Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

جمال عبدالناصر.. من الشعب وإليه

هدى جمال عبدالناصر

 

أجدني في هذا اليوم 15 يناير- يوم مولد والدي في 1918م- أتأمل ذلك التاريخ الذى وافق نهاية الحرب العالمية الأولى وتطلع مصر إلى الحصول على الاستقلال بعد أن قامت بدور مهم أثناء الحرب. إلا أن ثورة 1919م اندلعت عندما تيقن الشعب وقادته- وأهمهم سعد زغلول- أنه لا فائدة من استجابة المستعمر للأماني القومية.

 

ومضى الطفل جمال غير واعُ- لصغر سنه- بالأحداث الجسام التي كانت تمر على مصر.. فقد انتهت ثورة 1919م بأن منحت بريطانيا مصر استقلالاٍ اسمياٍ منقوصاٍ في 28 فبراير 1922م وتلاه دستور ليبرالي بمنطق العصر ثم تولى سعد زغلول الوزارة فى فبراير 1924 وفي نفس العام كان مقتل السير لى ستاك- حاكم السودان- في القاهرة على يد شاب مصري وقد نتج عن هذا خروج سعد من الوزارة ثم رحل إلى ربه فى 23 أغسطس 1927.

 

وفورا بدأ التناحر الحزبي بعد الثورة حتى فى عهد الزعيم سعد زغلول وحدث أول انشقاق فى حزب الوفد فى سبتمبر 1922 على يد عدلى يكن مكوناٍ حزب الأحرار الدستوريين.

 

وفى عام 1930م تولي رئاسة الوزارة إسماعيل صدقى- ذو اليد الحديدية- وألغى دستور 1923 وأبدله بدستور كان لا يرق لآمال المصريين فانتشرت المظاهرات تدعو لعودة دستور 1923 في القاهرة والإسكندرية.

 

فى ظل هذه الظروف وفي يوم كان جمال- ذو الاثني عشر عاما- راجعاٍ من مدرسته الابتدائية- «رأس التين» بالإسكندرية- إلى منزله فوجد مظاهرات واشتباكات بين التلاميذ والشرطة ولم يكن يعرف السبب ولكنه انضم على الفور إلى الفريق المعادي للسلطة. وفجأة وصلت حمولة لوريين من الجنود وانقضوا على المتظاهرين وكانت من نصيب جمال عصا أحدثت جرحاٍ عزيزا فى جبينه ثم اقتيد إلى الحجز فى قسم البوليس مع المشاركين الآخرين. وهناك سأل جمال: ما سبب هذه المظاهرة¿ فقيل له: إنها من أعضاء حزب مصر الفتاة يحتجون على إلغاء دستور 1923!

 

هكذا وجد الطالب جمال عبدالناصر نفسه فى قضية أكبر منه ولكنه قال فيما بعد: «وقد دخلت السجن تلميذاٍ متحمساٍ وخرجت منه مشحوناٍ بطاقة من الغضب».

 

ومضت السنون.. والكفاح من أجل الدستور والجلاء مستمر من جانب جميع الفصائل السياسية إلى أن أصدر صمويل هور- وزير خارجية بريطانيا- تصريحاٍ يقول فيه: إن مصر ليست مستعدة بعد لحياة دستورية ديمقراطية.

 

وهنا اندلعت مظاهرات الطلبة وانضم إليهم العمال وتجولت قياداتهم بين السياسيين فى بيوتهم من أجل الوحدة لتحقيق الأمانى القومية. وكان جمال يشارك هؤلاء فقد كان رئيس اتحاد مدارس النهضة بالقاهرة.

 

وقد وجدت من ضمن أوراق والدي مسودة بخطه لكلمة ألقاها في الطلبة في ذلك الوقت يقول فيها: «… أين نحن اليوم من سنة 1919¿! نحن الآن في طريق إلى عبودية جديدة! هل سمعتم تصريح وزير خارجية بريطانيا¿! أليس هذا دليلاٍ على أنهم لم يكونوا جادين فى وعد استقلالنا¿ أليس منع الدستور برهاناٍ على أن الاستقلال الذى يدعونه لمصر استقلال مزيف¿! وإلا فكيف يعسكرون في بلد تابع لحكومة مستقلة كما يدعون¿! ما هذا التناقض¿!… يجب أن تعلموا أن أمتكم ليست مستقلة وأن الدماء التي بذلت رخيصة سنة 1919 ذهبت دون أى ثمن»!

 

وقد جرح طالب الثانوي- جمال عبدالناصر الذي كان يبلغ 17 عاما- ضمن آخرين من زملائه أثناء هذه المظاهرات كما استشهد آخرون بفعل رصاص البوليس الذى كان يرأسه فى ذلك الوقت راسل باشا!

 

نقل جمال عبدالناصر إلى أقرب مكان من المظاهرة وكانت «دار الجهاد» الصحفية نشرت فى اليوم التالى أسماء الجرحى وبينهم جمال.

 

لن أكتب هنا عن رسائل جمال إلى أصدقائه التي تنم عن شعور وطني جارف ولا عن المقتطفات الأدبية التي نسخها بخط يده والتى تدل على إحساس مرهف بالفروق الطبقية في المجتمع ولا عن رد فعلها فى شخصيته- في ذلك الوقت- في مزيد من الشعور بالكرامة والاعتداد بالنفس ولن أصف مدى إعجابه بالزعيم الوطني مصطفى كامل واحتفاظه بكراسة تضم مقتطفات عن مواقفه وآرائه.

 

إنني أريد أن أتحدث عن الهدف الذي وضعه جمال أمام عينيه بعد أن تخرج فى المرحلة الثانوية وهو الانضمام للجيش الذى يملك القوة التي من الممكن أن تحقق التغيير.. تغيير ماذا¿ التغيير الاجتماعي بالدرجة الأولى الذى يحقق العدالة الاجتماعية والتغيير السياسي الذى يضع السلطة في يد الشعب بدلاٍ من الإقطاعيين والرأسماليين والملوك الدخلاء والمحتل البريطاني.

 

إن قصة التحاق جمال عبدالناصر بالكلية الحربية معروفة وكيف أنه رْفض عندما تقدم للمرة الأولى لأنه ابن موظف فقير وليس لديه واسطة! ثم التحق بكلية الحقوق لمدة ستة أشهر وعندما طلبت الكلية الحربية دفعة أخرى في 1937 تقدم وتم قبوله بعد أن تحدث مع اللواء إبراهيم خيرى وكيل وزارة الحربية الذي سانده لاقتناعه بوطنيته.

 

لقد أحس «جمال» بالفقر طوال حياته حتى تخرج «ملازم ثانى» في أول يوليو 1938. وتشير خطاباته المتبادله مع والده إلى مدى ضيق الحال بأسرته فوالده موظف بسيط وله إخوة شارك والده فى حمل هم مصاريفهم في الحياة وفي التعليم. وقد أدهشنى خطاب منه إلى والده يأخذ رأيه فى إمكانية تبادل المراكز مع زميل له من منقباد إلى العريش لأن فيها 140 قرشاٍ فرقاٍ فى «الماهية»!

 

ومما يلفت النظر في هذه الخطابات سعيه الدؤوب ليحصل شقيقه الليثى على مجانية التعليم بعد أن حصل على أكثر من 70 والاتصال بصديق له فى هذا الشأن. ولعل إحساسه بالعبء الذي يقع على الأسرة الفقيرة هو الذي جعله يقر بعد ذلك المجانية الفعلية فى جميع مراحل التعليم ويْضمنها فى الدستور إن التعليم هو الوسيلة الوحيدة لدى الفقير لكي يرقى فى السلم الاجتماعى ويعيش حياة أفضل.

 

حتى وهو فى قلب المعارك في حرب فلسطين كان حريصاٍ على تتبع تحويل «الماهية» إلى أسرته الصغيرة في القاهرة. وحينما اشتدت ضربات العدو وهو في أشدود وجْرح كتب في يومياته.. «فلا يشغلني أي شيء إلا تحية والأولاد فإن حياتي ليست لها قيمة إلا لأجلهم».

 

وبعد قيام الثورة تمسك بمبادئه فقال في خطاب له مع أبناء أبنوب: «أنا أفخر دائما بمركز أبنوب وأفخر دائما بأني واحد من أهالي بني مر وأفخر أكثر وأكثر من هذا بأني واحد من عائلة فقيرة نشأت في بني مر.

 

يا إخواني.. وأنا أقول لكم هذا الآن لأسجل أن جمال عبدالناصر نشأ من عائلة فقيرة وأعاهد فى نفس الوقت أن جمال عبدالناصر الذي نشأ من عائلة فقيرة سيستمر حتى يموت فقيراٍ في هذا الوطن».

 

هل وفى بالعهد¿

 

لقد ظل بالسلطة أكثر من ثمانية عشر عاماٍ انحاز فيها تماما إلى الفقراء. ولقد كان البعد الاجتماعي متواجداٍ دائما فى قراراته حتى آخر لحظة حين أعلن فى 23 يوليو 1969 آخر تحديد للملكية الزراعية بخمسين فداناٍ للفرد ومائة فدان للأسرة وذلك وسط نيران حرب الاستنزاف!

 

لقد ترك جمال عبدالناصر إنجازات كثيرة للإنسان المصري ظلت تْسلب منه شكلاٍ وموضوعاٍ واحدة تلو الأخرى وهو ساكت! لقد آن الأوان بعد ثورة 25 يناير أن يسترد الشعب هذه المكاسب بيده ولا ينتظر ممن فى السلطة الاستجابة الفورية.

 

لذلك كله احتل «جمال» مكاناٍ لا يضاهى في قلب الشعب المصرى وظل طوال وجوده في السلطة محققاٍ أهدافه سباقاٍ فى تجسيد آماله.. لقد التحم فعلاٍ بالشعب إلى أقصى مدى وهذا هو سر نجاحه. وإن صورة جثمانه فوق المدفع تحيط به ملايين الجماهير هي خير تعبير عن ذوبانه في الشعب فالطرفان أخلصا لبعض وساندا بعضاٍ فى المحن واحتفلا سوياٍ بالانتصارات وظل الشعب على مدى اثنين وأربعين عاما وفياٍ له يلجأ إلى ذكراه في الشدائد ويحكي عنه للشباب.. قدوة واحتراماٍ..

Share

التصنيفات: خارج الحدود

Share