Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

“وسائد للحنين” للشاعر هيثم سرحان: مناخات الحلم.. فزع اليقظة

 رامي أبو شهاب*

يكتسب الشعر قيمته من التجربة التي تعد أهم مصادر الخطاب، بالتضافر مع الثقافة التي تشكل الرؤية التي تحكم الأفق، ولاسيما حين نواجه أسئلة تتداخل بين الذات والعالم، وفي أزمنة المحكيات التي يفيض بها المشهد الأدبي، تخرج علينا بعض المجموعات الشعرية لتحتفي بالنبض الشعري، الذي توقف في غفلة من الزمن. إن الإصرار على الكتابة الشعرية بوصفها المدونة الأقدم يتأتى في المقام الأول من ذاكرة جمالية لبعض الأجيال التي كانت ترى في الشعر عالماً خصباً يعبر عن روح العالم، ونقائه، وما زالت تؤمن بأن هذه الروح ما زالت قادرة على التحليق في غابة المرويات غير المتناهية، وشديدة الاضطراب.

في مجموعة شعرية صدرت للشاعر والأكاديمي هيثم سرحان، ثمة آفاق لقضايا شعرية قديمة جديدة، ولكنها ما زالت وفية لفضاءات الشعر في تكوينه العميق، أو بعبارة أخرى للقيمة اللغوية التي تعي ذاتها، لا بوصفها محاولة تجاوز السائد، إنما في إدراكها لكينونتها ورسالتها التي تحتفي بها، وبهذا فإن هيثم سرحان يسعى في مجموعته الشعرية إلى مقاربة وعي جيل عانى من إشكالية الازدواجية الثقافية، حيث وقع بين عالمين شديدي التناقض، ونعني عالم القيم الرقمية وما قبلها، فقد أنتجت العوالم الافتراضية الطارئة جزءاً من هذا الاضطراب التعبيري، حين أتاحت المنصات فيضاً من الكتابة، التي تبدو لنا أمراً عبثياً بلا أي ضوابط حقيقية، أو ثقافة تنهض بالجملة الشعرية، وخطابها الفكري، والأهم سعيها إلى أن تفضي بنا إلى تأمل كينونة هذا الوجود، في تبعثره بين أزمنة تبدو متماثلة، ولكنها في الحقيقة متنافرة.

في المجموعة الشعرية التي جاءت من إصدارات دار خطوط وظلال عام 2020، ثمة صيغ تبدو مكتفية بذاتها، أو لعلها تشكل وحدات دلالية، لعالم عرف إيقاعه الذي تشكل في البدء ضمن أطياف الوفاء للعالم، كما اختبره هذا الجيل، غير أنه يتجاور ذلك ليدمج تأملاته العميقة وخبرته في العوالم التي تقاطع معها، لتمسي المجموعة صيغة من صيغ التعبير عن هذه الكينونة الحائرة بين عوالم تضج بالجمال، الذي لا يكتمل لظروف تتصل بانهدام هذا الوجود، ولا استمراريته، وهكذا نرى أن هذه المجموعة التي تؤرخ قصائدها زمنيا ومكانيا، تستحضر مناخات عدة جغرافيا: الأردن وسوريا ومصر والمغرب وتونس وليبيا وتركيا، وغيرها، فيحتملها القلق على مستوى المكان. وهذا يشي بأن فعل الاستقرار يبدو شيئاً مدمجاً في أفق المجموعة، التي بُنيت على أربعة أقانيم يعكس كل منها رؤية للذات، وتقاطعها الجدلي مع الزمن، ولكن الأهم المكان.

هذه الأقانيم تحتفي بالإشارات الدلالية للأفق المطلع عليه حيث نجد عناوينها: أحوال، ونواسيات، وأبواب، وأخيراً حجرة الفقد. وكل جزء يحتوي على قصائد تتصل بتشكيل للمنظور الذي يعاينه الشاعر، حيث يجعل من مجموعته بياناً شعرياً لمسيرته على أكثر من مستوى، حيث التقاطع مع المرأة، الوطن، والتاريخ، والمدينة، والموت وغيرها، تبدو انعكاسا للتكوين المتقطع لهذا الوجود، تبدو القصائد قصيرة ذات جمل شعرية، تحتفي بالدلالة والإشارة، والإيحاء، غير أنها تسعى جاهدة لخلق عالمها الجمالي في البنية العامة، حيث تتوافر المفردة التي تتنازعها القيم المعاصرة، وثقافة الموروث، فتبدو القصيدة ذات هوية تشيأ بعالم المجموعة الكلية من حيث الوقوع في بينية العوالم واللغة والمفردات والصور، كما المرأة والحب والأوطان، وكلها تبدو ذات طبيعية متوترة على مستوى الشعور والمنظور الأيديولوجي، كما صوغ المواجهة مع ما كمن في الذاكرة من ارتحالات، لم يتبق منها سوى تلك القصائد التي تسعى لأن تعيد تأسيس علاقة أزلية مع الوجود الذي يتعرض شيئاً فشيئاً إلى الاستلاب والبتر والفنائين: المادي والمعنوي، ولكن تبقى اللغة الوسيلة المثلى للهرب من هذا المصير، إذ هي تخلق عوالم لا مثبتة أو ممكنة تبعاً لآراء الفيلسوف الألماني لودفيج فيتجنشتاين.

إذا ما نظرنا إلى صيغة العنوان فإنها تشي بتلك الرغبة لإنهاء القطيعة، فالحنين جزء من رغبة عميقة بوصل ما مضى، أو وصل ما انقطع، إنها محاولة بناء جسور تقع في مجال إدراك الاستحالة، كما ذكرنا سابقاً، ومن أجل إدراك هذا العالم، لا بد من أحوال، فالتغير ديدن هذا الوجود – كما يشيع لدى الصوفيين- إنها رحلة للارتقاء – إذا شئنا القول- ولكنها في الحقيقة تبدو تجسيداً للرغبة العميقة لنفي الثبات والسكون، فتبدو أقوال العرافة ومتتاليات الميتافيزيقيا جزءاً من هذه الرغبة لتجاوز القلق، فلا عجب أن تفتتح المجموعة بالمقطع الآتي:

ورد في الكتب القديمة

إن عرافات بابل

قلنا لن تهنأ بالسلام

أي عاشقة

داست قلب عاشقها

إنها صيغة تنتقل من الصيغة الذاتية لصيغة العالم، فالعاشقة تنسحب لتندمج مع المرأة والحياة وهكذا يعلن هيثم سرحان موقعه القائم على نفي السكينة، ومحاولة الخروج، فتبدو رموزه تجسيداً لهذه الصيغ حيث زرياب، والحلاج، وأبي نواس، وغيرهم. لعل القسم الأول يبدو متنافراً على مستوى الموضوعات، ولكنه يحفل بحالة شعورية واحدة تستجيب لمزاج النكوص للداخل، فيبدو رثاء الأب، وجدلية المرأة، والوطن، نوعاً من أنواع البحث عن الخروج من التيه، وتخلصاً من قيود مرحلة ما، أو لنقل حالة من الأحوال، وهذا ما نراه في القسم الثاني الذي يحمل اسم «نواسيات» حيث يشي هذا الجزء بصيغة من صيغ التحرر والتمرد؛ فتتخذ القصائد طابعا آخر- إلى حد ما- حيث الغواية، والحرية، فيصبح (الرعاة) رمزاً للتخلص من هذه القيود:

كان الرعاة يجوبون القفار

بحثا عن الجواري المكتنزات

لأنهن يشبهن المراعي

اختار هيثم سرحان أن يؤسس هيكلية مجموعته تبعاً لهذه الفضاءات، التي لا تعني في أي حال نموذجاً زمنياً، بمقدار ما تعني وعياً داخلياً بالذات، وتموضع كل قصيدة بين الأنا وذاكرتها؛ بوصفها ـ ربما – إحالة إلى سيرة شعرية، وهكذا تستمر هذه القصائد من خلال التشديد على الخمريات، والقيان، وقيم التمرد، الثورة، والخشخاش ورامبو.. كما سلسلة المفردات التي تصل بالألوان، وأسماء الزهور، ومناخات أبي نواس في عصره العباسي؛ فتتقدم نزعة التمرد بوضوح:

مثل نهر دجلة

سأسير محترقاً برماد المتصوفة

والخلعاء

نازعاً عني كل الكرامات

ولن أعرف هل صار الماخور وطناً

أم أصبح الوطن ماخوراً؟

لا يمكن أن ننكر في إشارة سريعة إلى أن القصائد تحتفي بالكثير من التناص والإحالات الدينية والشعرية والتاريخية والثقافية والأدبية، غير أنها تبدو موجهة في سياقات تهدف الصيغة التي ترتجيها المواقع الأيديولوجية للشاعر، حيث يعلن عنها بوصفها تطويراً للمعنى الكامن في النص نحو إزاحتها لتنهض بدلالة جديدة كما في قصة «قميص مقدود».

في الجزء الرابع نقرأ صيغة أخرى من صيغة الرؤية، حيث نرى البوابات في إحالتها إلى الرؤية، والولوج، إذ تعد موقعاً للشاعر، وهو يعاين العالم في لحظة توقف فيها الزمن، والمكان قائم أزلي… وهنا نرى ذكرا لبوابات في فلسطين والعراق وسوريا وتونس وغيرها من المدن، وكل بوابة تتصل بتقاطع حدثي يعاين هذا العالم في سياق التاريخ، حيث سوريا الغارقة في الدم، كما العراق، وفلسطين، ولكنها تصور أيضاً شيئاً من الجمال والحب، ومع ذلك، يبقى الموت جزءاً من الصورة الكامنة؛ لأنه عنوان لواقع عربي كما نقرأ في قصيدة «باب المعظم»:

عندما يعود الرجال

إلى قبورهم

في المساء

يخبئون الأحاجي

ويحملون ما تيسر

بأكياس الهواء

في حين نقرأ عن باب توما في دمشق:

دِمَشقُ

دَمٌ شق حُنجرةَ الروحِ

وسالَ في مآقي اليَتَامى

دمشقُ

عشقٌ يَتَسَربُ بينَ الأَصابع

دمشقُ، الأزقةَ والبيوتَ والنارنج

وأطواقَ الياسمينِ، وروائحَ الحوانيتِ، والنساءَ، والأطفالَ، والشيوخَ،

والمساجدَ، والرجالَ،

مطرٌ ينسربُ في زوايا المرايا

دمشقُ الحرائق

وهجٌ يُضِيءُ ما تَبَقى مِنْ أَيامنا

ويفضحُ صَمْتَنا المَعيبْ.

في حين أن «باب الساهرة» في القدس فإنه لا يبتعد كثيرا عن هذا المناخ حيث جاء:

أَوْسِمَةُ أَبي ونياشينُ البُطولةِ

سأَبيعها على الأرصفةِ المكتظةِ

بالفُقَرَاءْ؛

لأن قارورةَ العِطْر وزُجَاجَةَ النبيذِ

أطيبُ مِن القذائفِ الوهمية

ولعل هذا النسق يتكرر في قصائد باب شرقي، وينابيع الدم في الغوطة، كما يتصل بباب زويلة في القاهرة، وهكذا تستمر هذه الصيغ لتبدو لنا ضمن خطاب كرنفالي باختيني يطال كافة مواقع الألم على خريطة العالم العربي.

إن تمكن مفردة «الباب» في الجملة الشعرية يعكس صيغ الانفتاح، كما التأمل، والترقب، ولكنه يحمل سؤالاً فلسفياً.. متى تغلق الأبواب؟ ولا سيما تلك التي يكمن خلفها الكثير من الدم، وهكذا نرى أن هذا الجزء يبدو من الأجزاء الأكثر نضجاً على مستوى الصيغة والمحمولات الفكرية، كما البناء والهندسية لتكوين القصيدة على مستوى التنظيمي الخطابي، وتموضع الإدراك ضمن تشكيلات تعتمد الصور الشعرية، والأسئلة، ومعجم شعري ينحو منحى القتامة في بعض الأحيان، مع محاولة تمكين الصور في الذهن، بالاعتماد على المفردات ذات الأثر اللوني والصوتي، بشكل لا يخفى على القارئ. ولعل هذا يتعزز في الجزء الرابع حيث نقرأ تغيراً في المزاج الجمعي نحو صيغ ذاتية، تستعيد تموضعها مرة أخرى، فالفقد يطال الإنسان كما الماضي بما في ذلك الشهداء، فتبدو القصيدة في هذا الجزء أقرب إلى النمط الماغوطي في بعض المواقع، ولاسيما تواتر الجمل الشعرية، ونموذجها القائم على الصور المحلقة، حيث تبدو الدهشة والإغراق في الغرابة جزءاً من مناخات القصائد:

لي أنْ أجوبَ حاراتِها وحاناتِها باحثًا عن الشيء في اللا شيء

لي أنْ أَعض بردى بشهوة نيئة

وصبًا رقيقٍ

ودمعٍ غير قابل للانمحاء.

تتكاثر الجمل الحسية في هذا الجزء فتبدو المرأة كياناً قائماً بذاته، وهي أقرب إلى إنذار بالتخفف والانعتاق، إذ تزهر القصائد عن لغة محمومة بالمخاطر والحب، مع توجس دائم وقلق من الفقد المتوقع لهذه العوالم، مع تناظر مع وجود المنفى، والاغتراب، ولا سيما في الأوطان. هذا الحس العميق الذي يطال الإنسان العربي، قوامه أن ما يمكث تحته من أرض ليست مستقراً حقيقياً.. إنها لعنة تسكن هذا الوجود الجمعي بالكلية، ولعل قيمة الشعر أنه قادر على أن ينذرنا بهذا الوجود المتعين على شكل قلق أو حب، وشيء من الخيبة، ولكن الأهم أننا كذوات نبقى مسكونيين بالحنين، ربما لأشياء مضت، ولكنه في الحقيقة حنين لمستقبل نتمنى أن يكون أجمل.

 

  • كاتب أردني فلسطيني

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share