اليمن في فخ “السودنة”: كيف تفكك الإمارات والسعودية الدولة وتصنع الكانتونات؟ وهل تبقى “صنعاء” ورقة الأمل الاخيرة؟!
محمد علي اللوزي:
رغم ما تردده السعودية والإمارات في خطابهما الرسمي من شعارات حول دعم وحدة اليمن والحفاظ على استقراره، إلا أن الوقائع المتراكمة على الأرض تقدم صورة مغايرة تماماً. فمنذ سنوات تتبنى الدولتان سياسة منهجية تقوم على صناعة مراكز قوى موازية للدولة اليمنية عبر تشكيل وتمويل وتسليح ميليشيات وتيارات انفصالية أو شبه انفصالية، أبرزها المجلس الانتقالي الجنوبي، وقوات درع الوطن، والنخب العسكرية المتعددة. وقد مُنحت هذه التشكيلات قدرات قتالية كبيرة وموارد مالية ضخمة، جعلتها تتحول إلى قوى تتقدم عملياً — بل تتفوق — على مؤسسات الدولة، وتتصرّف في الميدان كسلطات بديلة، لها قرارها وتمويلها، ولها أيضاً مشروعها السياسي المنفصل عن المشروع الوطني.
وعند قراءة المشهد العسكري والسياسي عن قرب، تتضح ملامح هذا التحول بجلاء. فقد تمكن المجلس الانتقالي خلال الفترة الماضية من فرض سيطرته على محافظتين تعدّان من أكثر محافظات اليمن حساسية وأهمية: حضرموت والمهرة. وما إن أحكم قبضته على الأرض حتى بدأ بخطوات رمزية لكنها عميقة الدلالة؛ أبرزها إنزال علم الجمهورية اليمنية والدوس عليه أمام الملأ، في أكبر إهانة مباشرة لرمز السيادة الوطنية. مثل هذا السلوك لا يمكن النظر إليه بوصفه تصرفاً فردياً أو رد فعل عاطفياً، بل هو رسالة سياسية مباشرة تؤكد أن مشروع هذه القوى هو مشروع خارج عن إطار الدولة، ومدعوم من أطراف إقليمية تمتلك القدرة على التوجيه والتسليح والتغطية.
هذا المشهد يكشف — بلا مواربة — الموقف الحقيقي للسعودية والإمارات تجاه اليمن. فهما، عملياً، تدعمان قوى تشتغل خارج إطار الدولة، وتعملان على تمكينها من الأرض والسلاح والنفوذ، بما يؤدي إلى إضعاف السلطة المركزية، وتمزيق النفوذ الوطني، وإعادة رسم الجغرافيا السياسية بما يخدم مشاريع النفوذ الإقليمي طويلة الأمد. ويترافق هذا المسار مع محاولات حثيثة لتفكيك البنية السيادية في الشمال، وإبقاء الجنوب في حالة صراع مفتوح بين مكونات محلية متنافسة، بحيث تظل البلاد عالقة في حالة “لا حرب ولا سلم”، خاضعة للتدخل، ودون قدرة على إنتاج قرار وطني مستقل.
وتزداد خطورة هذا النهج حين نقارنه بما حدث — وما يزال يحدث — في السودان. فالتعددية المسلحة، وتمويل القوى المحلية المتصارعة، والصراع على الموانئ والممرات المائية والمنافذ الاستراتيجية، كلها تجارب سودانية تتكرر اليوم، بصورة شبه طبق الأصل، في الجنوب والشرق اليمني. ومع استمرار هذا المشهد، يصبح خطر تحول اليمن إلى نسخة أخرى من النموذج السوداني أمراً قائماً: دولة تنهار مؤسساتها لصالح ميليشيات متنافسة، وتتحول أرضها إلى ساحة مفتوحة للحروب الإقليمية بالوكالة، ويتراجع القرار الوطني إلى أدنى درجات التأثير.
اليمن اليوم أمام لحظة تاريخية بالغة الحساسية. فالمعادلة لم تعد تحتمل التردد أو الخطاب الرمادي. وإذا لم يُتدارك الوضع بمشروع وطني جامع، ورؤية سيادية صلبة، وموقف حاسم من كل القوى التي تعمل على تفكيك الدولة، فإن عناوين المرحلة القادمة ستكون أكثر قتامة: تشرذم، تجزئة، انهيار، وتحوّل البلد من دولة ذات عمق حضاري وثقافي إلى رقعة جيوسياسية تُعاد هندستها تبعاً لرغبات القوى الإقليمية، لا لإرادة شعبها.
وفي هذا المسار المعقد، يبقى الأمل — وبواقعية سياسية — معقوداً على صنعاء بما تمتلكه من عقيدة إيمانية راسخة، وقدرة عسكرية وسياسية أصبحت رقماً صعباً في المنطقة. فأنصار الله باتوا، بحكم الواقع، القوة الأكثر تماسكاً وتنظيماً، والقادرة على فرض معادلات ردع تضع حداً لسياسات العبث التي تمارسها الرياض وأبوظبي. وصنعاء، بما تمثله من ثقل وطني، معنية تماماً بإيقاف هذا النزيف الجغرافي والسيادي، وقطع الطريق على المخطط الذي يستهدف تحويل اليمن إلى كانتونات متصارعة ومجالات نفوذ مفتوحة.
ومع ذلك، فإن نجاح هذا الدور مرهون بوجود موقف حازم وإرادة سياسية لا تتردد أمام التحديات الكبرى. فالمخاطر اليوم جسيمة، والتأجيل لم يعد خياراً. اليمن بحاجة إلى قرار سيادي حاسم، ووحدة موقف داخلي، واستراتيجية مواجهة تجمع بين القوة السياسية والعسكرية والدبلوماسية. وبدون ذلك، فإن المستقبل يبدو مفتوحاً على سيناريوهات لا تُحمد عواقبها.
Comments are closed.