذه الولادة جعلتها في موضع التقدير.

ويقول الناقد العراقي علي حسن الفواز إن الراحلة “جزء من ذاكرة القصيدة الجديدة ومن هواجسها بالمغامرة والانفتاح على عوالم نزعت عنها الرتابة والمألوف الشعري، وكانت القصيدة المسكونة بالأنوثة تمثل وعيا جديدا مثلما تمثل انفتاحا كسرت معه الكثير من تقاليد الألفة والنمطية”.

ويضيف عن تلك الشعرية أنها كانت “إيذانا بنزوع البلاغة القديمة عن القصيدة”، بل ويذهب أكثر باتجاه أن قصيدتها كان فيها “تدفق الروح الشعبية وتمثيل لمجاورة شعرية كسرت كثيرا من المحرمات، حيث تحولت إلى فضاء تحتدم فيه يوميات التفاصيل والحميمية”.

ويؤكد أنها كانت تستدعي “الروح المندائية بوصفها هوية وطقوسا وعوالم خاصة، لنجد في قصيدتها الماء بوصفه الحياة والتطهير، ونجد القربان بوصفه القوة الخلاقة للجسد، وهو يدون طقوسه وأسفاره واعترافاته”.

وعن التأويل الداخلي لقصيدة الراحلة يقول الفواز إنها “كتبت قصيدة البوح كأنها تتمرد على المسكوت عنه مثلما كتبت قصيدة استدعاء الآخر الحبيب الثائر المتمرد، كأنها تبحث من خلاله عن هاجس آخر، ولتجاوز عقدة الهوية التي كانت تعني لها الكثير من الاغتراب والاستلاب”، ولأنها كانت مجايلة لجيل متمرد ومغامر تمثل في شعراء جيلها المغامر الأول”، أمثال السياب والبياتي ونازك الملائكة، لتجد نفسها وسط أسئلة أكثر صخبا، ووعيا أكثر انشدادا إلى مفاهيم الحرية والثورة والتمرد والبحث عن رؤى جديدة يمكن أن تتسع للإنسان الذي وجد نفسه أمام لغة جديدة، وأمام ورؤى وتحولات عصفت بالواقع مثلما عصفت بالقصيدة”.

قال عنها الرئيس العراقي برهم صالح إن “الراحلة زرعت ذاكرتنا قصائد وإبداعا أدبيا ومواقف وطنية، حيث شكّلت عمارة علامة فارقة في الثقافة العراقية، في العامية والفصحى”.

تكريس الصوت الأنثوي

وكتبت الشاعرة الراحلة الشعر منذ أن كانت في 12 من عمرها، وكانت ترسل قصائدها إلى الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي، الذي كان صديقًا لوالدها، ونشرت لها مجلة السمير أول قصيدة وهي في 14 من عمرها، وعززها إيليا أبو ماضي بنقد وتعليق مع احتلالها الصفحة الأولى من المجلة، إذ قال “إن كان في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة شعرية مقبل؟”

ويقول الناقد العراقي عبد علي حسن إن الشاعرة “تعد أحد الأعمدة التي قام عليها المشروع التحديثي في الشعر العربي في أربعينيات القرن الماضي، وإنها كانت قريبة من الشعراء الرواد، خاصة بدر شاكر السياب، الذي كان زميلًا لها في دار المعلمين العالية، وتربطه بها علاقة تجاوزت الإعجاب إلى المحبة”.

وأضاف أن تلك المرحلة كشفت عن ميل وتقبّل واستعداد للمساهمة في صياغة مشروع “قصيدة التفعيلة إلى جانب نازك الملائكة والسياب وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي، وهو أمر واضح منذ صدور ديوانها الأول “الزاوية الخالية” عام 1960.

ولفت إلى أنها “استطاعت أن تكرّس صوتها الأنثوي الخاص الذي يُعدُّ سابقة تتسم بالجرأة ووضوح الرؤية في المشهد الشعري العربي”، ويشير إلى أنها وبجرأتها تمكنت من “ولوج مناطق في مشاعر الأنثى لم يكن الدخول إليها أمرًا مألوفًا من قبل”. وعن قدرتها على صياغة مشاعر الأنثى ومخالفة التابوهات، يقول إنها “لم تكن تضع خطوطا حمراء أمام التعبير عن مشاعر المرأة المختلفة”.

ويرجع حسن سبب هذه الجرأة إلى “ديانتها الصابئية، كونها لم تقف حائلًا أمام تناول قضايا المرأة المختلفة، بما فيها الجانب العاطفي، كما حدث مع الشاعرات الأخريات”، ولفت إلى أن الشاعرة الراحلة كنت محبة للعراق الذي لم يغب عن شعرها، وأن لها “مواقف وطنية وتقدمية أثارت اهتمام النقاد، وحازت نصوصها على مقبولية مجتمعية، وحتى بعد هجرتها من العراق في سبعينيات القرن الماضي ظلَّ الهاجس الوطني والعاطفي يشكل قطبي تجربتها الشعرية، فقد كان العراق حاضرا في كل تفاصيل نشاطها المجتمعي والثقافي”.

ترف و”تبغدد”

ويقول الكاتب رياض العلي إن” لميعة تعد مؤسسة القصيدة الأنثوية العراقية، ومما يميزها هو عذوبة الإلقاء المحبب وسط إلقاء ذكوري باهت ومتشنج”، وتحدث عن المشهد الشعري العراقي من كونه لم يعرف شاعرات إلا في حالتين: “لميعة عباس عمارة ونازك الملائمة، وثمة فرق كبير بين الاثنتين”.

ويذهب العلي في توصيف حالة نازك إلى أنها “عانت من مشاكل نفسية كثيرة وتقلبات فكرية أثرت على شعرها وحياتها الشخصية، رغم انتمائها إلى طبقة برجوازية بغدادية”، ويذهب إلى حياة لميعة بوصفها “تنتمي إلى طائفة الصابئة المندائية، وتعود أصولها إلى مدينة العمارة الجنوبية الغارقة في لجة التاريخ والميثولوجيا الملهمة، التي أثرت كثيرًا على شخصيتها الشعرية، وتجسد هذا التأثير عندما حصلت على شهادة الدكتوراه في موضوع يخص تراث الصابئة المندائيين، وكذلك مقالاتها التي كانت تنشرها في مجلة التراث الشعبي عن اللغة المندائية”.

ولكنه يستدرك “رغم أصولها الجنوبية فإنها تبغددت بحكم ولادتها في بغداد، وبحكم طبيعتها الميالة إلى الترف والدلع البغدادي المميز”.

حياتها

وتعد لميعة عباس عمارة -المولودة في بغداد عام 1929- من أبرز الشاعرات العراقيات التي زاملت شعراء الحداثة الشعرية العراقية في دار المعلمين العالية ببغداد، مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وابن خالها عبد الرزاق عبد الواحد منتصف خمسينيات القرن الماضي.

وتوجت مسيرتها الحافلة بـ6 دواوين شعرية، هي: “الزاوية الخالية” عام 1960، و”عودة الربيع” عام 1963، و”أغانى عشتار” عام 1969، وكذلك “يسمونه الحب” عام 1972، و”لو أنبأني العراف” عام 1980، وأخيرا “البعد الأخير” عام 1988، فضلا عن عشرات المقالات والقصائد المنشورة والكتب النقدية التي تناولت تجربتها.

ولميعة ليست من اللواتي عانين كثيرا من شظف العيش، بل كان والدها زهرون عمارة صائغ ذهب وفضة، وكان معروفا كما هي حال كثير من المشتغلين بهذه المهنة من الديانة الصابئية.

واتسم شعر لميعة عباس عمارة بجرأة ورومانسية مرهفة، ولغة محكمة التراكيب والمفردات، فضلا عن عذوبة في الإلقاء، مما جعلها تحتل مكانة في خارطة الشعر العربي كإحدى أهم الشخصيات الشعرية النسوية.

هاجرت لميعة من العراق عام 1978، لترتحل بين الدول، وتقيم في النهاية بأميركا. وقبل هجرتها، كانت عضوا في هيئة الأدباء العراقيين، وكانت في الهيئة الإدارية مع الشاعر محمد مهدي الجواهري وبلند الحيدري وأسماء معروفة أخرى.

علاقتها بالسياب

وكانت لميعة في شبابها جميلة جدا، وكانت زميلة السياب بدار المعلمين العالية، ويقال إنها كانت من الفتيات اللواتي أحبهن في شبابه، وهو يذكرها بمواضع عدة في شعره؛ من أبرزها قصيدته التي عنوانها “أحبيني لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني”.

وعن ذلك تقول لميعة -في مقابلة صحفية- إنها والسياب كانا أصدقاء، تقرأ له ويقرأ لها، ويتناقشان في كل شيء، مشيرة إلى أنها أهدته الكثير من قصائدها في حياته وغيابه، وهو كتب إليها الكثير. وأشارت إلى أنها أهدته قصيدة ” شهرزاد” عندما كانا معا في الدراسة، وهي تقول:

“ستبقى ستبقى شفاهي ظِماءْ

ويبقى بعينيَّ هذا النداء

ولن يبرح الصدرَ هذا الحنين

ولن يُخرس اليأسُ كلَّ الرجاء”

 

وآخر ما أهدته قصيدة سمّتها “لعنة التميّز” في بداية التسعينيات، بعد أكثر من ربع قرن على رحيله، وقالت فيها:

“يوم أحببتك أغمضت عيوني

لم تكن تعرف ديني

فعرفنا وافترقنا دمعتين

عاشقا مُتَّ ولم تلمس الأربعين”

آخر قصائدها

ومن بين آخر ما كتبته الشاعرة لميعة عباس عمارة في مايو/أيار 2019، يوضح حالة الشعور بالحيرة والتذكر لحالة النضال:

“لماذا يحط المساء

‏حزينا على نظرتي الحائرة

‏وفي القرب أكثر من معجب

‏وأني لأكثر من قادرة؟

‏أنا طائر الحب

‏كيف اختصرت سمائي

‏بنظرتك الآسرة؟”

ومن قصائدها الأخيرة أيضا

“أنا بنتُ النضالِ

أرضعني الجوعُ

وأوهى مفاصلي الحرمانُ

خُضتُهُ غَضَّةً،

ففي كلّ فَجٍّ من حياتي

مجرى دَمٍ وسنانُ”.

 

 

 

Share

التصنيفات: ثقافــة

Share