تبادل الأسرى .. حين تنتصر الإنسانية على زمن الحرب
الوحدة نيوز/ لمياء شرف الدين:
في بلدٍ أثقلته سنوات الصراع، وتحوّلت فيه الذاكرة اليومية إلى سجل ممتد للوجع، جاءت صفقة تبادل الأسرى الأخيرة كأنها نافذة تُفتح في جدارٍ مغلق، وممرّ ضوء يتسلل إلى قلوب أنهكها الانتظار. ليس حدثًا عابرًا، ولا مجرد إعلان تفاوضي؛ بل محطة إنسانية تعيد التذكير بأن في قلب الحرب ما زال للإنسان مكان.
إعلان رئيس اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى عبد القادر المرتضى عن التوصل لاتفاق يقضي بالإفراج عن 1700 أسير من الجيش واللجان الشعبية مقابل 1200 من أسرى الطرف الآخر، بينهم 7 سعوديين و23 سودانيًا، لم يكن مجرد بيان أرقام. هذه الأعداد وجوه وأسماء، دموع مكبوتة، وأحضان أرجأت فرحتها على أمل اللقاء. صفقة تحمل في مضمونها رسائل أكبر من نصوصها، وأعمق من إطارها السياسي.
لقد جاءت هذه الخطوة بعد جولة مفاوضات معقدة، تخللتها حسابات وملفات، لكن جوهرها ظل إنسانيًا خالصًا. فالحديث هنا ليس عن مكاسب أو توازنات، بل عن أمهات يرددن دعاء العودة منذ سنوات، وأطفال كبروا قبل أوانهم على صورة أب غاب خلف القضبان، وزوجات ضممن ذكرياتهن خوفًا من نسيان الملامح. بهذا المعنى، تتجاوز الصفقة حدود السياسة إلى فضاء الأخلاق.
ولا يمكن في هذا السياق تجاهل الدور الذي قامت به سلطنة عُمان الشقيقة، التي احتضنت ورعت جولة التفاوض وأسهمت في تهيئة الأجواء لإنجاز هذا التقدم. إنه دور ينسجم مع نهج دبلوماسي راسخ، يضع الجسور فوق الجراح، ويمنح الإنسانية فرصة للنجاة من ضجيج البنادق. إنها تجربة تعيد الاعتبار للدور الإقليمي المسؤول في صناعة السلام، ولو بخطوات تدريجية.
اليوم، يقف ملف الأسرى في صدارة الأولويات؛ فكما أكد المرتضى، لا تزال الجهود مستمرة للإفراج عن كل أسير دون استثناء. وهذه ليست رغبة سياسية، بقدر ما هي واجب أخلاقي يمليه الضمير قبل المواثيق. فالحرب التي تتجرد من إنسانيتها تتحول إلى عبث، والعدالة التي تنسى أسراها تتحول إلى خطيئة تاريخية.
إن صفقة التبادل ليست نهاية الطريق، لكنها بداية يُبنى عليها. خطوة صغيرة بحجمها السياسي، كبيرة بأثرها الاجتماعي والإنساني. إنها تذكير بأن السلام لا يولد دفعة واحدة، بل يتشكل بتراكم اللحظات التي ينتصر فيها الضمير على المكسب، والرحمة على الحسابات الضيقة. وربما تكون هذه اللحظة، بكل ما تحمل من أمل، فرصة لإعادة التفكير في جدوى الاستمرار في دائرة الألم.
في النهاية، يظل السؤال مفتوحًا:
هل يمكن لهذه الخطوة أن تكون مدخلًا لمصالحة أوسع، تقف فيها الأطراف جميعها أمام مسؤولياتها تجاه الإنسان أولًا؟
الإجابة رهن بما سيأتي. أما اليوم، فإن مشهد أسير يعود إلى بيته، ويقف طفل ليعانق أباه بعد سنوات من الغياب، يكفي وحده ليقول إن الإنسانية ما زالت قادرة على ترميم ما تهشّم، ولو إلى حين.
Comments are closed.