Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

أحمد قاسم دماج.. سيرة الضوء

محمد عبد الوهاب الشيباني

لو أن العمر امتد به قليلا هل كان سيفرد صفحة إضافية لسيرة اليمن، التي تتسرب من بين يديه، وتتبخر من حلمه ؟!

أم انه اختار الرحيل ،حتى لا يرى موتا ناجزا للوطن ،بسكاكين القتلة «المشحوذات» بعناية ،على حجر الحقد الخشن.؟!

اليمن انحفرت في وجدانه على هيئة روح كبيرة، وارتسمت بكل تفاصيلها بوعيه كقارئ متفحص لتاريخها البعيد، أو باعتباره شاهداً و فاعلاً في معتركات أحداثها المعاصرة .

ثورة 48 كأولى الخضات الكبرى في هذه الروح، كانت تؤسس للخطوة الكبيرة على طريق المعاناة، التي قادته إلى القلعة الحمراء في تعز (قلعة القاهرة) كرهينة (حول تفاصيلها الراحل «زيد مطيع دماج» إلى عمل روائي رائد في السردية اليمنية المعاصرة) .

الرهينة الطفل، الذي لم يكمل عقده الأول، اُخذ إلى المدينة، التي اتخذها ولي العهد(احمد حميد الدين) آنذاك مركزا للحكم، حتى لا تتمرد أسرته على الأئمة ، فتمرد الشيخ مطيع دماج، لأنه كان يبصر يمنا جديدا يتشكل في رحم الأيام. وجاءت أحداث 1955 ليكون مبصرا لصراع السلطة داخل بيت الحكم، التي عجلت بتآكل مشروع الاستبداد الأمإمي . بعدها كانت مكتبة مطيع دماج والمد القومي وخطابه الثقافي والسياسي، ممرا واعيا قاداه للانخراط في حركة القوميين العرب أواخر الخمسينيات .

كل هذا التراكم المعرفي وخبرة الحياة أصبحا تاليا المؤسسين الفعليين لوعي التمرد الذي طبع الشاعر الشاب بالفصاحة والتأثير، اللذين أدهشا «جمال عبدالناصر» ، حينما زار اليمن في 1964، حين كان فقيدنا رقماً فاعلاً داخل الصف الجمهوري، وموظفا شابا مرموقا (أمين عام مجلس الوزراء في الجمهورية الوليدة)، واحد النجباء المؤمنين بحتمية التحول، في بلد منسي يتحسس مكانه تحت الشمس .

في عام عبد الناصر هذا، سيسجل لمدينة «جبلة» التاريخية استضافتها لمؤتمر «الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل» ،حيث كان لإسهامات الراحل فيه ،بمعية مطيع دماج الأثر الحاسم في إنضاج الصوت الباحث عن الاستقلال الكامل في إطار الهوية اليمنية الجامعة.

انقلاب الخامس نوفمبر1967 ،شكل التحول الصادم في جدار الحلم ،وان كانت «ملحمة السبعين» للدفاع عن صنعاء والنظام الجمهوري، بواسطة العسكريين الشبان وأبناء البرجوازية الصغيرة و الانتلجنسيا الثورية والطلاب والعمال قد خفف قليلا من صدمة الردة في بنية الحكم، غير أن أحداث أغسطس 1968 برائحتها (المناطائفية) الكريهة ،عملت على تضييق الخناق على فعل التحول ودعاته السياسيين ومنهم فقيدنا الكبير، الذي اعتقل برفقة كوكبة من المثقفين اليساريين والقوميين المناهضين لسلطة الانقلاب، بعد أن صار رقما صعبا في التنظيم اليساري الوليد (الحزب الديموقراطي الثوري) والذي مثل استخلاصا حيا لعملية المراجعات النظرية والفكرية للتوجهات السياسية لكثير من الحركيين القوميين .

وبعيد خروجه من المعتقل ،عمل هو ومجموعة من المثقفين اليمنيين في الشمال والجنوب ،وفي رد على تباعدات نظامي الشطرين والتوترات المستدامة بينهما، إلى الدعوة لتشكيل كيان نقابي موحد، للتعبير عن إرادة المثقفين اليمنيين في إعادة توحيد الجغرافيا ، فكانت ولادة «اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين» في أكتوبر 1970 حيث كان فقيدنا ضمن الهيئة التأسيسية للمؤتمر التمهيدي للاتحاد مع مبصر اليمن وحكيمها عبد الله البردوني ، والشاعر عبد الله عبد الكريم الملاحي، والمناضل سالم زين محمد ،والمثقف الموسوعي محمد عبد الواسع حميد ،والشاعر علي بن علي صبرة، وآخرين.

هذه اللجنة وبعد توسع قوام أعضائها إلى 28 شخصا ،تولت الاتصال والتواصل بسبعين أديباً وكاتباً يمنياً، من صعدة «في أقصى الشمال « إلى المهرة «في أقصى شرق الجنوب»، لتشكيل هذا الكيان الحلم ،الذي أبصر النور ـ بعد مخاض عسيرـ في مدينة عدن، التي احتضنت مؤتمرهم الأول في فبراير 1974، لكن قبلها بأعوام ثلاثة وتحديدا في 15 ابريل 1971 ،أعادوا إصدار مجلة (الحكمة) باسم الاتحاد ،بعد أكثر من ثلاثة عقود، من إصدارها الأول في صنعاء في ديسمبر 1938، ورأس تحرير إصدارها الجديد ولقرابة عشرين عاما، الأستاذ عمر الجاوي» رفيق العمر لراحلنا الكبير.

على مدى سنوات السبعينيات ،بين المؤتمر الأول والمؤتمر الثاني الذي انعقد في صنعاء في نوفمبر 1980، تبلور الشعار الرئيس للاتحاد، (تحقيق الوحدة اليمنية في الصدارة من مهام أجيالنا المعاصرة) والذي ظل صامدا حتى المؤتمر الخامس للاتحاد الذي انعقد في عام الوحدة 1990، حيث بدأت التحولات العميقة في بنيته وخطابه وحضوره في الحياة العامة.

الإذابة الواضحة للتناقضات المناطقية والأيديولوجية والسياسية لمنتسبي الاتحاد، خلقت شرطا حيويا مهما لاستمرار الاتحاد قويا ومستقلا في قراراته، وحاضرا في المعترك الوطني، والذي عزز ذلك وجود شخصيات من الطراز الرفيع في قيادته، وعلى رأسهم «عبد الله البردوني « ،الذي كان أول رئيس للاتحاد، حتى المؤتمر الثاني المنعقد في صنعاء 1980 حين خلفه في الرئاسة فقيدنا احمد قاسم دماج للمرة الأولى ولثلاث دورات حتى العام 1990.

وعمل طيلة هذه السنوات ضمن فريق واحد ،من مثقفين وكتاب سعوا بمواقفهم وكتاباتهم، إلى بلورة خطاب تنويري، مهموم بوطن يحاول النهوض من ركام التخلف والعنف، على أساس المواطنة، وحرية التنقل والقول في الجغرافية الواحدة.

وفي الوقت الذي كان نظاما الشطرين، يزيحان خصومهما بالاعتقال والتغييب والمطاردة، كان يجلس في اجتماعات الاتحاد المثقف الليبرالي إلى جوار المثقف الديني، ليتدارسوا أوضاع البلاد وأحوال مثقفيها، ومتابعة قضاياهم وشئونهم ،لهذا كان الشاعر والكاتب والمؤرخ والروائي والمنظر السياسي، الذين لا تجمعهم الانتماءات السياسية الواحدة، يجمع بينهم الاتحاد ومشروعه الوطني، كما أراد المؤسسون .

ولان النظامين ،شمالا وجنوباً، كانا يجرمان العمل السياسي كل بطريقته، الأول يحرمها تحريماً بائناً على قاعدة مقولة «الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة «، والثاني يحصر ممارسة العمل في إطار التنظيم السياسي الموحد أو الحزب القائد، فقد كان اتحاد الأدباء والكتاب، أشبه بالملاذ الآمن للمطاردين والمشردين، الذين يعانون من عسف الأجهزة ،التي كانت تراهم في الشمال، معارضين يساريين مدعومين من نظام الجنوب، في الوقت الذي ترى أجهزة الجنوب في الصوت المرتفع الناقد، الذي يطلقه الاتحاد حيال التجاوزات، يمثل تشويشاً على التجربة الاشتراكية الرائدة في المنطقة».

في هذه الفترة لا يذكر حضور اتحاد الأدباء والكتاب في الذاكرة السياسية والثقافية في البلد المجزأ إلا ويذكر التوأم (دماج والجاوي) بوصفهما أكثر المنافحين عن الوحدة والحريات، وكرسا كل جهودهما وكتاباتهما لإعلاء هاتين القيمتين في جغرافيا، تعاني من كل مشكلات العصر ( استبداد وتخلف وفقر).

ومنذ العام 1990 والعام 1997 قرر الراحل أن يبتعد قليلا عن الهيئات القيادية في الاتحاد، لكنه لم ينقطع عنه، فكان احد رواد مقايله، ملتحما بأعضائه من الأدباء الشبان الذين مثل لهم «وأنا واحد منهم» مرموزا روحيا لمشروع الخلاص.

كنا نلجأ إليه حينما نقرأ وحينما نكتب ،وحينما نريد إبصار دواخلنا متخففة من الغرور والادعاء. بواسطته أحببنا المتنبي الذي كان يجد في شعره الحكيم ردودا شافية على اسئلتنا الوجودية ، وبؤس الأيام التي تتقاذف أحلامنا. ومنه تعلمنا كيف نقرأ تاريخ اليمن بعيدا عن شطط العصبويين، وكيف نقرأ الحركة الوطنية من سير رجالاتها العصاميين، وليس من تجييرات الساسة وتحزبهم. احببنا قراءة الروايات وكتب الفكر الديني المستنير. غصنا معه في موضوع السرديات الكبرى في التاريخ الإنساني .

تقاسم مع الجميع طعامه وشرابه حتى وفاته، لم يتأفف من احد، حتى أولئك الذين اساؤا إليه لم يكن يراهم إلا بعين المحب، أما أكثرهم غلا وحقدا ومرضا فلم يكن يبصرهم إلا بعين المشفق.

عاد إلى الهيئات القيادية للاتحاد في المؤتمر السابع في ابريل 1997 ،في موقع نائب الأمين العام ،حتى يعلم الجميع قيمة التواضع فموقع الرئيس ونائب الأمين العام لم يختلفا لديه مادامت الرغبة في خدمة الاتحاد وأعضائه هي الأساس وليس الطمع في الموقع . لهذا كافأة أعضاء المؤتمر الثامن ابريل 2001 بانتخابه بالإجماع عضوا في المجلس التنفيذي، الذي شكل أمانته العامة برئاسة مجمع عليها للفقيد. وفي هذه الفترة شهد الاتحاد أفضل حالاته في تملك المقرات وطباعة الكتب وإعانة الأعضاء، وقد استند راحلنا في هذه الفترة على شخصيات قيادية فذه ومثقفة مثل المرحوم محمد حسين هيثم الامين العام ونائبه الدكتور سلطان الصريمي، ورئيس لجنة الحريات المرحوم زين السقاف.

في المؤتمر التاسع 2005 ستعمل السياسة نابها المسموم في لحم الاتحاد، لإعادة تطويعه وتدجينه وكانت أولى خطوات ذلك إقصاء دماج وهيثم والصريمي من مواقعهما ، غير ان فقيدنا لم يترك او ينقطع عن الاتحاد، فقد كان يحضر الى المقر ولم يتخلف عن اجتماعات المجلس التنفيذي، واسهم بفعالية في التحضير للمؤتمر العاشر ، الذي انعقد في مدينة عدن في ابريل 2010 ، بعد أربعين عاما من احتضانها مؤتمر التأسيس، وستة وثلاثين عاما من المؤتمر الأول، وعاد أعضاء المؤتمر مجمعين للتصويت لانتخابه مرة أخرى للمجلس التنفيذي، وكأنهم يريدون ان يقولوا للجميع أنهم يصوتون للقيمة الفضلى في تاريخهم الجمعي، ومرموزهم الفذ احمد قاسم دماج. غير انه لم يقبل تسلم أي موقع قيادي في هيئاته.

ومرت أعوام ستة ،ودخل الاتحاد في شتاء الانقسام والتذرر كحال البلاد، لكن الاتحاد لم ينطفئ بداخل فقيدنا، فقد كان يتصل سائلا ومعاتبا و «معرعرا « أيضا ،عن الحال الذي وصل إليه هذا الكائن الرمزي الذي جمع ذات يوم أحلام كل اليمنيين.

إنه الضوء الذي قد يتوارى كصورة أمام العين ، لكنه بالتأكيد ساطع كسيرة داخل فعل التاريخ الحنون على الاستثنائيين من البشر ،الذين كان احمد قاسم دماج احدهم.

لروحك السلام يا سيدي..

Share

التصنيفات: ثقافــة

Share