Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

هل تموت الأساليب الإنشائية؟

توفيق قريرة*

حين نتحدث عن أساليب ،القول نحن نتحدث عن طرق في الكلام شبيهة صوريا بأساليب اللباس والأكل والمشي والعرض وغيرها من الطرق التي تعتمد في تعبير ثقافي معين، وترتكز على جملة من القواعد والتقاليد والسنن الضمنية. في دروس البلاغة القديمة الغربية، أو العربية تخصص أبواب تطول أو تقصر لما نسميه اليوم «الأساليب» الإنشائية وغالبا ما يكون القصد منه في تلك البلاغة تعليميا، لكنه يكون أيضا فكريا وهذا هو الأصل في العلوم، فدور الفكر في تلك بالأساليب أن يبحث في تشكيلاتها وعلاقاتها وأهدافها وأحيانا تاريخها.

في هذا المقال لن نتحدث عن هذه الأساليب، ولا عن فكرها البلاغي أو الفلسفي الذي أحاطها في جميع مراحل تطورها، بل سنتناول مسألة مجاوزة للفكري وللعلمي هي، مسألة موت الأساليب الإنشائية: هل هي قابلة للموت؟

نحن نفكر في موت اللغات وتصنف في ذلك الكتب، بالطبع نحن نتحدث عن تلك الكتب العلمية التي تنطلق من حيثيات وعينات من اللغات المندثرة ولا نتحدث عن انطباعات هنا وهناك، حول قرب موت لغة أو التكهن به. موت اللغات لا كهنوت فيه ولا يحدث فجأة، هو منبئ بالوقوع ومنتظر ويسبق بالاحتضار وأشنعه موت البشر، الذين كانوا يتكلمونها فأكثر الناس حفظا لحياة اللغات هم متكلموها. أغلب حديثنا عن العربية هو خوف لا مبرر له من أنها يمكن أن تمحي وتزول بين عشية وضحاها. هذا الحديث العاطفي المتشائم الذي لا تؤكده أي دراسة علمية صارمة هو حديث ثقافة تريد أن تبث بعضا من عجزها عن الفعل في التاريخ، وترده إلى قصور لغتها ومهاجمة لغات أخرى لها. من الخطأ أن نعتقد أن لغة لا تنتج العلم هي لغة تحمل موتها، فالعلم لا يحتاج لغة معينة كي ينتج، ونحن نعلم أن علوما كثيرة لا تحتاج لتتبلور لغات طبيعية، بل لغات صورية لكي تتبلور. حياة اللغة لم يرتبط يوما بالعلوم بل ارتبط بالمتكلمين عددا وفعلا ثقافيا (لا علميا بالضرورة) في التاريخ.

حين تموت اللغات ستموت أساليبها بالضرورة، أي ستنقرض أشكال معلومة مما نسميه أمرا ونهيا ودعاء وطلبا وغيرها. لكن التسميات، التي أسندتها أنا الآن إلى هذه الأساليب وافترضت أنها كانت موجودة في اللغات التي اندثرت هو استعارة مني لما تعرفونه في لهجاتكم ولغاتكم من الأمر والنهي مثلا. لكن ما ينبغي أن يُعلم أن الأمر في العربية مثلا ليس هو الأمر في لغات أخرى، فهناك نقاط التقاء ونقاط اختلاف لغوية وثقافية تفصل بين الكيفيات التي تنجز بها الأساليب في لغة أو في أخرى.

من جهة أخرى يكون موت الأساليب في اللغات التي هي على قيد الحياة بأن تتوقف جماعة لغوية عن حاجتها إلى أسلوب بعينه. في المجموعات المتدينة مثلا يُحتاج إلى الأساليب المكرسة لهذا التدين ففي أساليب التخاطب مع السلطة الدينية العليا سنجد فنونا من الأساليب التي تضطلع بهذا الدور التخاطبي بين المتدين والآلهة، أو الإله فنحن قد نجد على سبيل المثال المناجاة والدعاء والابتهال والتهجد والصلاة (أسلوبا في القول وليس في الممارسة) وغيرها من الأساليب التي يتقن المتدينون والدارسون لأقوالهم التفريق بينها. هذا الضرب من التفريع الأسلوبي في مخاطبة العابد للإله يقل أو يضمر أو يتلاشى في المجموعات التي لا تستعمله. بعض الناس لا يتصورون أن هناك ثقافات صغرى (أو كبرى) لا تحتاج أسلوب الدعاء؛ على الرغم من أن الأساليب المكرسة في جماعة ليس عليها أن تتداول في أخرى.

إن الانتقال في الوضعيات الإيمانية إما بالتقليل من الكلف بالعلاقة العلوية المقدسة أو بالخروج كليا من دائرتها، من شأنه أن يصاحب بعدول في أسلوب التخاطب اليومي. ولتيسير هذه الفكرة سنأخذ مثالا من سورة الكهف (الآيات 35-39) لنبين به هذا الانتقال الآني في أسلوب التخاطب، بين من هو في دائرة الإيمان ومن انتقل عنها قليلا أو كثيرا. فسوف نرى ضربين من درجة الثبات على الخطاب الإيماني القديم، الأول منهما يستعمل أسلوبا، والثاني الذي في سلوكه عدول طفيف أو عنيف يولد أسلوبا آخر ويترك أسلوبه القديم. ففي الآيتين 35 -36 يقول تعالى: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال: ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمةً.

إن الانتقال في الوضعيات الإيمانية إما بالتقليل من الكلف بالعلاقة العلوية المقدسة أو بالخروج كليا من دائرتها، من شأنه أن يصاحب بعدول في أسلوب التخاطب اليومي. ولتيسير هذه الفكرة سنأخذ مثالا من سورة الكهف (الآيات 35-39) لنبين به هذا الانتقال الآني في أسلوب التخاطب، بين من هو في دائرة الإيمان ومن انتقل عنها قليلا أو كثيرا.

ولئن رُددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا). قُدم كلام هذا الرجل الذي فتنته جنته بخطاب يقيمه، ويوجهنا إلى فهم كلامه وجهة إيمانية متينة، وبالتالي يضعه بالنسبة إلى تلك الدائرة في هامشها، أو على شفا الخروج منها: لقد سمي ذلك «ظلما للنفس»، وهو ظلم سنرى انعكاسه في الخطاب الذي فيه ضرب من الحكم على اللحظة المقبلة، انطلاقا من اللحظة الحاضرة ومعلوم أن في ذلك قراءة مغالطة للمشيئة الإلهية بمنظار ديني: اطمئنان لجنة الدنيا ووثوق في جنة الآخرة. العدول من الناحية الأسلوبية كان في استعمال الإخبار بدلا من الدعاء، فإن تخبر عن مستقبل فذلك «استشراف» بالتعبير الحديث، وإن تكن مؤمنا طامحا لدوام النعمة في العاجلة طامعا في ما أكثر منها في الآجلة، فذلك يقتضي الحمد أو الدعاء وهو ما لم يكن في كلام الرجل. في الآيات الثلاث 37 -39 اللاحقة بيان للكيفية التي ينبغي أن يكون عليها الخطاب المناسب لهذا السياق قال تعالى: (وقال له صاحبه وهو يحاوره: أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا . لكنا هو الله ولا أشرك بربي أحدا. ولولا إذ دخلت جنتك قلت: ما شاء الله لا قوة إلا بالله أن ترنِ أنا أقل منك مالا وولدا).

ما اعتبر في الموضع السابق «ظلما للنفس» عد في تقييم الصاحب «كفرا»، قد يكون ذلك تفصيلا للكفر أو لظلم النفس ليس هذا مهما، لكنه يعنينا ههنا في بيان أن ظلم النفس، أو التراجع عن الموقف السابق قد كان له مفعول في تغيير الأسلوب وما نلحظه في كلام الصاحب، أنه يرجعه إلى موقعه الذي كان من الدائرة الإيمانية العميقة بأن يذكره بالأسلوب المناسب: من لا يشرك بالله أحدا (هذه دائرة الإيمان) التي تقابلها دائرة عدم الإيمان، تقتضي خطابا مخالفا (التعجب من نعمة الله حمدا وإعجابا: ما شاء الله؛ الوصف أو الإخبار الذي يفيد المدح: لا قوة إلا بالله). وهكذا فإن أسلوب صاحب الجنة أسلوب قد عُدل فيه عن أسلوب يتماشى وروح الإيمان عدولا آنيا لذلك سيحتاج عقابا بأن تذهب الجنة وخيراتها بعصف مأكول، ردعا وردا إلى دائرة الإيمان وحقله الأسلوبي المناسب. وفي الآية 42 مشهد لمآل الرجل وعودة إلى أسلوب التمني الذي هو نقيض تام لأسلوب الدعاء: فالتمني إرادة شيء محال والدعاء: طمع في شيء ممكن يقول تعالى: (وأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلبُ كَفيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبي أَحَدا).

ما ذكر هنا هو تمثيل آني لانتقال في الأساليب «الإيمانية»، يقتضي تغييرا لها بتغير النظرة إلى علاقة المؤمن بالكون وخالقه ومصيره فيه. قد تموت الأساليب وتذهب بلا رجعة حين لا يحتاجها الأفراد في لغتهم اليومية. اُنظر في كلامك اليومي ستجدك مثلا لا تتمنى، أو لا تدعو أو لا تأمر ولا تنهى. من سينهى وليست له سلطة النفاذ إلى قلب من ينهاه؟ ومن سيأمر وليست له سلطة حمل الناس على التنفيذ؟ من سيستعمل لطيف الكلام في الغزل وقد مات قلبه أو مات في قلبه السبب الذي من أجله كان يقول الغزل؟ تموت ألفاظ الهجاء في ثقافات التحاب أو في ثقافات الزجر القانوني. تموت الأساليب حين يكون هناك داع إلى موتها وهي تموت بما هي استعمالات في كلام الأفراد، أو في كلام الجماعات: تفقد نفسك يا صاحبي فربما ماتت فيك أساليب كنت تحيا بها فهجرتها وأنت غافل عنها. ما الموت الذي ينتظرنا كقدرنا إلا موت لنا بما نحن أساليب.

 

  • أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

 

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share