Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

التحديات الداخلية في طريق الاستقلال الوطني 30 نوفمبر

صنعاء- سبأ: أنس القاضي

واجهت ثورة 14 أكتوبر وتجربة الاستقلال بقيادة “الجبهة القومية” تحديات كبيرة، منها تحدي الشريك الوطني، حيث تشكلت منظمة انتهازية “منظمة التحرير” سعت لحصد ثمار الثورة، وخلقت صراعات في صف الثورة استفاد منها العدو البريطاني وكانت الثورة تخسر كل المكتسبات الثورية في أحداث شهر نوفمبر الشهر الذي تحقق فيه الاستقلال الوطني 1967م.

تحدي الشريك الثوري التي واجهته ثورة 14 أكتوبر واجهته أيضاً ثورة 21 سبتمبر، عندما أدعى رئيس الجمهورية السابق “علي صالح” العميل أنه بات وطنياً وله موقف ضد العدوان، فيما اثبت الواقع أن ضباط القوات العسكرية المواليين له سلموا المواقع العسكرية لتحالف العدوان، وما سمي بمعسكر “الملصي” كان من أجل الحرب على الشعب، ليفجر صالح الوضع في العاصمة صنعاء في مؤامرة ديسمبر 2017م كما فجرت منظمة التحرير الحرب في العاصمة عدن في شهر نوفمبر 1967م.

تم إنشاء ما سميت “منظمة التحرير” سنة 1965 وذلك بسبب رغبة قادة “حزب الشعب الاشتراكي” الذي كان مرتبطاً بحزب العمال البريطاني في إنقاذ الجامعة النقابية (المؤتمر العمالي العدني)، فالنشاط السياسي للجبهة القومية وللاتحاد الشعب الديمقراطي في صفوف المؤتمر العمالي نجح في كسب موقف ست نقابات من أقوى نقابات المنطقة إلى جانبها، وبات المؤتمر بدون وزن بعد خسارة هذه النقابات الثورية الفاعلة.

برزت “منظمة التحرير” باعتبارها كياناً سياسياً ممثلاً عن مصالح السلاطين والأحزاب العميلة التي كانت شريكة في الحكم إبان الاستعمار، أي القوى المرتبطة بالبريطاني والتي لها مصلحة من استمرار النفوذ الاستعماري البريطاني وإن كان لها في بعض الأحيان موقف حقيقي رافض للجود العسكري الاستعماري، إلا أنها في نهاية المطاف ليست مع تحقيق الاستقلال الوطني الناجز وترى في ذلك خسارة لها.

دخل في هذه المنظمة “رابطة أبناء الجنوب العربي” بزعامة الجفري و”حزب الشعب الاشتراكي” بزعامة الأصنج وعدد من السلاطين المستقلين، وكان تشكيل هذه المنظمة متزامناً مع صعود نضال الجبهة القومية وبدء ضعف الهيمنة البريطانية، وخاصة إفلاس مناوراتها السياسية في تسليم السلطة للعملاء، فيما عُرف بالمؤتمر الدستوري الذي عقد في لندن عام 1964م ومحاولة الإصلاحات الدستورية عام 1965م.

كان تشكيل منظمة التحرير في ذاته مناورة سياسية من قبل القوى المضادة للثورة، إلا أن المؤامرة الأخطر كانت من قبل الاستخبارات المصرية بالدفع نحو دمج الجبهة القومية (الثورية) بمنظمة التحرير (الانتهازية) وقد مثل هذا الأمر تحدياً كبيراً وبات عاملاً مؤثراً على المستقبل السياسي للجنوب اليمني حتى مرحلة ما بعد الاستقلال.

مؤامرة الاندماج

في 1966 م أثناء مناقشة قضية الجنوب المحتل في القاهرة بحضور قحطان الشعبي أمين عام الجهة القومية، وسيف الضالعي وفد (الجبهة القومية)، وعبد القوي مكاوي، وخليفة عبد الله خليفة وفد (حكومة عدن المُقالة)، ووفد (منظمة التحرير) اقترحت مصر أن يتولى رئاسة الوفد عبد القوي مكاوي ولكن قحطان الشعبي ظل مصراً على أن تكون رئاسة الوفد الجبهة القومية للتحرير باعتبارها هي التي تقود الثورة المسلحة، حيث رأت مصر أن الأمم المتحدة هي ساحة سياسية، وليست ميدان قتال وأن عبد القوي مكاوي واجهة سياسية مقبولة لدى الرأي العام الدولي ولكن قحطان الشعبي رفض ذلك.

لذلك فكرت مصر في إيجاد تنظيم جديد على أمل أن يحل محل (الجبهة القومية)، فراحت تخطط لذلك وقامت بإقناع بعض القياديين في الجبهة القومية بالموافقة على الاندماج مع (منظمة التحرير) في إطار جديد “جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل” التي جاء قيامها حصيلة محادثات جرت في تعز بين علي احمد ناصر السلامي كممثل للجبهة القومية وبين عبد الله الأصنج كممثل عن (منظمة التحرير)، وتولى الجهاز الاستخباراتي العربي(بقيادة مصر) رعاية تلك المحادثات التي دارت بصورة سرية دون علم، أو مشاركة معظم قادة (الجبهة القومية)، وفي الساعة الثامنة من مساء يوم 13 يناير عام 1966 م قامت (إذاعة تعز) بقراءة بيان ينص على أن الجبهة القومية ومنظمة التحرير قد اتفقتا على الاندماج معاً في تنظيم واحد تقرر أن يطلق عليه اسم (جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل)، وكان البيان يحمل توقيعي الأصنج والسلامي.

فأثار البيان ردود أفعال غاضبة في صفوف غالبية قادة (الجبهة القومية)، وتشكيلاتها المختلفة التي فوجئت بالأمر، واعتبرته قسرياً وغير شرعي وتم بضغوط من مصر، وكان قد وجاء قبول بعض أعضاء الجبهة القومية بالاتحاد مع منظمة التحرير، بعد أن انسحب السلاطين ورابطة الجنوب العربي، القوى الأكثر رجعية.

كانت الخلافات تدور حول السياسة التي ينبغي نهجها لطرد المحتل وبعد طرد المحتل لكل هذه الأسباب فسخ التحالف الذي جرى في 13 يناير 1966 في ديسمبر من السنة ذاتها، استعادت الجبهة القومية للتحرير حرية عملها وكثفت نشاطها العسكري في مناطق البلد الداخلية والمراكز الحضرية، وفي نفس الوقت قوت ووطدت أوضاعها في الجيش والشرطة والنقابات وفي صفوف المثقفين الشبان، وازداد تأصلها في الأرياف. ومع تبني هذا الخط القاسي عرفت الحركة الثورية تحولاً حاسماً.

أما جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل فقد أناطت نفسها بقيادة عسكرية مستقلة المنظمة الشعبية عهد إليها برعاية النضال المسلح، وبمكتب سياسي يقع العمل السياسي على عاتقه، وقد ضاعفت مجهودها على الصعيد الداخلي وبذلت نشاطاً دبلوماسياً واسع النطاق في الخارج وبالأخص في هيئة الأمم المتحدة.

أدرك الماركسيون اليمنيون سلبية قيام جبهة تحرير الجنوب اليمنى المحتل، وكتب القائد الوطني عبد الله باذيب بأنه عندما شعر ممثلوا الأحزاب السياسية التقليدية والسلطان أحمد وقاداتها بالعزلة التي تهددهم باشروا بإنشاء جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل والذي دخل فيها حزب الشعب الاشتراكي ورابطة أبناء الجنوب العربي بن عبد الله الفضلي والأمير جعبل بن حسين ولقد كان الهدف من قيام الجبهة هو تفويض ونسف نفوذ الجبهة القومية كما لقيت هذه الجبهة الدعم والتأييد من قبل عدد من الأوساط ضمن حكومة اليمن الشمالية، وغيرها من الأوساط في البلدان العربية الذين لم يكونوا من أنصار النضال المسلح في الجنوب اليمني.

ويمكن تقييم اندماج الجبهة القومية مع جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل المعلن عنه في ١٣ يناير ١٩٦٦م كمؤامرة موجهة ضد الجبهة القومية الأمر الذي لم يلقى الدعم من قبل الغالبية العظمى سواء على مستوى القيادة أو القاعدة، وفي أغسطس ١٩٦٦م أدانت غالبية أعضاء الجبهة القومية هذه العملية.

محطة “المجلس الوطني”

في الأول من يونيو ١٩٦٦م جرت في عدن ومدينة الشيخ عثمان القريبة من عدن مسيرة واسعة ضد محاولة قادة جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل خاصة، بإنشاء ما يسمى بالمجلس الوطني للجبهة بدون مشاركة ممثلي الجبهة القومية فيه، والمجلس الوطني كان سيمثل القيادة الفعلية للجبهة الجديدة، وفي 1 يونيو من ذات العام وقع ما يقرب من مائة معتقل سياسي في سجن المنصورة بياناً أدانوا فيه نشاط جبهة التحرير الموجه ضد الجبهة القومية.

وأكد البيان على أن الجبهة القومية هي المنظمة الوحيدة في عدن وجميع إمارات الجنوب اليمني والتي أخذت على عاتقها خوض النضال المسلح فى مختلف مناطق الجنوب اليمني والمعبرة الوحيدة عن مصالح الشعب والمناضلة بحزم من أجل تحرير البلاد من نير المستعمرين الإنجليز هي الجبهة القومية.

تداعيات الاندماج القسري

أعقبت عملية الدمج القسري للجبهة القومية في إطار جبهة التحرير التطورات التي قادت إلى بروز تحركات تفصح عن انتعاش جديد للقوى السياسية التقليدية والموالية للاستعمار البريطاني، حين نقل المندوب البريطاني في الأمم المتحدة رسالة بتاريخ ٢٥ / فبراير ١٩٦٦م إلى سكرتير عام الأمم المتحدة مذيلة باسم وتوقيع ما كان يسمى حينها بوزير خارجية الاتحاد الفيدرالي تتضمن الترحيب بعودة اللجنة الدستورية البريطانية التي رفضتها القوى الوطنية في المرة السابقة(1965م)، وفي نفس الشهر عين المندوب السامي البريطاني مجموعة من عملائه من مدينة عدن أعضاء في المجلس الاتحادي لشغر المقاعد المخصصة لمدينة عدن.

وتلا ذلك محاولات تأجيج الصراع بين جبهة التحرير والجبهة القومية من خلال الاستهداف المقصود لعناصر قيادية من الجبهتين حين تم تدبير عملية الاغتيال للقيادي النقابي البارز علي حسين القاضي / في ٢٤/ فبراير ١٩٦٦ م وهي العملية التي كادت أن تفجر حرباً أهلية باغتيال النقابي البارز عبدالله عبد المجيد السلفي، لولا حكمة القيادات الوطنية التي تنبهت لدسائس الاستعمار وعملائه من السلاطين والذين شكلوا فرقاً عسكرية خاصة للاغتيالات وتأجيج الفتنة في الأوساط الوطنية، خاصة وأن المندوب السامي بعد هذه الاغتيالات أقدم في شهر مارس من نفس العام ١٩٦٦م على إصدار مراسيم داخلية تقضي برفع الحظر عن عودة بقية السياسيين والسلاطين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم منفيين في الخارج.

فك الارتباط

في ۱۰ أكتوبر ١٩٦٦م وبمناسبة السنة الثالثة بداية الانتفاضة المسلحة قادت المنظمات القاعدية للجبهة القومية مسيرات شعبية جماهيرية طالب المشتركون فيها بالانفصال الرسمي عن جبهة تحرير جنوب اليمني المحتل. وأصبحت مرحلة الشك والتخوف على مستقبل النضال المسلح ويعتبر هذا اليوم هو تاريخ انفصال الجبهة القومية عن جبهة التحرير. وقد أكد هذا الانفصال رسمياً من خلال المؤتمر الثالث للجبهة القومية الذي أنعقد في مدينة خمر اليمنية الشمالية في نوفمبر عام ١٩٦٦م، وقد قيم المؤتمر قيام جبهة تحرير الجنوب اليمني كحركة انقلابية مضرة بالثورة.

إن الانفصال عن جبهة التحرير المرتبط بها بعض الأوساط المصرية واليمنية الشمالية أدى إلى فقدان الجبهة القومية لمصدر تقليدي لتزويدها بالأسلحة وواصلت جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل نشاطاتها مستفيدة من الدعم المحدود لها سواء من داخل البلاد أو من خارجها، وفي مثل هذه الظروف توجب على الجبهة القومية توحيد جميع القوى لكى تستطيع الوقوف على رجليها ولتعزيز مواقعها في مختلف أوساط فئات السكان .

لقد شكل المؤتمر الثالث للجبهة القومية مرحلة حاسمة في تطور الثورة في الجنوب، بيد أن سير الأحداث في صيف وخريف عام ١٩٦٧م غيرت جميع الخطط سواء خطط الأوساط الإنجليزية الحاكمة أو خطط قادة “جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل” إذ أن نجاحات الجبهة القومية خلال النضال المسلح برهنت على أن الجبهة القومية هي المثل الوحيد للشعب في الجنوب اليمني المهيئة لاستلام السلطة .

وفي المرحلة الأخيرة من النضال من أجل الاستقلال انفجرت الصدامات المسلحة في عدن بين جبهة التحرير والجبهة القومية بدفع من جبهة التحرير، واختارت العناصر القيادية لجبهة التحرير مدينة عدن مسرحاً للصراع لإنهم أرادوا أن يجعلوا من عدن نقطة ارتكاز مناهضة للريف حيث كان نفوذ الجبهة القومية أمراً غير مشكوك فيه، إن أول صدام بعد اتخاذ قرار وقف إطلاق النار حدث في يونيو، عام ١٩٦٧م اذ أن جبهة التحرير رفضت تنفيذ القرار واستمرت تدفع وتغذي الصدام المسلح، وفي ذات الوقت عملت قيادة الجبهة على قطع طريق المحادثات التي بدأت في القاهرة بين ممثلي كلا المنظمتين، ووقعت الصدامات المسلحة التالية في سبتمبر في لحج والعقربي والشيخ عثمان.

المواجهات

كانت القيادة الجديدة للجبهة القومية تحرص كل الحرص على ألا تعزز التطورات الإيجابية والتصعيد النضالي ضد الاستعمار عن المجرى الصحيح للثورة وكانت كل ما تتمناه هذه القيادة إذا لم تسمح الفترة المتبقية حتى جلاء الاستعمار بقيام تلاحم وطني واسع يعزز من إرادة المواجهة وانتزاع الاستقلال، فعلى الأقل ألا ينقطع الحوار بين جبهة التحرير والجبهة القومية، بل ويزداد الحرص على استمرار الحوار والتعايش بين الجبهتين من أجل تحاشي دسائس الاستعمار وعملائه في تغذية الخلافات.

كان المندوب السامي البريطاني وسلاطين الاتحاد يراهنون على توسيع دائرة الاقتتال الأهلي بين الجبهتين الذي سيؤدي من وجهة نظرهم إلى خلق حالة من التذمر في الوسط الشعبي يقود إلى تفتيت المد الجماهيري الملتف حول الثورة وقيادتها.

والهدف البريطاني كان واضحاً وهو استغلال ظروف الصراع والتنافس بين الجبهتين وانشغال الدوائر المصرية بهذا الصراع، خاصة وأن الجبهتين دخلتا إلى ميدان المعركة مع الاستعمار والتوتر والقلق كانا باديان على كل واحد من أعضاء الجبهتين قيادة وقواعد بسبب التعبئة المشحونة بالعداء والأحقاد التي يغذيها الجهاز العربي والمخابرات المصرية، وإصراره على تغليب نوازع الانتقام ضد الجبهة القومية بدافع إذابة الممانعة الديها وكسر تمردها، كل ذلك فتح شهية الساسة البريطانيين والسلاطين بين وحولهم من الأحزاب والشخصيات العميلة لاقتحام موائد المفاوضات والمنتديات الدولية بما في ذلك استخدام الأمم المتحدة وبعثتها الخاصة والتظاهر بقبول قرارات الأمم المتحدة.

كما استغل الاستعمار البريطاني ظروف الصراعات وتفتت العمل الوطني كأسلوب آخر لتحقيق سياسية وهو دس عناصرها ومجاميعها السياسية داخل العمل الوطني لاستغلال الثغرات وتقمص رداء الثورة واحتلال مواقعها الأساسية أو الثانوية في الجبهتين ودفعت بعناصرها للتسلل إلى مواقع متقدمة يمكنها من الداخل لإذكاء الخلافات والصراعات التي تحرك نوازع الاصطدام والمواجهات الفنية بين الجبهتين التحرير والقومية.

كانت بعض قيادات جبهة التحرير التي التحقت في إستراتيجية الثورة المسلحة قد اعتمدت عند بداية تسلمها القيادة في جبهة التحرير أن تسلك قنوات الاتصالات الخفية مع بعض زعماء حكومة الاتحاد العميلة وبعض القوى السياسية التقليدية التي كانت تسير على نهج المفاوضات السياسية مع الحكومة البريطانية، حين بدأ يتأكد لهذه الأطراف التقليدية أن جبهة التحرير بدأت إعلامياً تؤكد على أنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب في الجنوب، وعلى بريطانيا أن تعترف بهذا الوضع وتقوم بالتفاوض مع الجهة الممثلة للشعب على هذا الأساس، وقد تعزز موقف جبهة التحرير أمام حكومة اتحاد الجنوب العربي والقوى السياسية الموالية لها عندما أثبتت جبهة التحرير أن صوتها هو المسموع من على أجهزة الإعلام الرسمية في القاهرة، وصنعاء، وتعز، وإن دعم القاهرة السياسي والإعلامي يذهب مع جبهة التحرير.

ففي ابريل 1967م وفي معرض رده على أحد الأسئلة حول شروط جبهة التحرير قال عبد القوي مكاوي “هناك طرفان لا ثالث لهما هما بريطانيا بوصفها السلطة الحاكمة، وجبهة التحرير الممثلة الشرعية الوحيدة للشعب في المنطقة، وهي المسيطرة على الموقف، وأن الشعب يلتف حولها، وعلى ذلك فليس أمام بريطانيا إلا أن تعترف بجبهة التحرير، وتجري مفاوضات مباشرة معها وحدها لبحث وسائل تنفيذ قرارات الأمم المتحدة”.

ومع صعود الجبهة القومية اضطرت بريطانيا إلى إيقاف المحاكمات ضد المعتقلين السياسيين بالإضافة إلى موافقة بريطانيا على رفع الحظر عن الجبهة القومية التي سبق أن تعاملت معها على أنها منظمة إرهابية محظور الانتماء إليها أو التعامل معها دون أن يشمل جبهة التحرير التي لم تكن محظورة، وقد أعلنت بريطانيا أن الباب لا يزال مفتوحاً أمام الجبهة القومية وجبهة التحرير للإسهام في الحكومة ذات التمثيل العريض وقبول المساعدات المالية المعروضة، ولهم أن يرفضوا المقترحات الخاصة بالدفاع، إذا لم يوافقوا عليها.

كانت بريطانيا وهي تضع مثل هذه المتقرحات تراهن على الانقسام بين الجبهتين مع الاعتماد على جيش الاتحاد الذي ربما – من وجهة النظر البريطانية – سوف يمرر ترتيباتها السياسية في وضع النظام البديل الذي يحل محلها عند انسحابها من المنطقة كلها، وكان همها تغطية الفراغ العسكري الذي ستتركه القوات البريطانية، وأن يكون البديل قوة عسكرية ضاربة تحل محل القوات البريطانية، وكبيرة في العدد والعدة حتى تتمكن من التصدي بقوة للتحركات الشعبية والجبهات الوطنية التي تقود النضال المسلح في المنطقة.

عدن ساحة المعركة

كانت بوادر العلاقة بين الجبهة القومية وجبهة التحرير بدأت تشير بوضوح إلى التدهور المؤدي إلى المواجهات العسكرية، وبدأت منشورات جبهة التحرير بعض أعضائها تحذر من تصرفات استفزازية باشرتها الجبهة القومية باختطاف وكثفت الجبهة القومية من إنزال بياناتها التي تنفي فيها هذا الادعاء، وترى فيها الادعاء من قبل جبهة التحرير تصرف يوحي باللجوء إلى مغامرات طائشة كمحاولة أخيرة منها لإثبات وجودها في بعض أحياء مدينة عدن، والتمسك بخيط لدى بعض الأطراف العربية، ولجنة الأمم المتحدة، للمحافظة على شعارها الذي يؤكد أنها الممثلة الشرعية الوحيدة لشعب المنطقة.

تزامن مع هذه التطورات المنذرة بمواجهة عسكرية بين التحرير والقومية دخول القائد السياسي لجبهة التحرير عبد الله الأصنح إلى مدينة عدن كي يخوض المواجهة السكرية مع الجبهة القومية في أحياء المنصورة والشيخ عثمان ودار سعد في حين كانت المفاوضات جارية بين الجبهتين في القاهرة ولم يشأ عبد الله الأصنج أن يحضر للمشاركة هذه المفاوضات، بل فضل الدخول إلى ميدان المواجهة لكي يخلق التوازن الذي يحافظ على الادعاء بتفوق جبهة التحرير وانفرادها وعلى ما تبقى من شروط يراد فرضها في المفاوضات القائمة بين الطرفين، وقد تزامن مع هذا مع دخول مجاميع من جيش التحرير التابع لجبهة التحرير من أراضي الشمال بقيادة علي السلامي إلى منطقة كرش في الأسبوع الأول من شهر ١٩٦٧م والتي تقع في الأراضي الجنوبية.

خطورة تداعيات الصراعات بين الجبهتين وفق قيمته الجبهة القومية هو أن الحكومة البريطانية بعد أن فشلت في إقامة حكم ائتلافي بقاعدة واسعة يجمع كل الأطراف بما فيها الأطراف الموالية للاستعمار، سوف تلجأ إلى استغلال تمزق الحركة الوطنية وحالة اليأس لدى البعض منها.

ربما تدفع بتصعيد حالة الاقتتال لزرع المخاوف وتوسيع حالة التذمر في أوساط الشعب، وتأجيج هذه الحالات إلى درجة حادة وغير متوقعة حتى توصل إلى البرهنة محلياً ودولياً على أن الأمر لم يعد بيد أي طرف من الأطراف، كخطوة تمهد لفرض خيار التواجد الفعال لقوات طوارئ دولية في أراضي الجنوب اليمني المحتل تقوم بدور المحافظة على الأمن الداخلي وتهيئة الأجواء لترتيبات سياسية في إطار الحماية الدولية تبعد الثورة عن أهدافها، وتعرقل أي تحرك لأدواتها عن السير نحو الحرية والاستقلال الناجز للشعب.

وفي هذه الأجواء من التوتر الذي ساد المنطقة جراء محاولات الاستفزاز المتبادل بين الجبهتين، حدثت تطورات في منطقة “المسيمير” أدت إلى أن تتمكن طلائع الجبهة، وكانت عناصر من القيادة العامة تشرف وتنظم العملية وكان من بين الحضور فيصل عبد اللطيف ومحمد البيشي وأثناء عودتهما مع المرافقين من طلائع الجبهة القومية نصب لهم كمينا عسكريا من قبل مجموعة مسلحة تابعة للسلطان تدعي انتمائها إلى جبهة التحرير، وكاد الأمر أن يصل إلى صدام دموي يسحب نفسه على أرض الجنوب كلها، لولا أن رجال الجبهة القومية – كما يشير بيان الجبهة القومية – تصرفوا بحكمة وتعقل درء المخاطر الحرب الأهلية، وافشالا لعملية الغدر والخيانة التي تكررت مع عناصر قيادية في مدينة عدن وآخرها في المسيمير.

وعند وصول الجميع إلى مقر الجهاز العربي في تعز احتجز ضباط الجهاز قادة الجبهة القومية وباشروا ممارسة التهديد والضغوط على فيصل عبد اللطيف، ولم يطلقوا سراحه مع زميله القيادي محمد البيشي وبقية رفاقهما، وأرسلوهما إلى القاهرة.

عودة المواجهات بين الجبهتين

بالرغم من هزيمة ٦٧م وما عكسته من آثار سلبية ومؤثرة على مجرى الأحداث إلا إن من إيجابية الهزيمة أنها كشفت هوية المتآمرين داخل الأجهزة الاستخباراتية في مصر وذلك باعتقال زعيمها ” صلاح نصر” رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية بين أعوام 1957 – 1967 وتفكيك قيادة الجيش التي تسببت في صنع الهزيمة أمام الجيش الإسرائيلي.

افضت هذه التطورات لانتزاع عن جبهة التحرير الجدار الذي تتكئ عليه يفعل الدعم الكبير والقوي الذي كانت تعتمد عليه من الجهاز العربي في تعز والقاهرة.. ثم كان تحرك بعض قيادات جبهة التحرير نحو الداخل لتثبيت حضورها ليس من خلال تمييع الصراع بينها وبين الجبهة القومية، ولكن باللجوء إلى تصعيد التوتر وتفجير المواجهات العسكرية بين وساط الفئات الاجتماعية ثم لجوء جبهة التحرير إلى استخدام نفونها بتهديد الصحف المحلية التي تنشر أخبار الجبهة القومية بل والتمادي إلى حد إحراق الصحيفتين الرئيسيتين اللتين تعتمد عليهما الجبهة القومية وهما صحيفتا الأمل والمصير.

بعد أن استولت الجبهة القومية على المناطق في الجنوب، وحين شعرت جبهة التحرير أنها تفقد مواقعها وسمعتها في الداخل وهي التي تدعي أنها الممثلة الوحيدة للشعب وادعت الجبهة القومية أن عناصر جبهة التحرير أقدمت على مهاجمة قوات الجبهة القومية في بعض أحياء عدن واستهدفت بالاغتيال بعض شبابها القياديين في هذه الأحياء، ثم اتجهت نحو الاقتتال في ضواحي عدن خوفا من أن تتفرد الجبهة القومية باستلام السلطة دون إشراك جبهة التحرير معها بلا هذه الترتيبات، وهو الأمر الذي جعل المندوب السامي البريطاني يصرح بأن الاقتتال بين الجبهتين هو صراع حول السلطة وليس ضد القوات البريطانية.

وعلى إثر الجولة من المواجهات بين جبهة التحرير والجبهة القومية حرصت الجبهة القومية على إحكام السيطرة على الأوضاع داخليا وعززت من يقظتها في عدم السماح لتحرك مضاد يستغل الظروف الانتقالية لتهديد أمن المواطنين وسلامة أرواحهم، وفي سبيل ذلك ومن كونها السلطة الشعبية القائمة أصدرت الجبهة القومية قراراتها بحظر حمل السلاح إلا على أفراد الحرس الشعبي بصفتهم المدافعين عن مصالح المواطنين ومكاسب الثورة، وخولت لكافة القيادات العسكرية سلطة اعتقال أي شخص يوجد بحوزته أي نوع من أنواع الأسلحة، وقد شكلت الجبهة القومية لجاناً شعبية مختلفة لضمان عودة الأمور إلى طبيعتها.

الجبهة القومية تحسم الموقف

قيادة جبهة التحرير كانت تسير في اتجاهين متناقضين تماما رفعت شعار الوحدة الوطنية ووافقت على مواصلة الحوار في هذا الاتجاه في الوقت الذي كانت فيه تقوم بتكديس الأسلحة وخزنها في بيوت بعض المواطنين المواليين لها وتحويل هذه المنازل إلى ثكنات وترسانات مدججة بالسلاح ثم بدأت تستفز المواطنين وترهبهم بقوة السلاح لإخضاعهم لأوامرها ووصايتها…بل وباشرت اعتقال البعض من المواطنين، ولما لم تجد الاستجابة في المواجهة العسكرية معها لجأت هذه العناصر إلى استفزاز واعتقال أعضاء الجبهة القومية، ثم انتهت إلى مهاجمة الأماكن التي يتواجد أو يتجمع فيها أعضاء الجبهة القومية، ولم يكن حادث إلقاء القنبلة على أعضاء الجبهة القومية إلا بداية للمخطط الذي يهدف إلى الاصطدام المباشر مع الجبهة القومية والدخول معها في معركة اقتتال لانهاية لها، ولذلك تنبهت الجبهة القومية لخطورة المخطط التخريبي فبادرت إلى حسم الموقف قبل أن يباشر المخربون بتوسيع نطاق الاقتتال والتخريب المدمر، واستطاعت إحباط المؤامرة، وحين وجدت بريطانيا أن كل الجنوب اليمني بات تحت سيطرة الجبهة القومية، اضطرت إلى التفاوض معها على الاستقلال.

المراجع:

راشد محمد ثابت، “ثورة 14 أكتوبر اليمنية من الانطلاقة حتى الاستقلال”،(التوجيه المعنوي، صنعاء 2007)
مجموعة مؤلفين سوفيت “تاريخ اليمن المعاصر”، (1991م مكتبة مدبلولي القاهرة)
أحمد عطية المصري، “النجم الأحمر فوق اليمن”، (مؤسسة الأبحاث العربية، ط2، 1986م)
عادل رضا، “ثورة الجنوب تجربة نضال وقضايا المستقبل”، ( دار المعارف القاهرة، 1969م)

Share

التصنيفات: أخبار وتقارير,الشارع السياسي,عاجل

Share