عهد المحمودي: لـغة الســـلاح
بمجرد أن توارب باب منزلك وتدخل في تفاصيل الشارع، تُباغتك لغة غريبة لا حروف فيها بل “فوهات”، بات مشهد “الكلاشينكوف” المتدلي على الأكتاف في مدننا ليس مجرد ضرورة أمنية تفرضها الظروف، بل تحول إلى “موضة” اجتماعية عابرة للحقوق، ورمزية مشوهة للقوة تتحدى منطق الدولة وحق الإنسان في الحياة السوية.
إن هذا الرعب المتسلل إلى يومياتنا لم يولد من فراغ؛ فالسلاح اليوم بات “شريكاً قسرياً” في الباص، في السوق، وفي طوابير الخبز، حتى داخل مرافئ المستشفيات، وما يثير الفزع ليس وجود السلاح بحد ذاته، بل “أنسنته” وتطبيعه؛ حين ترى شاباً أو حتى طفلاً لم يبلغ الحلم، يحتضن بندقيته برفق يتجاوز رفق الآباء بالأبناء، متناسياً أن هذه “الحديدة” الصماء هي مشروع موت مؤجل يزرع الرهبة في قلوب العابرين.
نحن نعيش اليوم تحت سطوة “ساعة إبليس” (كما يصفها الوجدان الشعبي) تلك اللحظة التي يتحول فيها احتكاك مروري بسيط أو خلاف عابر على مقعد في حافلة إلى فاجعة دامية، إن منطق “القوة العضلية المسلحة” قد بدأ يأكل من جرف “قوة المنطق والعقل”، وهو ما نراه يتجسد في حوادث مؤلمة شرقاً وغرباً، من شبوة إلى صنعاء، حيث تغيب هيبة القانون وتحضر أحكام “النزوات الشخصية” والقتل خارج إطار القضاء، مما يحول الساحات العامة إلى منصات لتصفية الحسابات بعيداً عن ميزان العدالة.
إن انتشار السلاح بغير ضابط، وتحوله من أداة للدفاع عن السيادة إلى وسيلة لـ “التفاخر الطبقي” أو “الاستقواء الاجتماعي”، هو الخطر الوجودي الذي يهدد بقاء المجتمع، فالمجتمعات المتحضرة تقوم على مبدأ ثابت: “احتكار الدولة الشرعي لوسائل القوة”، وبدون هذا الاحتكار، نتحول من “مجتمع المواطنة” إلى “قانون الغاب”، حيث المواطن الأعزل هو الحلقة الأضعف، والسكينة العامة هي الضحية الأولى،
إننا هنا لا نتحدث بلسان جهة أو تيار، بل نتحدث بلسان “الإنسان اليمني” الذي تعب من ضجيج الرصاص ويبحث عن هدوء البناء، إن استعادة الأمان تبدأ من الإيمان بأن “هيبة النظام” هي الحصن الوحيد الذي يحمي الجميع دون استثناء، فالبندقية التي ترفعها اليوم لتبدو قوياً، قد تكون غداً هي ذاتها السبب في يتم طفلك أو ثكل أمك.
الوطن الذي يُبنى على فوهات البنادق، يظل عرضة للهدم عند كل ضغطة زناد، لقد آن الأوان أن ندرك أن “العقل” هو الأداة الوحيدة الصالحة للحكم وبناء المستقبل، وأن السلاح في يد المدنيين ليس فخراً، بل هو عبء على الضمير، وتهديد مباشر لمستقبل جيل نغرس في مخيلته صورة الرصاص بدلاً من صورة القلم.
Comments are closed.