مجتمع يطير بجناح واحد

عهد المحمودي

قال رسول الله ﷺ: “ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم”

​حديثٌ نبوي شريف، لو فهم المجتمع عمقه كما يجب، لكانت المرأة اليوم تسير مرفوعة الرأس، لا تبحث عن إذن لتتنفس، ولا تخشى صوتها، ولا تُحاسب على مجرد وجودها، لكن الواقع اليمني كتب قصة مختلفة؛ قصة لا تبدأ عند الكبر، بل منذ الطفولة!

​تبدأ معاركها الصامتة مبكراً، حين تُنتزع الفتاة من مقاعد الدراسة وتُطوى أحلامها في الأدراج، إما لتُزف عروساً قاصرة لا تفقه من الحياة شيئاً، أو لتبقى حبيسة الجدران لخدمة ذكور العائلة، هنا يُغتال حلمها الأول، وتتعلم الدرس الأقسى : أن طموحها “ثانوي” ورغباتها مؤجلة إلى أجل غير مسمى.

​ولم تكن معاناتها محصورة يوماً في حدود منزلها أو مدينتها؛ ففي القرى والأرياف، تدور رحى مأساة أخرى لا يلتفت إليها أحد، هناك تتحول المرأة إلى “عمود فقري” يُنهكه التعب؛ تحتطب، ترعى، وتجلب الماء من مسافات بعيدة، تعمل كآلة لا تتوقف منذ الفجر وحتى المغيب، ورغم أن اقتصاد الأسرة الريفية يقوم على كاهلها، إلا أن حقوقها تظل غائبة، وجهدها يُنظر إليه كواجب مفروض لا يستحق الشكر.

​وفي المدن، وبينما هي تتحمل مسؤوليات الأسرة كاملة داخل البيت، يطل وجه العرف الاجتماعي ليقول لها في كل منعطف: “لا ترفعي صوتك سيقول الناس”، وكأن “الناس” آلهة صغيرة تقرر مصيرها! بينما القوانين المكتوبة في دستورنا تتبخر أمام سطوة “العيب” والخوف من الوصمة، لتبقى المرأة رهينة قناعات بالية تُرى فيها “عورة” يجب سترها، لا إنساناً كاملاً وشريكاً في البناء.

​ومع اشتداد الحرب والظروف الاقتصادية، لم تعد المرأة مجرد ضحية، بل تحولت إلى “بطلة” تقف في وجه العاصفة، لقد دفعت قسوة الحرب وضغوط الحياة آلاف الرجال إلى حافة الانهيار النفسي، فانعكس ذلك عنفاً وتوتراً داخل البيوت، وكانت المرأة هي الجدار الذي يمتص الصدمات، خرجت الآلاف منهن إلى سوق العمل، ليس بحثاً عن رفاهية، بل لانتزاع لقمة العيش من فم المستحيل؛ تخلت عن رقتها، وارتدت درع المحارب، لتكون أماً وأباً، ومعيلة تحمي صغارها من الجوع حين عجز الجميع.

 

​ومع ذلك، تعيش المرأة اليمنية اليوم مفارقة عجيبة بين مطرقة الفقر وسندان المجتمع: إن بقيت في البيت، اتهموها بأنها عبء، وإن خرجت للعمل، اتهموها بالتمرد على الأنوثة، إن شكت وجعها، قالوا: “ناشز”، وإن صمتت وصبرت، قالوا: “راضية ولا تشتكي” ،  هي الخاسر الدائم في معادلة لا تعترف بإنسانيتها، وتظل تحاول إثبات براءتها من تهم لم ترتكبها سوى أنها “امرأة” .

​وللإنصاف، ورغم سوداوية المشهد، لا يزال في اليمن رجال يحملون “الرجولة” بمعناها الحقيقي الذي أراده النبي الكريم؛ رجال يقفون خلف نسائهم، يدفعون بهن نحو التعليم، ويقدرون تعبهن، ويكونون لهن سنداً لا سّجانين، هؤلاء هم الأمل المتبقي، والنماذج التي نخشى أن تتلاشى وسط ضجيج الأفكار الدخيلة والعادات المتضاربة.

اليوم ونحن نرى المرأة اليمنية تجمع شتات أسرتها وتلملم جراح وطنها، يجب أن ندرك أن قضيتها ليست ترفاً فكرياً، بل هي قضية حياة أو موت للمجتمع بأسره.

​والله إن أقسى ما تعيشه المرأة اليمنية ليس الفقر ولا الحرب، بل شعورها بأن عليها تبرير وجودها في كل لحظة، فمتى سندرك أن كسر المرأة هو كسر للمجتمع؟ ومتى نعود لجوهر ديننا الذي كرمها؟

​التغيير لا يبدأ من المؤتمرات، ولا من بعض المنشورات، أو الشعارات الزائفة التي تتغنى بحريتها، ولا ببعض الكتابات التي ترثي حالها؛ بل يبدأ من داخل بيوتنا، من تربية أبنائنا الذكور على أن أختهم شريكة لا تابعة، وأن احترام المرأة هو المعيار الأول للرجولة.

​فلنرفع عنها سيف الأحكام، لا نمنحها حقاً هي تملكه أصلاً بأمر السماء، بل لنكف عن سلبها إياه باسم العادات، لأن مجتمعاً يصر على الطيران بجناح واحد، محكوم عليه بالسقوط لا محالة.

 

Comments are closed.

اهم الاخبار