Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

ورق أم أثير¿

أمجـد ناصـــر  

منذ نحو خمسة آلاف عام بدأت الكتابة ليس هناك تاريخ دقيق للحظة ولادتها ولكن هذا ما يجمع عليه المختصون حدثت تلك النقلة الحاسمة في تاريخ البشرية على ما تقول المصادر التاريخية في بلاد الرافدين فقد صارت للإنسان مع استيطانه وتمدينه حاجة إلى التدوين سواء تعلق الأمر بشؤونه الروحية والثقافية أم بمعاملاته الدنيوية.

ومثلما بدأت اللغة بإشارات وإيماءات هكذا كانت الكتابة: رموز وصور قبل أن تتحول إلى إبجدية صوتية تجهد لتدوين الكلام والأفكار والمعاملات والأرقام واشاعتها على نطاق صار يصعب اليوم تصور مداه. رحلتنا مع الكتابة قديمة إنها البرهة الملهمة التي اكتشف فيها الانسان شيئاٍ آخر غير عضويته شبه الخام لحظة تساؤله عن ذاته ووظيفتها في الكون ومحاولته التعبير عنها على نحو يتلاءم مع تعقيد هذه الأسئلة أبعد من رسم الكهوف أكثر جدلاٍ وتعقيداٍ من صور الاشياء إنها لحظة تدوين السؤال المعنى. لحظة تحقق باهرة على طريق الشرط الانساني فما الانسانية دون كلمات ومعان¿ ما هي دون تعبيرها عن وجودها وأشواقها وقلقها ومطامحها¿ لم يكن ممكناٍ للإنسانية أن تتحقق دون كلمات دون كتابة مغادرة الانسان لعجمته ليست باكتشافه النطق بل بتدوين هذا النطق وتحويله إلى تعبير.

 ولكن الكتابة تحتاج وسيطاٍ كي تنتقل كان الوسيط الأول كما نعرف الرقم الطينية كان كتبهِ الألواح الأولى ينقشون على الطين وهو طري بأداة ذات سن رفيعة قيل إنها من البوص هل كانت تسمى أقلاماٍ¿ ربما ولكن ذلك الحفر على الطين هو أول أشكال الكتابة المتداولة تلك الألواح الطينية هي أول خطى رحلة الكلمة الطويلة وتلك الأدوات الحادة ذات الاسنان الرفيعة (من البوص أو غيره) هي أول الاقلام لكن دخول الورق على الكتابة هو الذي غيرها سهل مهمة نقلها واشاعتها أخرجها من المعبد والبلاط وصالونات النخبة المحظوظة إلى هواء الشارع الطلق.

جعلها أكثر ديمقراطية من المرجح أن الصينيين هم الذين قدموا هذه الهدية الثمينة للإنسانية حدث ذلك كما تقول المصادر التاريخية في القرن الأول الميلادي ذلك الورق مختلف عن ورق البردي الذي عرفه المصريون في فترة أقدم فهو أكثر صلابة وقابل للطباعة التي ستأتي لاحقاٍ أياٍ يكن الأمر سواء كان ورق كتابتنا الأول قادماٍ من الصين أم من مصر فقد ظل وسيط الكتابة قروناٍ كانت هناك جلود الحيوانات العظام الفخار غير أن الورق هو الذي سيكتب له شرف احتضان إرثنا الكبير من ثقافة الأسلاف.

لكن يبدو أن تاريخ الكتابة ووسائطها على موعد حاسم أمام نقلة لم يكن ممكناٍ تخيلها قبل عشرين سنة فقط عشرون سنة تتحدى عشرين قوناٍ عشرون سنة تهدد بإرسال هذا الإرث البشري الكبير إلى المتحف!

من كان يتخيل أن الورق والقلم والحبر هذه الأدوات النبيلة التي رافقت الانسان المتحضر طويلاٍ ستكون أمام مفترق طرق قبل أن يدخل الكمبيوتر¿ ولكن هذا ما حدث أنا الذي كتب طويلاٍ بالقلم على الورقة منبطحاٍ على البطن (أيام الصبا) جالساٍ على »ديسك« خشبي مدرسي إلى طاولة في مقهى خلف مكتب في صحيفة لم أعد أعرف كيف أكتب بالقلم على الورقة!

يدي صارت أثقل أصابعي أقل تحكماٍ بالقلم أفكاري وكلماتي تتعسر ولادتها في طريقها إلى الورق الكلمات التي كتبتها آلاف المرات من قبل صرت أكتبها بمشقة بشطب وحذف بلا رونق جمالي يذكر حدث كل هذا بعد وقت قصير من انتقالي مضطراٍ بسبب عملي المهني من عصر الورقة والقلم إلى عصر »الكيبورد«.

هذا دأبي أنا ومن هم في سني ولهم تاريخ طويل مع الكتابة عبر وسائطها »التقليدية« فما بالكم بمن ولدوا مع »الكمبيوتر والكيبورد¿«.

هل ينطبق هذا الاضمحلال على مصير الكتابة التي تحتضنها الوسائط »التقليدية« الكتاب الصحيفة المجلة إلخ¿

يبدو أن شيئاٍ كهذا يحدث الأن وربما كنا أمام لحظة مفصلية لا تقل حسماٍ وانعطافاٍ عن لحظة صناعة الورق.. لكن الملاحظ حتى هذه اللحظة أن الوسائط الجديدة لم تنتج كتابة جديدة فأفضل ما هو منشور على الشبكة العنكبوتية مأخوذ من الصحافة والكتب المطبوعة على الورق..
 

 

 شاعر وكاتب من الأردن

Share

التصنيفات: ثقافــة

Share