Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

أنيس منصور مودعاٍ: تركت كل ما كتبت!

أنيس منصور مودعاٍ: تركت كل ما كتبت!
الاتحاد/ إيهاب الملاح
> سئل أنيس منصور في حديث صحفي أجري معه في منتصف السبعينيات تقريباٍ هذا السؤال: ماذا بعد عمر طويل ستترك في هذه الدنيا¿ فكانت إجابته ما يلي: “سأترك كل ما كتبته.. كم من الذي كتبته يستطيع أن يعيش طويلا.. أعتقد أن الذي يحتوي على معنى يمس الناس ويساعدهم أكثر هو الذي يعيش أكثر”.
كان أنيس منصور صادقا فيما قال.. لم يترك شيئا باقيا سوى ما كتب وما كتب سيظل باقيا ما بقي من يقرأه ويعود إليه وينتفع به وقد ترك أنيس منصور كل ما كتب وهو كثير غزير على مدار حياته الإبداعية والصحفية وطوال أكثر من 60 عاما عاشها محبا للآداب والفنون دارسا للفلسفة ومدرسا لها مشتغلا بالصحافة وأستاذا من أساتذتها متأملا ومفكرا في أحوال الناس والدنيا والتاريخ ومسهما في كل تلك المجالات بكتب ومؤلفات قاربت الـ250 كتاباٍ تشكل في مجموعها مكتبة كاملة متكاملة من المعارف والعلوم والفنون والآداب والسياسة والصحافة عكست نظرته ورؤيته للكون والإنسان والحياة وسجلت تاريخه وحياته وساهمت في تشكيل وجدان وثقافة أجيال عديدة من الشباب في العالم العربي كله.
250 كتابا بالتمام والكمال عدا ما يصعب حصره من المقالات والكتابات غير المنشورة التي تركها هي حصيلة ما استودعه أنيس منصور من كتب ومؤلفات.. ولعله واحد من أغزر المؤلفين المصريين إن لم يكن أغزرهم في النصف الثاني من القرن العشرين وهو في ذلك يعد استمرارا واستكمالا لجيل العمالقة من المفكرين والأدباء والكتاب الذين كانوا غزيري الإنتاج بشكل ملحوظ وكان عطاؤهم ونتاجهم العلمي والأدبي يشكل في مجموعه مكتبات زاخرة سخية من المعارف والعلوم والفنون والآداب.. هو في ذلك من حيث الكم نافس بل فاق في أحيان كثيرة طه حسين والعقاد وهيكل وأحمد أمين وسلامة موسى وتوفيق الحكيم.. ومن الأجيال التالية: يحيى حقي وسعد مكاوي وصلاح عبدالصبور وآخرين.
وما بين الكتاب رقم “1” والكتاب رقم “250” رحلة طويلة مديدة عامرة بكل ما يمكن أن يدهشك ويعجبك ويثير سخطك أيضاٍ! لكنك أبداٍ لا تترك كتاباٍ له أمسكت به وشرعت في قراءته قبل أن تتمه أو أن تطالع بعينيك السطر الأول من مقاله اليومي المنشور هنا أو هناك بهذه الجريدة أو تلك إلا وتجد نفسك مسحوباٍ بكامل إرادتك ورغبتك في متابعة ما يقول حتى لو كان “ريان يا فجل”!
هذا هو أنيس منصور.. بارع براعة لا توصف في أن يجذب إليه آلاف القراء في نفس واحد لمتابعته وقراءته حتى لو كانوا من أشد مخالفيه في الرأي أو من الحانقين عليه أو حتى من الكارهين! كان أول كتاب فوجئ به أنيس منصور مطبوعا له وعليه اسمه كتاب “وحدي مع الآخرين” وقرأ على غلافه الخارجي العبارة التالية “مقالات بقلم: أنيس منصور” وهو عبارة عن مقالاته التي كان ينشرها آنذاك بـمجلة “الجيل” وكانت كل علاقته بهذه الكتاب أنه وقع تحت يده مصادفة أثناء زيارته لدمشق حيث عثر عليه في حي سوق الحميدية الشهير بسوريا ولم يكن له صلة لا بجمعه ولا بنشره ولم يكن يعلم من الأساس بأن هناك كتابا مطبوعا له يطبع ويوزع بهذا البلد العربي الشقيق وهو ما جعله يشعر كأنه بحار تسلم خطابا أن زوجته ولدت ففرح! حسب وصفه فأول كتاب له صدر في غيابه وبغير علمه!
أما أول كتاب ولد على يديه وطبع ونشر بمعرفته فهو كتاب “الوجودية” الذي نشرت طبعته الأولى عام 1951 وكان عمره آنذاك 27 سنة وهو كتاب صغير يمكن أن يدرج في عداد الكتب التعليمية المبسطة بلغة عربية سهلة وكان دائما ما يعتز بأنه من أسبق الكتب المكتوبة بالعربية للتعريف بالوجودية بلغة بسيطة وقد طبع من الكتاب أربع طبعات في شهر واحد ونفدت نسخه المائة ألف وهو يرد سبب ذلك إلى أن الموضوع كان محل اهتمام الناس في ذلك الوقت وجاء في عبارة سهلة المأخذ ميسورة الفهم. ويكاد يكون هذا الكتاب أيضا الوحيد المخصص بكامله للفلسفة وهي من الأشياء اللافتة والمثيرة للدهشة في نتاج أنيس منصور الفياض.
وما بين الكتابين الأول والأخير توالت وتتابعت كتب أنيس منصور كالشلال في كل فروع المعرفة وفي كل المجالات: صحافة سياسة أدب تاريخ وتراجم دراسات نقدية قصص ومسرحيات مترجمات رحلات دراسات نفسية.. إلخ.
سجل “سيرته الذاتية” في أكثر من كتاب منها “البقية في حياتي” “طلع البدر علينا” “إلا قليلا” “حتى أنت يا أنا”. لكن يبقى من بينها كتابه الأهم والأضخم “عاشوا في حياتي” الذي خصصه لأهم مراحل حياته وبالأخص فترة الطفولة وتفتح الوعي وعلاقته بأمه التي شكلت وجدانه وحياته ومستقبله كله فيما بعد وأيضا ما تأثر بوالده فيه وفترة الكتاب وحفظه القرآن وسجل في هذا الكتاب صفحات بديعة ورائعة يصف فيها بأسلوبه الرشيق كثيرا من المعتقدات والعادات الشعبية التي كانت وما زالت تسود في قرى مصر وريفها وهي في رأيي تمثل مادة فلكلورية طيبة لا غنى عنها لأي دارس أو باحث في المأثورات الشعبية.
وفي “أدب الرحلات” ساهم أنيس منصور بنصيب وافر من الرحلات التي جاب فيها أنحاء العالم شرقه وغربه شماله وجنوبه دونها في كتب كثيرة: “اليمن ذلك المجهول” “بلاد الله.. خلق الله” “أطيب تحياتي من موسكو” “أعجب الرحلات في التاريخ” “غريب في بلاد غريبة”.
لكن يظل من بينها جميعاٍ كتابه الأشهر والأكثر إمتاعاٍ وجمالاٍ “200 يوم حول العالم” نموذجاٍ رائعاٍ لأدب الرحلة في الأدب العربي الحديث وكتابه “في صالون العقاد كانت لنا أيام” من أكثر كتبه رواجا وانتشارا وذيوعا ومارس تأثيراته البالغة على أجيال كاملة من الشباب والكتاب والصحفيين وتخطى عدد طبعاته الخمسين ومنذ سنوات قليلة احتفل أنيس منصور بصدور النسخة المليونية من هذا الكتاب الذي حطم كل الأرقام ومثل ظاهرة لاتتكرر كثيرا في عالم النشر والكتب والمطبوعات ووضع اسم أنيس منصور في مصاف أهم وأعظم كتاب أدب الرحلة في مصر خلال القرن العشرين.
أما كتابه الأشهر أيضاٍ “في صالون العقاد كانت لنا أيام” فهو وكما وصفه المؤرخ الراحل الكبير حسين مؤنس “كتاب ضخم فاتن” ولا أظن أن كتابا في الأدب وتاريخ تلك الحقبة الساطعة من الفكر والثقافة “تاريخ الفكر والثقافة المعاصرة” جذب الناس واستحوذ على إعجابهم لفترة طويلة مثلما جذبهم هذا الكتاب وفصول الكتاب عبارة عن الحلقات التي كان ينشرها أنيس منصور أسبوعيا على صفحات مجلة “أكتوبر” وكان القراء ينتظرون صدور المجلة على أحر من الجمر لقراءة ما يكتبه أنيس عن العقاد وذكرياته معه كذلك كان أنيس منصور تلميذا نجيبا من تلامذة العقاد الكبار لم يفتأ يذكر أنه كان على رأس أهم الكتاب الذين أحبهم وتأثر بهم واختلف معهم لكنه لم يسمح لنفسه أن يكون من دراويشه المسبحين بحمده وعلى الرغم من ذلك فلم يستطع أنيس إلا أن يفرد للعقاد هذه الدراسة الضخمة التي قارب عدد صفحاتها السبعمائة صفحة من القطع الكبير.
وحول شخصية عباس محمود العقاد العملاق وصالونه الأدبي الشهير الذي كان يعقد يوم الجمعة حيث يتحلق فيه حول أستاذهم مريدوه وتلاميذه على اختلاف تياراتهم وتفاوت مشاربهم وتباين تخصصاتهم.. أدار أنيس منصور تاريخ مصر الفكري والاجتماعي والسياسي خلال سبعين سنة هي التي نسميها بعصر العمالقة دراما عصر كامل حافل بالأفكار والتيارات والمآسي.. وعندما مات العقاد انفض السامر واللاعب.
وترك أنيس منصور طائفة من الكتب التي تناولت ما وراء الطبيعة وألغاز الكون والحياة وما يمكن أن يدخل في دائرة الغيبيات والقوى الخارقة وهي التي ضمت “أرواح وأشباح” “لعنة الفراعنة” “الذين هبطوا من السماء” “الذين عادوا إلى السماء”.
أما آخر كتبه فكانت خمسة كتب دفعة واحدة هي: “معنى الكلام” و”في انتظار المعجزة” و”اللعب غريزة منظمة” و”أنا اخترت القراءة” و”من أجل عينيها” وعلى الرغم من العناوين المختلفة للكتب الجديدة إلا أن مضمونها جميعا يطوف بنا في جنبات السياسة والفلسفة والتاريخ والرياضة والحب والحياة.
ويتبقى أن أنيس منصور صرح في أكثر مناسبة من قبل أنه انتهى من تأليف عدد من الكتب المهمة وأنها على وشك الصدور يأتي على رأسها كتابه الذي ظل محتفظا به طوال ثلاثين عاما عن أوراقه مع السادات خصوصا في الفترة من 1975 إلى 1981 التي كان فيها أنيس منصور “الجورنالجي” الأول في مصر والصديق المقرب للسادات وكاتم أسراره ورجل المهام الخاصة والسرية. وإذا كان أنيس منصور قد أصدر قبل قرابة العام ونصف كتابه “أوراقي مع السادات” عن دار المعارف الذي أحدث صدوره أصداء عالية فإنه في الحقيقة تمهيد وتهيئة لكتابه المشار إليه.
وكان أنيس قبل أيام من مرضه الأخير ووفاته قد عكف على كتابة مذكراته الصحفية تحت اسم “علي ومصطفى أمين” باعتبارهما يشكلان مدرسة صحفية متميزة داخليا وخارجيا حيث وصفهما بأنهما قاعدة لإطلاق الصواريخ الصحفية. وتطرق أنيس منصور في مذكراته لأحداث جديدة ومواقف لا تنسى مع هؤلاء النجوم لم يسجلها في سلسلة كتبه السابقة.
كذلك كان أنيس منصور قد أعلن في حوار تليفزيوني أذيع في العام الماضي أنه يجهز لكتاب مخصص بالكامل لأمه التي كانت شخصية محورية في حياته وأوصى بدفنه بجوارها واختار له عنواناٍ دالاٍ بديعاٍ “أمي.. ابنها” ولا أعلم إن كان انتهى من كتابته أم لا..<

Share

التصنيفات: منوعــات

Share