Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

أسماء وأمكنة

محمد الأسعد*

 

أزمنة وتواريخ

هجراتٌ من جنوبي الجزيرة العربية إلى أرض قبط حاملةً معها الطائر الحر، أو البوز باللهجة القبطية. بناة الأهرام. الكتابة. كتاب النُّشور يتضمّن ميزان يوم الحساب. الأكديون في جنوبي العراق. الكنعانيون في إبلا وأقرت وأريحا وقبرص وصقلية والعالية في سردينيا وفي قرطاجنة وملاكة على الساحل الإسباني. أسطول أتروسكي ــ قرطاجني يخوض معركة بحرية ضدّ اليونان قرب العالية في سردينيا. صراع المائة عام بين روما وقرطاجنة. الربع الخالي ومدنه الدارسة.

توماس لويس ينقل بعض نقوشها إلى المتحف البريطاني. عشتار بافيا في قبرص يسمّونها أفروديت، أي السيّدة الغريبة. يرحل هاني بعل وحيداً مطارداً، يشرب السمّ شيخاً في جزيرة يونانية. على طريق العطور. بابليون وآشوريون ومصريون، ثم يونان فَرومان. يأخذ الإسكندر عِلماً بثراء مدن شرقي الجزيرة، يموت محموماً، ولا تعود سفنه التي أرسلها. الهند. عدن. جاليوس الروماني يقود جيشاً يغزو جنوبي الجزيرة. اليرموك. مصر وشمالي أفريقيا. وشمالاً يصطدم العرب بالخزَر عند بوّابة الأبواب.

أناهيد

تقرأ الأميركية، عالمة الآثار هارييت كراوفورد، اسم الشاعرة الأكدية، الكاهنة، “أناهيد” تحت سطرين من قصيدة على كأس نذري. ولكنّها تخطئ في قراءة الحروف المسمارية، فتكتب اسمها “آنخيدونا”. أناهيد هي ابنة سرجون الأكدي، أو السريّ كن، مؤسّس أوّل أمبراطورية في المنطقة قبل حوالي 5000 عام.

فلسطينيون

أناهيد وغسان: في طريقهما إلى العالم، كلاهما يحمل حقيبته المدرسية على ظهره. يغوصان بين المسافرين. ومن بعيد ألمح الدبّ القطني يتأرجح خارجاً من حقيبة أناهيد.

خيري منصور: في عام 1967، يتسلّل إلى الضفة الغربية حتى لا يبيع البطّيخ في شوارع عمّان. يُقبَض عليه. وفي المعتقل يتطلّع من وراء القضبان إلى مجنّدة اسرائيلية تستند إلى بندقيتها في الشمس. يقول له الضابط الإسرائيلي وهو يحقّق معه: “جيلي من جيلك”. يُبعَد عبر الجسر، ومن هناك يسافر إلى الكويت حيث يظل بلا إقامة شرعية طوال خمس سنوات.

نواف عبد: قرية مصمص في فلسطين. يحدّثني عن حواصل الثقافة الفلسطينية، وعن عجائز فلسطينيين في مقهى. إنهم يطالبونك بأن تكتب… اكتب… اكتب… ليس لدينا مثلك… اكتب عن الكنعانيين.

أشجار بندق أمام مسجد تركي حوّلوه إلى متحف منذ مائة عام

عراقيون

محمود البريكان: كوبُ كاكاو ساخن في مقهى بغدادي ذات شتاء. يتلهّف للحديث عن العزلة التي نحتاجها حتى لا يطغى الضجيجُ على أصواتنا. إلاّ أنه يضيف: “الأمرُ يحتاج إلى قوّة نفسية كبيرة”.

أبو براك: شيوعي من البصرة جاءت به الطائرة إلى صوفيا. واثقٌ من النصر التاريخي، ومن أن اليهود يسيطرون على البيت الأبيض. يقول وهو لا يكاد يتمالك نفسه من شدّة المرض: “لم نؤمن بالأشخاص بل بالمبادئ، وأدّينا ما علينا بإخلاص”. يأخذه ابن أخيه القادم إليه من السعودية برفقة رفيقه أبو سمر منهكاً إلى عمّان، وهناك يموت بعد ستة أشهر.

جعفر موسى: صديقٌ لا أستطيع تخيّله إلاّ باحثاً عن المصباح السحري، حاملاً حفنة ذكريات عن صديقه القرويّ زوربا، وأصوات بحّارة القوارب النهرية المشروخة وغنائهم… أو نواحهم بالأحرى.

رعد: مهندسٌ عراقي مع طفلين وزوجة. يتسلّل خفيةً عبر الحدود البلغارية إلى اليونان ليلاً، سائراً على قدميه أربع أو ست ساعات في الغابات، ثم أثينا، فطلبُ حماية الكنيسة. علمتُ في ما بعد أنه وبّخ قبل رحيله صديقي لأنه يستقبل في شقّته أناساً يشتمون رئيسه صدام حسين.

محمد زيور: يختبئ بين عجلات شاحنة حليب تنقلها سفينةٌ ألمانية إلى البرّ السويدي. يقول الضابط السويدي: “لماذا خاطرتَ بحياتك في طريق لا ينجو فيه من الانسحاق تحت عجلات الشاحنات أحد؟”، فيردّ صديقي: “إنه اليأس”، وبعد أيام يحظى بالجنسية السويدية.

زنج: ما زال الزنج يتجمّعون في حارة قاصية بين النخيل مساء كلّ خميس، ويبدأ قرْعُ الطبول القديم قِدَم أيام زعيمهم علي بن محمد. وحسب رواية جعفر موسى، يقيمون هيكلاً لسفينة يرفعونه عالياً، ويرقصون ويشربون. فإذا أخذ السكرُ منهم كلّ مأخذ، رحلوا وهم يدمدمون بلغات غير مفهومة على ظهر سفينتهم الرمزية.

ابن فضلان

ينتشر السْلافُ في أوروبا حوالي القرن التاسع. يصل بن فضلان، قادماً من بغداد، إلى مَواطنهم الأصلية على ضفاف الفولغا مع أوائل القرن العاشر، فيستولي عليه حبُّ الأشياء البرّية؛ النساء والأنهار والغابات وكلّ ما يهرب بعيداً. ينتهي به الأمرُ إلى التحديق في السماء، جالساً بجوار متصوّف هندي، ولا يعود إلى بغداد.

بائع عجوز جالس في الظل ما زال يعتمر قبعة سائق شاحنة

عن الرحيل

يكتب كافافيس مخاطباً يوليسس العائد من حرب طروادة، والتائه طوال عشرين عاماً: “ستجد إيثاكا فقيرةً لا تملك ما تمنحكَ إياه بعد أن تصل إليها. إيثاكا هي ما أعطتكَ إياه رحلتكَ الطويلة بين الجزر والشعوب والبحار والثقافات”.

نسرٌ في مدينة صحراوية

أجنحةٌ ضخمةٌ للدوران في دهاليز صحيفة يومية. منقارٌ مخلوق للافتراس لا يجد أمامه سوى العلَف. تركَ هذه السطور في دفتر يومياته: “عاطلٌ عن العمل بالفطرة في عصر الثورات والمحطّات الفضائية، عاجزٌ عن الطيران تحت السماوات الواطئة، عاجزٌ عن التقاط الحبوب. أسبابٌ تكفي للبطالة، ولكن لبقاء ذاكرتي حيّة”.

في بطرسبرغ

في آخر أيامه، يحاول الشيخ عياد الطنطاوي إنقاذ روحه بالبلاغة وتجميع الأمثال وأغاني قريته النائية في أقاصي الصعيد. شتاء بطرسبرغ كان قاسياً. والليالي البيضاء لا تقلّ قسوة. يلفّ قدميه بغطاءٍ صوفي. يواصل الكتابة بينما يسري الشللُ على امتداد قدميه ويصل إلى يديه. تنحرف سطوره، وتصبح كلماته إيماءاتٍ، وشيئاً فشيئاً تنحسر الحياة عن جسد إنسان يموت.

في روما

السوق الروماني العتيق: ذات صيفٍ، بين أعمدته المحطّمة وأساساتِ حوانيته الضيّقة، سارتْ ليندا الشقراء الطويلة القادمة من جزر هاواي. كانت تشبه كاهنة معبد اختطفوها قبل ألف عام من أحد معابدنا الشرقية؛ ربما كانت هي ذاتها من دون أن يعرف كلانا، أو يعرف نحّاتُ هذه الحدائق التي تحوّل فيها العشّاقُ إلى تماثيل حجرية، ولكنها تتجلبب بالفراشات.

نبع تريفي: تنعكس صوَرُ الجالسين والواقفين حول البركةِ في الماء. رذاذُ النوافير يندفع عالياً ويتساقط على التماثيل اللامعة في وسط البركة. الوقتُ مساء، وروما في الساحات؛ ساحة الدرجات الإسبانية، ساحة بياتسا نافونا، ساحة كنيسة سان بيترو. الغجرياتُ والرسّامون والهيبيات والسائحون يغادرون إلى المطاعم الجانبية وينتشرون في الأزقّة. بعضهم يمضي وحيداً. بعضهم يمضي في جماعات. وبين آونةٍ وأخرى تُسمَع ضحكاتٌ متناثرة أو صرخاتٌ مرِحة تتساقط في العتمة.

هياواثا: قصيدة للأميريكي لونغفيلو عن آخر الهنود الحمر والغابات والبراري، تغنّيها ليندا على ساحل الأدرياتيكي للآرامي التائه.

في صوفيا

الشاعر يانتشيف: يرفع جبلُ فيتوشا غاباته عالياً، ومعها ترتفع طرقاته البعيدة الغائمة. في مقدمة المشهد تبدو قريبةً ساحةُ الأندكا ببلاطها اللامع ونصب الشهداء الغابرين بألواحه الإسمنتية القاتمة. يبرز سطرٌ من الشعر إلى العيان: “خالدٌ مَن يسقط في سبيل الوطن”. فتياتٌ، شبّانٌ، مقاهي أرصفة تحتلّ محيط الساحة. مبنى الأندكا الثقافي تشغل طوابقه الآن أسواق تجارية مؤجّرة بالقطعة وترفرف أمامه أعلامٌ ملوّنة. في الطابق الأخير، الناجي من قرض النمال التجارية، في أعلى نقطة، يقيم الشاعر يانتشيف ــ العائد من باريس ــ معرضاً للوحاته وحيداً، بينما تمرّ زوجته بأصابعها على مفاتيح البيانو لمستمعين غائبين.

السيد بافلوف: يصرّ على الاحتفاظ بكتب ماركس ولينين وديمتروف، لأنها أمانة لديه كما يقول. يصرّ أيضاً على الاحتفاظ بخزانة خشب الجوز الكامد مغلقةً على ثياب ونظّارات وأقلام زوجته الشيوعية العنيدة المتوفّاة منذ عشرين عاماً. بافلوف طويلٌ، أتخيّلُ أنه يزداد طولاً مع امتداد سنواته الثمانين. أتساءل: “هل ظلَّ للسيد بافلوف ظِلُّ؟”.

جالا: أقل الناس احتفاءً بنفسها وبيتها. تقرأ كلّ يوم جريدة الديمقراطيين الذين اتّخذوا اللون الأزرق شعاراً لهم. جريدة وقهوة. سجائر. تجيء إلى مطبخنا لتناول القهوة بينما يلهو صغيرها بمكعّبات ملوّنة في غرفتي.

ديانا: حاملة اسم إلهة الصيد. خمرية اللون. وجه حزين. شفاه شهيّة. تعتذر لأنها لا تُجيد الإنكليزية، ولكنها تودّ أن تفهم سرّ حيوية أناهيد الصغيرة. يرفع الرجالُ والنساءُ كؤوسهم وهي تحدّثني. يشربون من أجل صحّة وسلامة بحّارة مجهولين.

شتاء: أشجارُ بندق أمام مسجدٍ تركيّ حوّلوه إلى متحف منذ مائة عام. أشجار كستناء عالية على امتداد شوارع بمعاطف ومظلّات وقبّعات. طفلٌ منزوٍ قليلاً تحت مظلّة على الرصيف يعزف على كمانه لحناً صافياً بينما يتساقط الرذاذُ الأبيض. تنحني عجوز، ترمي ليرة في قبّعة سوداء عند قدميه.

روائي: يعيد ترتيب أمكنته وأزمنته أو صياغة روحه مجدّداً. الثلجُ الأبيض يغطّي صوفيا. يقول: “الأفضل أن نكتب أنه يغطي أطرافها البرونزية القاتمة وحدائقها المظلمة”. يطفو نثارُ الثلج الأبيض، يتساقط على البشر والتماثيل الصامتة وضريح ديمتروف. كان يتصوّر الشخصية الروائية بِذرةً وهو مَن يتخيّل ويُطلق ممكناتها كشجرة. والآن في صوفيا يجدُ حوله ثماراً عديدة بدأت تتساقط، وعليه أن يعكس الأمر، فيتخيّل ويطلق ممكناتها كبذور. الثمارُ تتساقط عن شجرة المكان والزمان أيضاً.

في نيقوسيا

اللحام سوتيري، أو المخلّص بالعربية، مترهّل الجثة، أصلع قليلاً، يتحدّث في دكّانه وهو يقطّع اللحم على خشبة عريضة مخضّبة ببقايا الدهن والعظام: ” أنتم كريتيون… هاجرتم إلى فلسطين… يونانيون مثلنا…”. زوجته الطويلة تدير ظهرها العريض وهي تعدّ القهوة.

في قطر

ينبّهني غالبُ هلسا، ونحن نسير على شاطئ الدوحة، إلى أن الإنسان في أقاصيصنا القديمة يدور طوال يومه باحثاً عن طعام فلا يجد، ومع ذلك كان في نهاية المطاف يعود إلى بيته. أي كان له بيتٌ دائماً.

في عمّان

الناسُ في عمّان حلزونٌ دبقٌ يلتصقُ بالصخور. تُصادفه أحياناً يشربُ القهوة في مقهى الفاروقي، أو يلهو في قاعةِ مسرح، أو يتضارب في ساحة تزلج، أو يتزاحم في الساحة الهاشمية أمام المدرج الروماني.

أثينا

في ساحة السنتجما، ذات ظهيرة، يتطاير الحمام، ويشتري الأطفالُ أكياس الذرة الصغيرة من بائع عجوز جالسٍ في الظلّ ما زال يعتمر قبّعة سائقي الشاحنات.

 

  • شاعر وروائي وناقد من فلسطين

 

 

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share