د. أحمد السري: الذاكرة التاريخية.. ساحة للصراع وأداة للتشكيل

الذاكرة التاريخية هي مجموعة المعارف والتصورات التي يختزنها عقل الفرد أو الجماعة عن الأحداث والحقب الماضية. هذه الذاكرة ليست نسخة موحدة يتشاركها الجميع، بل هي مجموعة من تصورات متباينة تعتصم بقواسم مشتركة وتختلف في التفاصيل والتركيز. لهذا نجد الذاكرة التاريخية للمتخصص تختلف عن ذاكرة الشخص العادي؛ فالأولى أقوى وأعمق بفضل الدراسة والاطلاع.

يترتب على هذا التباين في الذاكرة -كمّاً ونوعاً- اختلافٌ في أحكام الناس على التاريخ، شخصياته وأحداثه. ومع ذلك، تبقى السرديات التاريخية الكبرى لبنات أساسية تشكل وعي الأمة بهويتها وذاتها وموقفها من الآخر. إنها التي ترسم موقع الأمة على خريطة العالم، وتشكل المنطلق الذي تنبثق منه مواقفها وتقييماتها.

والسؤال المحوري الذي نود التشديد عليه: ماذا يحدث إذا تغير محتوى الذاكرة التاريخية؟ لاسيّما وأن هذا المحتوى ليس مُعطىً ثابتاً، بل قابل للتعديل والتغيير، وتبعا لهذا التغيير تتغير أحكامنا ومواقفنا، وهو ما تعبر عنه القاعدة الفقهية بدقة: “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”. ولنا في الإعلام المعاصر خير دليل؛ فوسائل الإعلام المختلفة تسعى بجدّ إلى حشو العقل الجمعي بوجهات نظر تتناغم مع سياساتها، فمن الناس من يرددها، ومنهم من يعترض، ومنهم من يحاول التمييز والموازنة.

الصراع على العقل البشري محتدم منذ القدم، ومن يسبق إلى تشكيل الذاكرة التاريخية، يكون قد سبق إلى صوغ العقول وفقاً لمصالحه.

وعند هذه الفكرة، نشير إلى ظاهرة لافتة في السنوات الأخيرة، وهي إشغال العقول كافة بنقاشات حول التاريخ القديم، خاصة ما يتعلق بالسرديات التوراتية وتاريخ بني إسرائيل، رغم أن قروناً طويلة تفصلنا عن تلك الحقب.

فهل الهدف من هذه النقاشات تصحيح تصورات تاريخية حقاً؟ أم أن الهدف المستتر هو إعادة هندسة الذاكرة الجماعية وملؤها بمحتوى جديد، تنتج عنه أحكام متغيرة ومواقف جديدة من الآخر، تختلف عما استقر في الأذهان لقرون؟ يبدو أن الحملات المنظمة لتقديم “سرديات جديدة” تهدف إلى أن تتبناها الأجيال الحالية والقادمة، بعد أن تُحشى أذهانها بروايات تقدم على أنها “تصويب للتاريخ”، بينما تكون في جوهرها إعادة صياغته، لتشكيل وعي جديد مغاير من خلاله، أي أن الهدف سياسي لا علمي وإن غُلف بما يبدو أنه علم، سرعان ما يتكشف زيفه.

خلاصة القول: إن علاقة الذاكرة بالتاريخ ليست علاقة فطرية أو ثابتة، بل هي علاقة مرنة وقابلة للتشكيل. وهي تتغير تبعاً للمدخلات التي يروجها أولئك الذين يهدفون إلى تغيير التصورات، ثم الأحكام، بصبر ومثابرة عبر الأجيال.

فهل ندرك أن كثيراً من هذه النقاشات التاريخية التي تثار ليست بريئة ولا تهدف لخدمة العلم؟ بل إنها تخفي مخاطر مستقبلية جسيمة، من خلال إعادة تشكيل الذاكرة بمدخلات تاريخية مُصممة خصيصاً لخدمة أغراض سياسية، تهدف إلى تشكيل المستقبل الذي يريده من يتحكمون اليوم بأدوات تشكيل الوعي.

Comments are closed.

اهم الاخبار