Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

د.عزّة سليمان*
يهدف التاريخ الشفهيّ إلى توثيق الحياة اليوميّة للناس إضافة إلى أحداثٍ أخرى لا يذكرها التاريخ الرسميّ، وترقد أهميّته خلف هاجس الاختفاء.
وارتبط التاريخ الشفهيّ بالمؤرّخين الذين يخلقون مَصادِر تاريخيّة، وخصوصاً أنّ العديد من دولنا تمرَّست على طمْس الذاكرة. يرتبط ذلك بفكرة الصورة وقد أخذت أبعاداً واسعة في عالَم التواصل الاجتماعيّ، حيث لم تعُد الصورة رفاهيّة اجتماعيّة، إنّما تحوّلت إلى أداةٍ للتعبير والتواصل، وإظهار الذّات، والمُشارَكة في الفضاء العامّ.
فالمُواطن العربيّ تحوَّل إلى عنصرٍ فاعلٍ على وسائل التواصل، وخصوصاً أنّ هذا الدَّور لم يكُن مرسوماً له في السياسات العامّة المُتّبعة، ولم يكُن جزءاً من دَوره في ظلّ الدول التي عاش في كنفها.
انتقل التاريخ العربي بطريقة شفهيّة، وكان القرآن الكريم الوثيقة الأولى الرسميّة المُعتمَدة كدليلٍ خطّي مكتوب اعتمدت عليه القواعد الشرعيّة، ولاحقاً التشريعات الرسميّة، وأصبحت أساساً في دساتير بعض الدول العربيّة.
وكانت معايير القانون المكتوب لاحقاً كأداة قانونيّة في الدولة الحديثة اعتمدت على الأرشفة والأدلّة المكتوبة في أنظمتها القانونيّة والرسميّة والسياسيّة والتاريخيّة.
ارتبطت هذه الأنظمة بأُسس الدولة الرسميّة الدستوريّة، والدستور بدَوره هو القاعدة العليا المكتوبة المُتّفق عليها بين مكوّنات الشعب لبناء دولة ضمن معيار النظام العامّ، والتي ينبثق عنها جوهر النظام السياسي والقانوني والاقتصادي.
وارتبط بالدولة الديمقراطيّة احترامُ المَصالح العليا وكيفيّة تحقيقها انطلاقاً من تاريخ هذا الشعب لتحقيق أُسس المستقبل بما يضمن لهذا الشعب وحدة الانتماء ووحدة المصير.
ويشكّل التاريخ المكتوب والموثّق أحد أهمّ المكوّنات الحضاريّة وأيضاً الرسميّة في بناء هذه الدولة. يتمثّل التاريخ بالأحداث الموثَّقة التي انتقلت عبر الأجيال، والتي تُعتبر ملكاً للشعب من ناحية وللإنسانيّة من ناحية أخرى وللأجيال القادمة.
وقد أتت النصوص القانونيّة الدوليّة في بَرنامج الأُمم المتّحدة ومنظّمة اليونيسكو لتؤكِّد على أهميّة حماية التراث الإنساني كجزء أساسي من معايير التنمية المُستدامة، بعد أن اعتُبر التاريخ ومعرفته وحقّ الاطّلاع عليه جزءاً لا يتجزّأ من مبدأ حقّ المعرفة والاطّلاع.
فجاءت المَكتبات والمَتاحف ركناً من أركان الثقافة، وقد أصبح تنظيمها والحفاظ عليها وفتْحها أمام الجمهور جزءاً من الموجبات الواقعة على عاتق الدولة تجاه شعبها والشعوب الأخرى أيضاً.
وكما يدخل التاريخ المكتوب والموثَّق من ضمن المكوّن الحضاري للشعب، تدخل أيضاً سيَر المثقّفين، من أدباء وفنّانين وباحثين وسياسيّين، يبحث المُواطن في خفاياها عن مكنونات التاريخ ممّا لم تتحدّث عنه الكُتب الرسميّة أو الوثائق الموضوعة أمام أعين الزائرين والباحثين عن المعرفة.
ذلك كلّه يشكِّل مكوِّناً من مكوِّنات هويّة هذا الشعب، تراكمت عناصرها عبر المَعالم الأساسيّة الثابتة والأحداث المتغيّرة التي شكَّلت له خصوصيّة ميَّزته عن غيره.
لا تتناقض هذه الأدوات مع ثقافتنا العربيّة حيث شكَّلت نصوص الشعراء منذ الجاهليّة ثمّ عصر الإسلام إحدى أهمّ الأدوات لمَعرفة العديد من الوقائع والعادات الاجتماعيّة والسياسيّة.
لم يتحوّل المجتمع العربي إلى ثقافة التوثيق، ولم تكرِّس الدول احترام حقّ الشعوب في الاطّلاع على الأرشيف الرسمي بشفافيّة، فبقيت العديد من القضايا مخفيّة بحجّة الأمن القومي، وكُتِب التاريخ بأقلام السلطات الحاكِمة التي لم تتغيّر لحقباتٍ طويلة.
وما اختلاف الأطراف السياسيّة اللّبنانيّة على كتابِ تاريخٍ موحَّد في المَدارس إلّا دليل قاطع على ذلك.
فالمتحف هو إعلان الوثائق أمام العامّة، من دون إقصاء، بهدف مَعرفة التاريخ. وكلّما كان النظام الحاكِم ديمقراطيّاً، ظهرت مَرافقه الثقافيّة من مَكتبات ومَتاحف وأرشيف وغيرها كدليل على التاريخ، بتفاصيله المُختلفة، أكثر تنظيماً وإتاحة للعامّة.

كِتابة التاريخ والعلوم المتعدّدة
ينقسم الأرشيف بين أرشيفٍ رسميّ وأرشيفٍ غير رسميّ، وهو بكِلا الوجهَين يُساعد في إيجاد أدلّة ذات بُعدٍ اجتماعي تخدم الباحث في إثبات أو نقض فرضيّاته وفقاً لأُسس المنهجيّات العِلميّة المُعتمَدة في البحث.
ومع العَولمة وعالَم الانترنت، توسَّع معنى الأرشيف وتغيَّرت معه بعض المفاهيم الاجتماعيّة التي انعكست في القانون كالخصوصيّة والسريّة وحصريّة دَور الدولة ومرور الزمن وغيرها؛ وفي ذلك تفاصيل تختلف وفقاً لحاجة الباحث المتخصّص.
هذه العلوم الحديثة للتوثيق والأرشفة والتاريخ تتقاطع كذلك مع علومٍ جديدة مثل دراسة المَشاهد والفولكلور الشعبي والمؤشّرات الجغرافيّة مثلاً من حيث مَصدره الشفهي الذي يثبت مع الزمن ويتغيّر بطريقة منسجمة مع التغيّرات المُختلفة التي تُعايش حياة الناس.
فالمتغيّر جزء من أجزاء التوثيق، وتظهر هذه الأجزاء من خلال الدلائل المتروكة بشكلٍ عشوائي في الأمكنة أو في الفنون أو المنتجات التقليديّة. ويدخل بالتالي هذا المتغيّر لفهْم طبيعة الحركة في هذه المرحلة وماهيّة إيقاع الحركة المنطقي والموضوعي للتغيير وماهيّة مؤشّرات التدخُّل المدروس لطمْس الذاكرة.
فإذا كانت المُقارَبة الوضعيّة أنتجت الرواية الموضوعيّة للنصّ الشفهي ورفضت البُعد الذاتي معتمدةً على القراءة الرسميّة من خلال معايير صارمة، فإنّ القانون الوضعي في دولنا، المُنبثق عن السلطة السياسيّة، يعطي للنصّ قيمةً عليا في تكريس الحقّ، وللوثيقة الدّور الأساس في إثبات هذا الحقّ.
ولكنّ اعتماد قواعد ما بعد بنيويّة أو ما بعد الوضعيّة تفتح آفاقاً أوسع للقراءة، وتهدف إلى التركيز على عمليّة بناء المعاني وبالتالي بناء المَعرفة وإنتاجها.
نستعيد بذلك مُقارَبةَ دَور الرواية الشفهيّة بوصفها نصّاً أو وثيقة لها معنى ذو قيمة في إنتاج المعرفة من ناحية وفي توثيق التاريخ وكِتابته من ناحية أخرى.

وبذلك يتحقَّق الهدف بتحويل الأفراد إلى عناصر فاعِلة في المجتمع، وبالتالي بإعطائهم دَورهم الإنساني بدل إبقائهم في الحيّز المسكوت عنه في رسْم السياسات، واستعادة قيمته في صناعة التاريخ، إذ لم يعُد مجرّد فرد يُستخدَم كأداة أو كرقمٍ يتحدّث عنه التاريخ المكتوب رسميّاً.
أمام ذلك، نشهد إعادة الدور للتوثيق الفردي والشفهي وتجميع الوسائل المُثبتة والوقائع والأدلّة من الأطراف غير السلطويّة وخارج إطار دَور السلطة المركزيّة التي كانت لعقودٍ مُحتكِرةً هذه المهامّ، كما نشهد إعادة ترتيبٍ للأدوار بطريقة واقعيّة غير مُمأسَسة، وتحويل ما هو مُتفاعل إلى أمرٍ موثّق من خلال التاريخ المعاش المبني على قصص صغيرة.
وقد بات للمُواطن دَورٌ مباشر في المشاركة في أحد أدوار السلطة ألا وهو عمليّة كِتابة التاريخ، وأصبح التاريخ مُرتبطاً بأشخاصٍ فاعلين باختلاف أدوارهم الاجتماعيّة وهُم الرواة، وأخذ الأرشيف معنىً أوسع، وهو العلاقة بين القارئ والمُستنَد – مهما اختلف شكله وآليّة حفظه – بهدف إنتاج المعرفة التي أصبحت ترتبط بنظرته وتجربته؛ وبذلك أضحت الوثيقة، المكتوبة أو الشفهيّة، أداةً تَدخل في إنتاج المعرفة الحديثة. وارتقى بذلك دَور الباحث والفاعل الاجتماعي من خلال إصدار الوثيقة وتحويلها إلى دليلٍ وتوصيفها واستخدامها، والذي يرتكز على المعايير العِلميّة الحديثة على حساب حصريّة دَور الدولة. وتشابَه بذلك عمل المَحكمة في اعتماد المعايير القانونيّة لتوصيفِ دليلٍ على الحقّ، ودَور المؤسّسات الرسميّة في استنساب الوثائق التاريخيّة في صناعة التاريخ والسياسات العامّة مع دَور المجتمع. وفي ذلك تحصينٌ للهويّة وحفْظٌ للذاكرة وثباتٌ في الانتماء.

كِتابة التاريخ والقانون المكتوب

يرتبط التاريخ وتوثيقه بالنظام القانوني الوضعي المُعتمَد في الدولة، فالدول العربيّة تعتمد القانون المكتوب المأخوذ من النظام المدني الفرنسي بعكس النظام العُرفي المعتمد في الدول الأنكلوسكسونيّة. وتعتمد الوثائق المكتوبة كدليلٍ ذي قوة ثبوتيّة أقوى من الأدلة الشفهيّة في القضايا المدنيّة.
وتختلف قيمة هذه الوثائق بين تلك المُثبتة من موظّف رسمي أو تلك الموقَّعة من أطراف العلاقة، فتتمتّع الأولى بالقوّة الثبوتيّة المُطلقة.
ويعطي هذا النظام إحساساً بالاستقرار في المُعاملات ومصداقيّة، نظراً لارتباط المُواطن بالدولة الناظمة لحقوقه ومُمتلكاته. وقد تشكّلت هذه القواعد وثبتت مع التطوّر الذي واكبَ دَور الدولة التي أصبحت في القرن العشرين دولة راعية لحقوق المُواطِن وضامِنة لها. ومهما اختلفت الأنظمة السياسيّة والاقتصاديّة المُعتمَدة، يبقى النظام القانوني معياراً واضحاً لطبيعة المُجتمع وعلاقته بمؤسّسات الدولة.
ومع التحوّلات الحديثة الناتجة عن العَولمة والثورة الرقميّة والتحرُّر الاقتصادي، نشأ فاعلون جُدد في العمل السياسي والعمل العامّ، وظهرت أدواتٌ جديدة للتأثير على السلطة السياسيّة ومن ثمّ على علاقة المُواطن بدولته وبتاريخه.
من ضمن هذا السياق، شعر المواطن بدَورٍ جديد يلعبه من خلال المُشارَكة المباشرة في الرقابة على أداء القطاعات، وأصبح للديمقراطيّة معاني مُختلفة عمّا كان سائداً قبل عصر العَولمة، حيث أُتيح للأفراد وسائل جديدة للاطّلاع وتداوُل المعلومات والتعبير عن الرأي على صفحات معمَّمة، والتأثير على القرار السياسي عندما يشعرون بتلكّؤٍ من المَجالس التمثيليّة، وعلى توثيق أحداث حياته وعرْضها ومُناقشتها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بما يجعل إمكانيّة تجاهُل هذه الأحداث أو التعتيم عليها أمراً في غاية الصعوبة.
ويتعزّز هذا التفسير مع مفهوم الحَوكَمة المَبنيَّة على مُشارَكةِ مُختلف الأطراف المعنيَّة في عمليّة اتّخاذ القرار في مُختلف القطاعات ومنها كِتابة التاريخ.
لا شكّ أنّ الضمانات التقليديّة التي كان يؤمّنها وجود الدولة كمَصدر للبحث عن المعلومة وتوثيقها قد ضعف وظهرت معايير جديدة مرتبطة بأخلاقيّات التوثيق بدلاً من الضوابط القانونيّة الصارِمة.
فمع تعدُّد المَصادر وتعدُّد الأدوات وعدم حصريّة الجهات، تُصبح إمكانيّة تنظيم العمليّة خاضعة لمفاهيم جديدة وهي نفسها المفاهيم المتعلّقة بالمسؤوليّة الاجتماعيّة للأفراد كما المؤسّسات. فبَين الموجب القانوني والأخلاقي مسافة مبنيَّة على الدوافع النفسيّة والأدبيّات الاجتماعيّة والشعور الإنساني بالمسؤوليّة تجاه محيطه، وفي ذلك معيارٌ أساسيّ من مَعايير المُواطَنة الحقّة وثقافة القانون والحقّ التي يجب أن تَحكم المُجتمعات.

•باحثة لبنانيّة ومُحاضِرة في كليّة الحقوق

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share