Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

قصة قصيرة.. في غياهب التشرد

محمد مسعد العامري

كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة ليلًا حين غادر أحمد المنزل، بلا وجهة خرج والأفكار السوداوية تسيطر على تفكيره،! لا حيلة له سوى الركض في طرقات المدينة ، يركل كل  شيء يقابله، حائط مبنى حكومي، عامود إنارة ، علبة ماء ملقاة في الشارع، ماكينة الصراف الآلي، الطريق الأسفلتي المؤدي إلى مقبرة المدينة…

كل شيء أصبح عنده ممقوتا ويركله ككرة قدم..

استمرت حالته تلك حتى أصابه الإعياء، افترش الرصيف واستلقى عليه ملقياً كل همومه، وأحزانه، ومشاكله تحت كرتون صغير، ورأسه توسد الأرض.

فجأة بدأت الأمطار تهطل على المدينة، بعد أن كانت الصواعق تنذر بذلك، دون أن ينتبه؛ فقد أخرجه فكره المشغول عن طور الحياة، فلم يعد يشعر بشيء البتَّة!.

_أحمد : يا إلهي  إلى أين أذهب في هذه الساعة المتأخرة،! أصبح المطر في تزايد وقطراته في ازدحام كازدحامي..

منزلنا صار بعيدًا جداً

ليتني لم أغادر المنزل!

وبينما هو يندب حظه العاثر، إذ  رأى نارًا تبعد قليلاً عن وسط المدينة ،

توجه أحمد نحوها

ولم يكد يصل إليها، حتى استقبله شابان كان يظهر على وجهيهما أثر التعاسة، والحزن، والكآبة _ كانا يجلسان تحت مخيم صغير  تختلط فيه حرارة النار مع برودة المطر_ بعد توجهه نحوهما،

ألقى التحية على الشابين ، فردا عليه بمثلها وطلبا منه الجلوس معهما، جلس أحمد بجوار باب الخيمة الصغيرة_ التي بالكاد تتسع لشخصين في أحسن الأحوال_،  وبدأ يتبادل الحديث مع هذين الشابين.

سأله أحدهما عن اسمه؟ وما الذي أخرجه في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟

أجابه أحمد …

وبدأ يسرد له كافة التفاصيل التي يعاني منها  دون شعور وكأنهم رفقة على مدى ألف عام !!!

اسمي أحمد،  أقطن في منزل صغير في مدخل المدينة بجوار مدرسة المدينة القديمة ، أدرس في السنة الجامعية الثانية؛

لكنني توقفت عن الدراسة العام الماضي بعد أن أصيب والدي بجلطة في الدماغ، حينما علم أن أخي بدرًا  غرق في البحر أثناء عبوره كلاجئ إلى بلاد الغرب،

فأصبحت أتكفل بوالديّ وإخوتي الصغار،

تركت دراستي  وصرت أعمل طيلة اليوم كي أوفر احتياجات أسرتي  وأجمع ما تبقى لعلاج والدي،

لم يكد يكمل أحمد  بث همومه وأحزانه  لصديقيه الجديدين

عن معاناته،  والتشرد، والخيبة

حتى انهمرت عيناهما بالدموع  وكأنه قدر لهما بأن البكاء هو الملجأ الأخير لمعاناتهما المستمرة.

في المقابل سأل أحمد صديقيه  عن قصتيهما، وما الذي يفعلانه؟

أخبره أحدهما_ الذي عرف فيما بعد أن اسمه( لؤي) _

بأن والديه  توفيا وهو لا يزال صغيرًا، ثم تكفل عمه برعايته، وتعليمه، وتربيته.

وماهي إلا سنوات قليلة؛ حتى وجد  لؤي نفسه مرمياً في الشارع  بعد أن تلقى خبر وفاة عمه وكافة أسرته بحادث مروري مروع  على طريق القرية  شديدة الوعورة

لم يجد لؤي بديلاً سوى التمرد على قوانين الحياة ..

ومخالفة مجتمع يرى فيه عيباً أنه يعيش وحيداً !

دون أن يكلف أحد نفسه مشقة سؤاله عن السبب في ذلك وأن يمد له يد العون، والمساعدة ..

مجتمع أصبح يرى في الفقر، والتشرد عيبًا كبيرًا، أو جريمة اجتماعية لا تغتفر،  مجتمع يرى بعين الذباب دائمًا. لا تبصر عيناه سوى الأشياء القاتمة، ولا تحمل أفكاره غير الأفكار السوداوية.

أما أسامة فلم تكن قصته أفضل من صديقيه ؛ فأمّه توفيت أثناء ولادتها إياه، فنشأ مبتور الحنان، صلب المشاعر، أما والده فلم يعلم أحد عنه شيئًا بعد أن ذهب للغربة مذ كان أسامة في الخامسة من عمره، والده الذي أصبح في عالم من التناقضات أحيٌ هو أم ميت، وإن كان حيًا كيف لرجل في القرن الواحد والعشرين  أن يختفي عن الأنظار والأسماع؟!

وكأنه في أحد قرون العصر الحجري المظلمة،

أصبح أسامة بلا هوية عائلية  لا أم، ولا أب، ولا إخوان

وبعد أن عرف  كل صديق تفاصيل صديقه ، خيم عليهم صمت كبير، صمت بحجم الكون مشوب بالوجوم !

وكأن نار المدفأة أصبحت مرآة لاسترداد الماضي فلا تكاد تنظر إلى أحدهم حتى تجده مشرئبا عنقه نحوها وكأنها المسؤول الأول عن كل ما حدث، ويحدث لهم

وماهي إلا دقائق معدودة حتى توقف هطول الأمطار.

ويبدأ نور الفجر بالبزوغ شيئًا فشيئًا.

هم أحمد بمغادرة المكان،  ومفارقة صديقيه ، لكن صوتًا ما في داخله  أيقظه من سباته،

تذكر أنه غادر المنزل في الليلة الماضية لإحضار بعض الدواء لشقيقته الصغيرة، التي كانت تعاني من ارتفاع درجة الحرارة.

جن جنون أحمد، وذهب مسرعًا نحو المنزل، تبعه لؤي، وأسامة، دون أن يعرفا ما الذي حل بصديقهما

لؤي : انتظر يا أحمد، أخبرنا ما الذي جرى يا صديقي

أحمد تجاهل نداء لؤي ، واستمر في هرولته نحو المنزل

أسامة :  يا أحمد هلا أخبرتنا ماذا بك علّنا نساعدك

أجاب أحمد بصوت متحشرج بعد أن لفت إليهما التفاتة سريعة، سأعاود زيارتكما لاحقًا يا صديقيّ، ابقيا بانتظاري

عاد لؤي أدراجه  وأسامة معه ، وكانت وجهتهما مأواهما الوحيد؛  تلك الخيمة الصغيرة في أطراف المدينة.

أما أحمد فما هي إلا دقائق معدودة  حتى وصل المنزل

لم يجد أحدا فيه!

سوى قطة أخته مريم التي أصبحت حزينة كئيبة  لما حصل لمريم،  وكأن مريم  كانت ملاذها الوحيد في هذه الحياة

خرج أحمد من المنزل شارد الذهن، كخروجه الليلة البارحة ، سأل جيرانه عن أسرته وأين ذهبوا

أجابته الخالة أم أيمن عما حدث لأخته مريم، وأنهم توجهوا بها إلى مستشفى المدينة الحكومي، المتهالك

وصل أحمد إلى المستشفى، وجد والده المعاق، منتظرًا في صالة الانتظار  كبقية الواقفين في هذا الممر الضيق، شديد الكآبة،  وكأنه لا توجد حقوق لذوي الاحتياجات الخاصة في هذه البقعة من الأرض. أما والدة أحمد فقد كانت بمرافقة ابنتها  في غرفة الطوارئ

توجه أحمد نحو تلك الغرفة المظلمة، حيث تلتقي الأرواح

التي على وشك الرحيل،

نقل أحمد نظره بين الأجساد المتهالكة ، فوجد أمه قد توسد خدها يد ابنتها ، توجه نحوهما  وقدماه لا تكادا تحملانه

قبل رأس أمه وخدها، ثم انكب على أخته المغمى عليها  بوابل من القبل  وعيناه تذرفان الدموع بغزارة

_ أنا السبب يا أخية ، لم أكن على قدر المسؤولية، أرجوكِ سامحيني، لا تتركينا يا مريم

أخذته أمه إلى خارج غرفة الطوارئ ، مستوصية إياه بالثبات ورباطة الجأش

_ يا بني لم أعهدك إلا شخصًا قويًا، مقدامًا، ثق بالله يا بني، فالشفاء بيد الله، وستكون أختك بخير إن شاء الله

فقط ادعُ الله لها بالشفاء،

_ ولكن لماذا ؟ لماذا! يا أمي قدّر لنا كل هذه المعاناة، وهذه الآلام ؟

لماذا أصبحت حياتنا، أحزانًا  تتبعها أحزان؟، وآلامًا تتبعها آلام ؟، متى سنجد طعم السعادة!؟

متى سنعيش حياتنا  كأناس  لنا حقوقنا، وأحلامنا، وطموحاتنا؟

_ فجأة! شهقت الأم  بلا شعور   شقهة  كادت أن تفقدها  وعيها.

وانطلقت تركض  نحو  غرفة الطوارئ

أحمد مسرعًا خلفها فزعًا مذعورًا

فاطمة كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة.

Share

التصنيفات: ثقافــة

Share