من يكتب التاريخ في عصر الذكاء الاصطناعي
علي قاسم*
لم يعد خافيا على أحد أننا نعيش في عصر رقمي أصبح الذكاء الاصطناعي فيه أكثر من أداة تقنية مساعدة، وتحول إلى فاعل أساسي في تشكيل الذاكرة الجماعية وإعادة رواية التاريخ. هذا التحول يطرح إشكالية محورية تمس صميم الهوية والوجود: من يملك الحق في إعادة سرد التاريخ؟ هل يظل هذا الحق حكراً على الإنسان بوعيه النقدي وتجاربه الحية، أم أصبح من حق الخوارزميات التي تعالج كميات هائلة من البيانات لكنها تفتقر إلى العمق الإنساني، حتى هذه اللحظة على الأقل؟
في السياق العربي، كما على المستوى العالمي تكتنز الأرشيفات التاريخية بروايات الاستعمار والثورات والتحولات الاجتماعية، ليصبح السؤال السابق أكثر إلحاحاً. فهو لم يعد مجرد تساؤل فلسفي، بل أصبح يحمل أبعاداً سياسية وثقافية تتعلق بسيادة الهوية الوطنية والجماعية، ويستدعي وقفة جادة من صناع القرار والخبراء والأكاديميين لوضع أطر واضحة تحفظ للذاكرة العربية أصالتها وتوازن بين فرص التقدم التقني ومخاطر فقدان السيطرة على السردية التاريخية.
التحول الجذري
شهد العالم العربي تحولاً جذرياً في إدارة الأرشيفات التاريخية. فبعد أن كانت الوثائق الرسمية والصحف القديمة والصور الأرشيفية حكراً على المؤرخين والمؤسسات الأكاديمية، أصبحت اليوم مادة خاما تتغذى عليها الخوارزميات. تقوم هذه الخوارزميات بتصنيف الأرشيف وتحليله بل وإعادة تأويله، مما يفتح آفاقاً جديدة لإعادة اكتشاف الماضي وقراءته.
تخيلوا معي خوارزمية قادرة على تحويل صورة باهتة من ثورة 1952 في مصر إلى نص قابل للقراءة، أو التعرف على وجوه الشخصيات التاريخية في أرشيف فلسطيني، أو تحليل الخطابات الصحفية من الخمسينات في تونس. هذه الإمكانيات لم تعد ضرباً من الخيال العلمي، بل أصبحت واقعاً ملموساً. لكن هذا الواقع الجديد يثير تساؤلات عميقة حول مصير المرويات التاريخية في عصر الخوارزميات. فمن يتحكم في عملية إعادة الإنتاج هذه؟ ومن يضمن دقتها وموضوعيتها؟
إعادة إنتاج الإقصاء
يجب أن نعترف بحقيقة أساسية: الذكاء الاصطناعي ليس محايداً. إنه يتعلم من بيانات بشرية مشوبة بالتحيزات السياسية والجندرية والطبقية. في العالم العربي، حيث غالباً ما سيطرت الرواية التاريخية الرسمية ذات الرؤى القومية الأبوية المركزية، قد يعيد الذكاء الاصطناعي إنتاج هذه التحيزات بل ويضفي عليها شرعية جديدة.
◄ الذكاء الاصطناعي ليس محايدا فهو يتعلم من بيانات مشوبة بالتحيزات السياسية والجندرية ويعيد إنتاج الإقصاء والروايات القومية الأبوية
لنتأمل هذا المثال: إذا تم تدريب نموذج لغوي على أرشيف صحف عربية من منتصف القرن العشرين، فسيعكس حتما الخطاب السائد في تلك الفترة، متجاهلا دور النساء في الحركات الاجتماعية، أو متغاضياً عن إسهامات المناطق الريفية والأقليات العرقية والدينية. وعندما يولد هذا النموذج ملخصات أو تحليلات تاريخية، يصبح أداة لتعزيز الإقصاء والتحيّزات بدلاً من تصحيحها.
هذا التحيز الخوارزمي ليس مصادفة، بل هو انعكاس للبيانات التي يتغذى عليها، والتي غالباً ما تكون مستمدة من مصادر غربية أو سلطوية. وهكذا يهدد الذكاء الاصطناعي بإعادة إنتاج التحيزات الاستعمارية في قراءة التاريخ العربي، مما يستدعي يقظة شديدة من صناع القرار في المجال الثقافي والتعليمي.
عندما تتحول الذاكرة التاريخية إلى بيانات رقمية، يحدث نوع من الفقدان الجوهري الذي لا يمكن تعويضه. فالذاكرة ليست مجرد حقائق وأرقام، بل تشمل السياق العاطفي والنبرة والصمت بين السطور. الخوارزميات تقطع النصوص إلى رموز، وتختزل الصور إلى بكسلات، مما يفقد الجوانب الحميمة مثل رائحة الورق القديم أو الحنين المرتبط بالذكريات.
في هذا السياق، يصبح التاريخ مجرد مجموعة من البيانات القابلة للضغط والتصنيف، مما يجعله عرضة للنسيان الرقمي أو التوظيف السياسي غير المعلن. لكن في المقابل، يتيح الذكاء الاصطناعي إمكانيات هائلة في البحث والربط. يمكننا الآن مسح آلاف الوثائق في ثوانٍ، واكتشاف أنماط تاريخية غير مرئية سابقا، مثل روابط بين حركات استقلالية في دول عربية مختلفة.
إنها مفارقة الذاكرة الرقمية بامتياز؛ توسع في الوصول مقابل خسارة في العمق الإنساني، وإمكانيات بحثية غير مسبوقة مقابل خطر تحويل التاريخ إلى سلعة رقمية قابلة للتشكيل والتوظيف.
من يملك الذاكرة الرقمية؟
رغم هذه التحديات، هناك أمثلة مشجعة على استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة للاستعادة والمقاومة الثقافية. في فلسطين، تستخدم تقنيات التعرف على الوجوه لاستعادة هويات أشخاص في صور أرشيفية مجهولة، مما يساهم في إحياء الذاكرة الجماعية ضد محاولات المحو الاستعماري.
أما في تونس، فتحلل الصحف القديمة لاستخراج خطاب النخب النسوية في بدايات القرن العشرين، مما يعيد الاعتبار لأصوات تم تهميشها في السرديات الرسمية. هذه المشاريع تحول الذكاء الاصطناعي من أداة محتملة للتحيز إلى وسيلة لإعادة تركيب سرديات بديلة، ومساءلة الرواية التاريخية السائدة.
◄ عندما تتحول الذاكرة إلى بيانات رقمية يحدث فقدان جوهري للسياق العاطفي والنبرة، والخوارزميات تختزل التاريخ إلى رموز قابلة للنسيان
هذه النماذج تثبت أن التقنية يمكن أن تكون أداة مقاومة إذا تم توجيهها بوعي نقدي، وتشكل نبرة تفاؤل في مشهد قد يبدو قاتماً. إنها تدل على إمكانية توظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة الذاكرة الجماعية بدلاً من تهديدها. يبقى السؤال الأخلاقي الأكبر: من يملك هذه الذاكرة الرقمية؟ في ظل هيمنة شركات التكنولوجيا العالمية مثل غوغل وميتا، التي تسيطر على معظم الخوارزميات، هناك خطر حقيقي من أن تصبح الذاكرة العربية رهينة لأدوات لا نفهم آلياتها ولا نتحكم فيها.
هذه الشركات غالباً ما تدرب نماذجها على بيانات غير عربية، مما يؤدي إلى تحيزات ثقافية تجاه الرؤى الغربية. وهذا يستدعي من الدول والمؤسسات الثقافية العربية اتخاذ خطوات حاسمة لضمان سيادة معرفية على ذاكرتها. يتطلب ذلك مراجعة شاملة لسياسات إدارة الأرشيف، ووضع ضوابط واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل المحتوى التاريخي، مع التركيز على الشفافية والحماية من التوظيف السياسي.
البديل ليس رفض الذكاء الاصطناعي، فهذا سيكون تراجعاً عن التقدم، بل في تطوير نماذج عربية مستقلة ومفتوحة المصدر. يجب أن تُدرب هذه النماذج على بيانات عربية متنوعة، تشمل اللهجات المختلفة والسياقات الثقافية المتعددة والرؤى النقدية.
على سبيل المثال، يمكن بناء خوارزميات قادرة على فهم المجاز في الشعر العربي، أو التمييز بين اللهجات المغاربية والمشرقية، مما يجعلها أداة للحفاظ على التنوع الثقافي بدلاً من توحيده. كما يجب تشجيع التعاون بين المؤرخين والتقنيين والمفكرين العرب لصياغة إطار أخلاقي يضمن أن تكون الخوارزميات خادمة للإنسان لا سيدا عليه.
سيادة معرفية
في الختام، تؤكد هذه التحليلات أن الذاكرة ليست مجرد سجل تاريخي، بل ساحة صراع على المعنى والسلطة. إذا دخل الذكاء الاصطناعي هذه الساحة، فعلينا أن نكون حاضرين كفاعلين نشيطين، لا كمتلقين سلبيين. يجب على العالم العربي الانتقال من موقع الاستهلاك إلى الإنتاج، لبناء أرشيفات رقمية تفتح المجال للتأويل النقدي والإبداعي. بهذا فقط، يمكننا ضمان أن يظل الإنسان صاحب الحق الأول في إعادة سرد تاريخه، مستعينا بالذكاء الاصطناعي كشريك لا كمنافس. لحماية السيادة المعرفية على الذاكرة العربية في عصر الذكاء الاصطناعي، يوصي الخبراء باتخاذ الإجراءات التالية:
◄ يجب تطوير نماذج عربية مستقلة مدربة على بيانات محلية وتشجيع التعاون بين المؤرخين والتقنيين لضمان سيادة معرفية على الذاكرة
تطوير نماذج خوارزمية عربية مستقلة تُدرّب على بيانات محلية متنوعة، تراعي السياقات الثقافية واللغوية، ووضع إطار تشريعي وأخلاقي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل الأرشيفات التاريخية، يضمن الشفافية ويمنع التوظيف السياسي أو التجاري للسرديات، والعمل على تشجيع التعاون بين المؤسسات الثقافية والتقنية لتأسيس أرشيفات رقمية مفتوحة المصدر، قابلة للتأويل النقدي، وتخدم الأجيال القادمة، وإطلاق مبادرات تعليمية وتوعوية حول مخاطر التحيز الخوارزمي وأهمية المشاركة المحلية في بناء أدوات الذكاء الاصطناعي.
إن الحفاظ على الذاكرة الجماعية ليس ترفا ثقافيا، بل ضرورة إستراتيجية لضمان استمرارية الهوية في زمن تتشكل فيه السرديات عبر الخوارزميات. إنها دعوة إلى ثورة معرفية عربية، تحمي الذاكرة من التحيز والنسيان، وتجعلها مصدر إلهام للأجيال القادمة. فالتاريخ ليس مجرد أحداث مضت، بل هو هويتنا وكينونتنا ومستقبلنا، ولا يمكن أن نتركه رهينة خوارزميات لا تفقه في أمورنا شيئا.
- كاتب سوري مقيم في تونس
Comments are closed.