Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

ذاتية المُتنبي في شعره

د.عبدالعزيز المقالح

لم يمتدح شاعرٌ عربيٌ نفسه كما أمتدح أبو الطيب المتنبي نفسه. وقد قيل إنه كان يشارك ممدوحيه في النصيب الأوفر من الإشارة إلى ذاته المتفوقة وقدرته على اجتراح المهم والعميق من القول. وكان من حقه، وقد توافر له هذا القدر من الإعجاز الشعري، أن يرتقي بهذه الذات إلى أعلى ما تستطيع الكلمات أن تصل إليه. وليس غريباً بعد ذلك أن يقول عن نفسه:

إن أكُن معجباً فعجبُ عجيبٍ

لا يرى فوق نفسه من مزيد

هذا هو المتنبي الذي كان يرى نفسه بلا ند ولا ضريب. لقد مدح الشعراء أنفسهم بأبيات محدودة أو بقصائد محددة، لكن المتنبي نشر نفسه على كل شعره، وأمدّه الخيال الخصب ليكون طرفاً مهماً في كل ما يكتبه من شعر عن الآخرين، أو عن الطبيعة ومفردات الأشياء. وما ديوانه، في أغلب قصائده، إلا عرف وترجيع على تطلعات النفس الكبيرة التي فاض إعجابها وتسامى إلى حد قوله:

تغرَّب لا مستعظماً غير نفسه

ولا قابلاً إلاَّ لخالقه حكما

يقولون لي مَا أنت في كل بلدةٍ

وما تبتغي؟ ما أبتغي جلَّ أن يُسمّى

ولست أدري لماذا نبحث عن بيت هنا وأبيات هناك والديوان في أغلب قصائده، كما سبقت الإشارة، انعكاس لهذا الشعور المتضخم بالذات والمتعالي على الممدوحين تعاليه على كل شيء يقف في وجه هذا الإعلاء المتصاعد للذات. وفي حال إعادة النظر إلى القصيدة التي عاتب فيها سيف الدولة قبل مفارقته له والفرار من حلب إلى مصر، في هذه القصيدة ومطلعها (وا حرَّ قلباه) لا نراه يذكر سيف الدولة إلا في المطلع، أما بقية القصيدة فهي إشادة بالذات وإعجابٌ بالنفس، ربما استوحى ذلك من شعرٍ على درجة عالية من الصفاء والإعجاب الكبير بذات الشاعر. ومن ذلك:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعتْ كلماتي من به صممُ

وفي كتابه (معجز أحمد) يشير صاحب الكتاب أبو العلاء المعري إلى أن المتنبي كأنما يشير إليه في هذا البيت. ولم يكن المعري وحده هو الذي تملكه حب المتنبي، بل شاركه كثيرٌ من الشعراء في هذا الإعجاب، ولم تؤثر أصوات الحاقدين فيه بالتقليل من أهميته وإثبات أنه شاعر لكل العصور، وهو ما كان وراء تلك الحملة التي ترددت حتى وصلت إلى عصرنا، وهي (شاغل الناس)، و ربما كان عصرنا أكثر العصور انشغالاً بهذا الشاعر وقصائده.

ولقد احتشد حول ديوانه المئات من المعجبين والخصوم. وكان طه حسين، وهو الناقد الأول والأبرز في عصرنا، قد أفرد للحديث عن المتنبي كتاباً كاملاً بعنوان (مع المتنبي) حمل فيه طه حسين حملات شعواء على هذا الشاعر شاغل الناس والحياة، ولم يعترف له سوى بالقليل مما يستحق من ثناء وإعجاب، وقد انشغل طه حسين في كتابه بالحديث عن عصر المتنبي وغموض انتمائه وكونه لم يشر إلى والده، وإنما أشار فقط إلى جدته. وكأن المتنبي كان معنياً بالتأصيل لعائلته والحديث عن آبائه وأجداده، وتلك مهمة لا علاقة لها بوظيفة الشعر ودور الشاعر. وقد قاد هذا التحامل غير الموضوعي إلى ردود فعل عاصفة لدى محبي هذا الشاعر الكبير. ويبدو أن طه حسين قد تمنى بعد أن تلقى تلك العاصفة النقدية أن لا يكون قد أصدر كتابه هذا بالطريقة والأسلوب اللذين ظهر بهما، فالتحامل والقسوة شديدة الوضوح ليس من صفات الناقد الموضوعي الحريص على أن تكون أحكامه، مهما كان حظها من القبول أو الرفض، مقبولة ومحل رضا معقول. ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن المتنبي، وهو يمتدح نفسه ويفضلها على كل ممدوحيه، لم يكن ينسى أنه يكتب شعراً، وشعراً بديعاً وخالداً؛ لذلك فقد جاءت تلك التعبيرات الذاتية على قدر كبير من الشعرية العالية التي تشد إليها مشاعر المفتونين بلغة الشاعر وما حملته من فن وإبداع:

وما الحياة ونفسي بعد ما علمت

أن الحياة كما لا تشتهي طَبَعُ

ليس الجمال لوجه صح مارنه

أنف العزيز بقطع العز يجتدعُ

أأطرح المجد عن كَتِفِي وأطلبه

وأترك الغيث في غمدي وأنتجعُ

والمشرفية لازالت مشرفة

دواء كل كريم أو هي الوجعُ

وفارس الخيل من خفت فَوَقَّرهَا

في الدرب والدم في أعطافها دفعُ

وأوحدته وما في قلبه قلق

وأغضبته وما في لفظه قذعُ

هكذا هو المتنبي في مدائحه ورثائه، وما أشعاره في كل الحالات التي تمر به أو تمر بالآخرين إلا تعبير عن هذا الموقف الذاتي، وهو لا يعترف كما قال في قصائد أخرى سوى بالسيف والوقوف في وجه الجبابرة مثلما في قصيدته الرائعة المشهورة:

أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر

وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبرُ

ولا تحسبن المجد زقاً وقينةً

فما المجد إلا السيف والفتكة البكرُ

وتضريب أعناق الملوك وهامها

لك الهبوات السود والعسكر المَجرُ

وهذا المعنى لا يختلف كثيراً عما جاء في قصيدة أخرى يمتدح فيها سيف الدولة بالظاهر، بينما يمتدح فيها ذاته بما لم يسبق لشاعر أن امتدح نفسه بمثلها. ومن خلال الإشارات السابقة والاقتباسات الشعرية المرافقة، يتبين لنا هدف هذه القراءة والتتبع العابر لما أسفرت عنه القصائد عن ذاته المتضخمة في حب الذات وحب النفس لا مثيل له عند شاعر آخر غير المتنبي وإعلائه المبالغ فيه لمزاياه الشخصية. ولعل الموضوع يحتاج إلى دراسة شاملة تستوعب هذا المنحى في شعر أبي الطيب المتنبي، ولا مبالغة أن نقول إنه المنحى الأبرز والأظهر من مناحي هذا الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

ويرى بعض النقاد المعاصرين أن أبا الطيب أنصف نفسه بالمدائح الخاصة، أو بتلك التي تأتي من خلال امتداحه للآخرين، فما أكثر الشعراء الذين يواجهون بالنكران والإهمال ولا يجدون إنصافاً، ولهذا فلم يكن هذا الشاعر مُبالغاً في قوله:

سيعلم الجُمع ممن ضَمَّ مجلسُنا

بأنني خير من تسعى به قدمُ

وقوله:

إذا ترحَّلتَ عن قومٍ وقد قدروا

أن لا تفارقهم فالراحلون همُ

وقوله:

ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي

أنا الثريا وذان الشيبُ والهرمُ

هكذا أنصف أبو الطيب نفسه وتولى الرد على الواقع غير المنصف، وبالمناسبة فإنني، وهذا رأيي الشخصي، أنكر أن يكون المتنبي هو صاحب القصيدة البائية التي تهجو (آل ضبة) لأنها بعيدة جداً عن أسلوبه وطريقة تفكيره، ولا أشك أنها من مكائد الخصوم الذين كانوا سبباً في مصرعه.

 

Share

التصنيفات: ثقافــة

Share