Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

ابن بطوطة العراقيّ في رحلته الأوروبية

فاضل عبود التميمي*

عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2022 صدر للأديب العراقي متعدّد الاهتمامات سعدون شفيق سعيد؛ المعلم والصحافي والفنان والمصور الفوتوغرافي والشاعر والرحّال كتابه الجديد «ابن بطوطة العراقي في مجاهل أوروبا» بعنوان مواز: (رحلة عائليّة بالسيارة الخاصّة: صيف 1976) أوجز فيه طبيعة الرحلة، وحدّد زمن قيامها، فقد قطع الرحّالة في رحلة أوروبا، مع زوجته، وطفله وسام وطفلته أنسام المسافة الممتدة من مدينته (بَعْقُوبَة) شمال بغداد (60) كم إلى أوروبا، ثم الرجوع إلى نقطة البدء بسيارته الخاصّة نوع (بولسكي) صناعة بولندا.
والرحلة التي تقف عندها هذه المقالة نصٌ جامع للوقائع والفعّاليات والحوارات، والحوادث والإشكالات، والانشغالات الزمانيّة والمكانيّة، والمقاصد التي عاشها الرحّال سعدون شفيق وهو يديم الصلة مع الأماكن عن طريق المشاهدة، ثمّ التدوين الذي أسهم في إعادة إنتاج الذاكرة لنصّ مكانيّ قابل للتلقي والتأويل.
نقف أولا عند عنوان الكتاب «ابن بطوطة العراقي في مجاهل أوروبا» فهو مفتاح الدخول إلى متن الرحلة الذي يحيل على محاكاة الرحّال العراقي لما فعل الرحّالة المغربي ابن بطوطة (ت1378) في رحلته الشهيرة، تاركا الموازنة للمتلقي وهو يفاضل بين الرحلتين، فقد اندفع الرحّال الجديد نحو الغرب، غير آبه بأيّ شيء سوى ما أغوته نفسه الأمارة بالسفر والترحال، بالضد ممّا فعله ابن بطوطة الذي اتّجه نحو الشرق، وبعض بلدان افريقيا، وبلاد فارس، والهند والصين، ولقارئ الرحلة أن يسأل وهو يتلقى العنوان الرئيس: ما دلالة مجاهل أوروبا؟ وهل لأوروبا مجاهل؟ لا أظن لتلك القارّة العجوز مجاهل، كما هي مجاهل افريقيا مثلا، إنّما أراد الرحّال أن يؤكّد أن الرحلة في مقصديتها الكبرى كانت إغناء لجهله هو في جغرافيّة أوروبا، وعلاقاتها الاجتماعية، والتاريخية، وهذا ما سيظهر واضحا في سرده الرحلي الذي اقتفى تلك النواحي.
رأى الرحّال أن أدب الرحلة يُكتب عن وجود إنسان في أرض ما، وهو ليس متعة مجرّدة من حدودها الثقافية والنفسية، فضلا عن أنّه أدب يكتب ليس للقراءة حسب، إنّما هو عمل فنيّ، وأدبيّ يعالج قضية ما في مكان ما، وقد اختار الرحّال لرحلته وصفا كرّره في المتن كثيرا (رحلة العمر) في إحالة على أهميتها، وعدم تكرارها، مضمّنا إياها رؤاه، وتصوراته، وموقفه من مسائل ثقافيّة مختلفة من خلال لغة سرد منبهر بالمكان، يشوبها إحساس مؤدّاه أنّ ما فعله في تلك الممارسة الحياتيّة إنّما كان استعارة وتشبيها لما فعله ابن بطوطة الأول في الماضي.
ابتدأت رحلة (ابن بطوطة العراقي) في صبيحة يوم باكر من شهر تموز/يوليو 1976، كانت في البدء تتّجه نحو المجهول، ثم وجد الرحّال وأسرته أنفسهم في قارة أوروبا، ولم يواجهوا مجهولا طيلة الأشهر الثلاثة التي استغرقتها الرحلة، حتى وجدته يقول معترفا: كأنّنا كنّا في سفرة داخل العراق حسب، كناية عن يسر الرحلة، وجمال ما فيها، وخلوها من أيّ مشكلة.
إنّ (الرحلة) أيّ رحلة هي سرد ثقافيّ متعدّد الخصائص والخطابات والرؤى والتقانات يبتكرها (الرحّال) في ضوء تجربته الواقعية والتخيلية، وهو يتبارى والذاكرة من أجل إعادة تشكيلها على الورق، وهذا ما فعله الرحّال سعدون شفيق سعيد في رحلته الأوروبية، فقد كان معنيّا بتقديم تجارب ثقافية إلى المتلقي إيمانا منه بمهمة الرحال التي تتجاوز الشعور بالمتعة الشخصيّة إلى العمل على ضرورة معرفة ثقافة الآخر، وإيصالها إلى المتلقي بحيادية تامة.
مثّلت لحظة الخروج من الحدود العراقية في مدينة (زاخو) زمن الرحلة المتّجه نحو المكان الأوربي المقصود، وهي تبغي الوصول إلى أنقرة أولا، ثمّ إسطنبول التي وصلها بعد ثلاثة أيام، ليغادر إلى صوفيا عاصمة بلغاريا، ومنها إلى بوخارست عاصمة رومانيا، ثم توجّه إلى هنغاريا وبراغ وبولندا، وبرلين وهولندا وبروكسل ولوكسمبورغ، وباريس وإيطاليا وسويسرا والنمسا، وبلغراد ومقدونيا، واليونان، ثمّ كان طريق العودة من تركيا إلى لبنان وسوريا والأردن، وأخيرا وصل بغداد التي أوصلته إلى المدينة الأم (بَعْقُوبَة).

تقديم ما هو خاص ليكون في متناول المتلقي، مثاله زيارة الرحّال إلى الشركة البولونيّة التي صنعت سيارته الخاصّة (بولسكي) وقد استقبله موظفو الشركة، والعمال، ومديرها فقاموا بواجب الضيافة، حين عمدوا إلى غسل السيارة، وإدامتها على أتمّ وجه مجّانا.

إنّ الرحلة نمطٌ من السرد المقصود الذي يلاحق ارتحال إنسان بوساطة الإنسان نفسه في آفاق معلومة يعتمد الوصف الذي تتداخل فيه المواقف، والأحداث مشكّلا خطاب الرحلة، وهو يتتبّع وجودا يُستحضر في لحظة الكتابة، وهذا ما كان لرحلة ابن بطوطة العراقي التي امتازت بما يأتي:
أولا: حَرَصَ الرحّالُ وهو يستعيد ما رأى في رحلته على أن يكتب مقدمة خاصة لكلّ دولة زارها، أو مدينة دخل إليها كي يعطي من خلال تلك المقدّمة فكرة عن طبيعة الأثر الذي تركته الأمكنة في وعيه المستفزّ، فكأنها مقدّمة حوار خاص مع الحياة يفضي إلى عناق ثمل بين الرحّال، وتلك المدن، مثالها ما كتبه عن باريس (على حالة من الوجد التأريخي تجتمع الفخامة، وعطر التأريخ المتبقي لتروي سيرة من عبروا في حين من الزمن الذي مضى.. حيث تتجلّى الدهشة التي لا تستطيع العين حصر متعتها… وحيث الصور الجماليّة التي لا تحصى لمن عبروا الدروب، وتراهنوا على البقاء رغم أنف الزمن).
ثانيا: كان الرحّال حريصا على تداول مجموعة كبيرة من المعلومات الجغرافية، والتأريخية التي لها سلطة التأثير، فيما رأى وكتب، فتلك المعلومات تعين المتلقي على تقبل الرحلة، والاندماج في عالمها، انطلاقا من مبدأ أن الرحلة قاسم مشترك بين الرحّال والمتلقي، مثال ذلك ما قاله عن جامع السلطان أحمد في إسطنبول ذي المنائر الست، وقد شيّد بين الأعوام 1609- 1616، وكان السلطان نفسه يساعد في بنائه، وقد أُطلق عليه اسم المسجد الأزرق بسبب قرميده الأزرق.
ثالثا: إطلاق أحكام انطباعيّة سببها تأثره من رؤية الأمكنة؛ تلك التي تحيل على مدن، وغابات، وأنهر وبحار، مثالها ما قاله عن مدينة صوفيا: إنها مدينة الطبيعة والجمال والقرميد الأحمر، وعن مدينة فارنا مدينة الشمس الدافئة، والرمال الذهبية التي تخلو من وسائط النقل المعتادة التي لا حاجة للسائح لها، وهي مدينة المتحف الغريب والعجيب.
رابعا: وجد الرحّال في أوروبا كلّها مخيّمات للسياحة معدّة لسكن السياح، فضلا عن وجود الفنادق، ويبدو أنّ السائح في أوروبا يوم ذاك فضّل المخيم على الفندق بسبب قلّة أجور المبيت فيه؛ ولهذا كانت تلك المخيّمات تستقبل آلاف السياح من مختلف العالم، وهذا ما لم نجده الآن في أوروبا.
خامسا: يتقصّد الرحّال شرح أسماء المدن، فهو حين يزور أيّ مدينة يقف مليّا أمام طبيعة تركيب اسمها، وهذا جزء من عنايته بالمكان، فمثلا أن اسم (بوخارست) عاصمة رومانيا جاء من أسطورة تقول إن راعيا كان اسمه (بوخا) أول من حطّ في تلك المنطقة مع قطيعه المؤلّف من الغنم والماعز؛ ولهذا سمي المكان باسمه، وهو غارق بالطبيعة الخضراء.
سادسا: الوقوف عند المعالم الأثريّة القديمة، واصفا لها، ومحلّلا لطبيعة تشكيلها؛ مثاله الساعة الفلكية ذات المنحوتات التي تتحرك، وتدور في برجها العلوي، وهي من أقدم المعالم التاريخيّة في مدينة (براغ) ثالث أقدم ساعة فلكية في العالم، وهي تتألف من مئات الأجزاء التي تعمل منذ عام 1410، ولا أدري هل حافظت المدينة على ساعتها بعد الأحداث التي شهدتها وهي تعيش تفكّك المنظومة الشيوعيّة؟
سابعا: تقديم ما هو خاص ليكون في متناول المتلقي، مثاله زيارة الرحّال إلى الشركة البولونيّة التي صنعت سيارته الخاصّة (بولسكي) وقد استقبله موظفو الشركة، والعمال، ومديرها فقاموا بواجب الضيافة، حين عمدوا إلى غسل السيارة، وإدامتها على أتمّ وجه مجّانا، فضلا عن أنه في مدينة (لايبزغ) الألمانيّة زار وعائلته مجلّة (المجلّة) التي كان يتواصل معها، وقد نشرت في أحد أعدادها تحقيقا عن معرضه الشخصي (تسعة أيام في برلين) الذي أقامه في العراق عن زيارة سابقة لبرلين أيام مهرجان الشباب العاشر الذي حصد فيه الجائزة الأولى عن صورته الفوتوغرافية الشهيرة (رفقا أيتها الشمس) وفي مقر تلك المجلّة وجد في أرشيفها رسائله التي كان يرسلها من العراق.
ثامنا: التذكير بالمشترك الأوروبي الأخضر الذي لفت نظر الرحّال، فقارّة أوروبا هي القارّة الوحيدة التي تخلو من أي صحراء، وكان له الحق حين سمّاها القارّة الخضراء؛ فهي عبارة عن سجّادة من اللون الأخضر دائم الحياة، وعند المساحات الخضراء وجد الرحّال المدن آمنة، وفيها من الحكايات الكثير؛ تلك التي يرويها النهر، أو الجبل، أو الوادي، أو الطرق القديمة، أو الدروب، وثمّة جريان للفصول.
تاسعا: وضوح علاقة الرحّال مع الآخر الذي يُعدُّ مثيلا؛ أي شبيها، أو نقيضا إلى (أنا الرحّال)؛ أي الأوروبي الذي جسّد ما هو غريب غير مألوف، أو غيريّ بالنسبة إلى الثقافة التي تحملها الأنا المرتحلة إلى أوروبا؛ أعني أنا الرحّال نفسه، فقد وجد العامل الألماني يعاني حالة حادّة من الإرهاق في العمل، فهو يعمل عشر ساعات، وقسم من العمال يعمل أكثر من ذلك بكثير، ورأى الرحّال أن ذلك يرهقهم، لكنّه في الوقت نفسه يملأ جيوبهم بالنقود، ومن باب إحقاق الحق وجد تسامحا في دخول الحدود دون عناء، أو عرقلة في أوروبا كلّها، ووجد الأوروبي محبّا للثقافة، ولاسيّما المسرح والسينما، وقد تفضّل كثير من العوائل الأوروبيّة في إكرامه وإكرام عائلته، ولاسيّما في أوروبا الشرقيّة.
وبعدُ: فقد كنت أتمنى على الرحّال لو لم يتحدث في رحلته الأوربية عن رحلته إلى بيروت، ودمشق، وعمّان؛ لأن هذه الدول تقع خارج منظومة قارّة أوروبا، وهي تستحقّ أن يَفرد لها كتابا رحليّا خاصّا، وعندي أن المؤلّف له القدرة على ذلك فيخصّص كتابا آخر عن لتلك البلدان العربيّة، ولاسيّما أن رحلته لها كانت مفيدة، وغنيّة، بمشاهداتها وسردها.

ناقد وأكاديمي من العراق

Share

التصنيفات: ثقافــة

Share