محللون: لا مؤشرات على تسوية سياسية قريبة.. والحديث عن السلام “واجهة لعدوان جديد”
ليس ما يجري في السعودية هذه الأيام سوى ملامح إعادة تموضع إقليمي واسع، تشترك فيه واشنطن وتل أبيب، ويبدو أن هدفه الأبعد هو اليمن.
تحشيدٌ متعدّد الطبقات تُديره واشنطن والرياض وتل أبيب معًا، هدفه إعادة تشكيل مسرح الضغط حول اليمن والبحر الأحمر بعد أشهرٍ كشفت عُري الردع الأميركي في الممرات المائية.
رسائلٌ متزامنة من البرّ والبحر حيث يجري بناءُ سقفٍ عملي لعملٍ عسكري «تحت الحرب الشاملة»؛ سقفٌ يُختبر بالتمارين، ويُدشَّن بمنظومات الإنذار، ويُغلف بلغة «الشراكات» والزيارات رفيعة المستوى.
نبدأ من البرّ: تمرين «Quincy-1» الذي انطلق في مركز التدريب الوطني بقاعدة فورت إروين في صحراء
كاليفورنيا بأمريكا
الاسم وحده لا يهم؛ المهم أنّ وحدات برية سعودية وأميركية تتدرّب، في بيئة تحاكي الصحارى المفتوحة وعمليات المناورة–النيران، على التكامل في القيادة والسيطرة والعمليات المشتركة، بما يُعيد الثقة المتبادلة بعد عامٍ مضطرب بحريًا…وهي ورشة جاهزية لمعركة حدودية محتملة أو على الأقل لرفع «مصداقية التهديد» على خطوط الجوف–نجران–جيزان.
الإعلان السعودي والأميركي واضح في توصيف الهدف «تعزيز الجاهزية وتبادل الخبرات ورفع التكامل» — وهي عبارات عسكرية معروفة تُستخدم حين يراد القول إن القوة المشتركة تختبر «سيناريوهات»
من البحر، فتحت جدة مياهها لـ«الموجة الحمراء-8»، مناورةٌ تجمع ستّ دول مطلّة على البحر الأحمر بقيادة البحرية السعودية، عنوانها الظاهر حماية الممرات، ومغزاها الفعلي بناء مظلة سياسية–عملياتية تُعيد رسم «هندسة الأمن» في البحر الذي فرضت صنعاء فيه معادلتها خلال السنة الماضية.
المناورة إعلان إرادة لاختبار اصطفافٍ إقليمي تحت سقف الرياض، مع حضور مصري وباكستاني وأطراف أفريقية ساحلية، ورسالة ضمنية متعددة الابعاد
في الداخل السعودي، لا تقلّ الإشارات دلالةً اختبار صفارات الإنذار ومنصّة «الإنذار المبكر الخلوي» في مناطق الرياض وتبوك وغيرها يمرّ في الأخبار كأنه شأنٌ خدمي، لكنه في قراءة الأمن القومي «معايرةٌ» لقدرة الدولة على امتصاص الصدمة ورفع الجاهزية المدنية في لحظة يمكن أن تتسخن فيها السماء. هذه الاختبارات — المُعلنة رسميًّا في أكتوبر ثم محدّثة مطلع نوفمبر — تنسجم مع التحضيرات العملياتية
على محور واشنطن، تتقدّم السياسة في خطٍّ واحد مع العسكر….لقاءات وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان مع مسؤولين بارزين في البيت الأبيض والخارجية والبنتاغون سبقت وتواكب زيارة ولي العهد المنتظرة إلى واشنطن.
البيانات مقتضبة، لكن قائمة الأسماء والمقار تكفي لتقول إن «أمن البحر الأحمر واليمن» في قلب المحادثات، وأن الملفات التسليحية تُستخدم بوصفها جزءًا من حزْمة «ترميم التحالف» وهنا يصعد ملف الـF-35 إلى الواجهة مجددًا؛ تقارير مرجعية تؤكد تجاوز الطلب السعودي عقبةً أساسية داخل البنتاغون،
على خطٍّ موازٍ تمامًا، ثمة محاولات للعدو على المسار الاستخباري على الأرض، حيث أعلنت وزارة الداخلية في صنعاء تفكيكَ شبكة تجسّس مرتبطة بغرفة عمليات مشتركة «أميريكية–إسرائيلية–سعودية» مقرها في الرياض
هذه التحركات الاستخبارية تؤكد أن العدو يدفع بجواسيسه وعملائه في الميدان لتهيئة الأرضية لعملٍ عدواني قادم، في محاولةٍ لاستباق المعركة وإرباك الجبهة الداخلية… غير أن سقوط هذه الشبكات بيد الأجهزة الأمنية اليمنية يثبت مجددًا أن صنعاء حاضرة في الميدان، تراقب وتسبق وتُفشل كل مخططات العدوان قبل أن تولد.
ماذا يعني كلّ ما سبق سياسيًا؟ يعني أنّ الحديث عن «حلّ سياسي» مع الرياض لا يستند إلى وقائعٍ على الأرض. واشنطن والرياض تنقلان المعادلة من «إدارة وقف إطلاق» إلى «بناء شروط تفاوضٍ من موقعٍ أعلى»: تمارين برية وجوية وبحرية تُعيد الثقة العملياتية، اختبارات إنذار تُطَمئن الداخل، سلاسل تسليح ثقيلة تُرفع إلى الطاولة، واجتماعاتٌ رفيعة تُنتج صورةً مفادها أن التحالف عاد متماسكًا بعد ارتباك البحر. هذه ليست إشارات طرفٍ يُخبّئ اتفاقًا؛ هذه إشارات طرفٍ يرفع قيمةَ ورقة الضغط قبل أي جلسة تفاوض.
فمن المناورات البرية المشتركة بين القوات السعودية والأميركية على الأراضي الأميركية، إلى المناورات البحرية في جدة بمشاركة ست دول مطلة على البحر الأحمر، إلى اختبارات صفارات الإنذار ونشر منظومات الدفاع الجوي على الحدود، كلها إشارات تتجاوز «التدريب» إلى بناء مشهدٍ متكامل لتحضير عملٍ عسكري كبير، أو على الأقل لإعادة ترميم ميزان القوة بعد الهزيمة الساحقة التي تلقّتها البحرية الأميركية في البحرين الأحمر والعربي.
من الواضح أن الرياض لا تتحرك وحدها، بل تنسق خطواتها ضمن رؤيةٍ أميركية إسرائيلية مشتركة، تراهن على الوقت، وتخفي نواياها خلف واجهات الحوار والوساطة.
زيارة محمد بن سلمان المرتقبة إلى واشنطن، وحديث البنتاغون عن تفاوضٍ متقدم لبيع مقاتلات F-35، واللقاءات المكثفة التي أجراها وزير دفاعه خالد بن سلمان مع كبار المسؤولين الأميركيين، ليست تفاصيل متفرقة بقدر ماهي إعادة بناء الحلف العسكري
واشنطن التي انكسر وجهها في البحر الأحمر، لا يمكن أن تغلق الملف كحادثةٍ عابرة؛ فذلك يعني اعترافها بالعجز أمام خصمٍ أصغر لكنه أكثر تصميمًا…وهي تدرك أن خسارتها أمام صنعاء، معنويًا واستراتيجيًا، لا تخص اليمن وحده بل تمتد إلى كل حلفائها في الخليج واوروبا والبحر المتوسط، لذلك تعمل على ترميم الهيبة بالسلاح والمناورات.
لكن في المقابل، ثمة قراءة يمنية مختلفة للمشهد… فصنعاء ترى أن ما يجري ليس سوى محاولةٍ يائسة للهروب من المأزق الأميركي، وأن كل هذه الاستعراضات لا تخفي حقيقة الفشل في البحر الأحمر، حيث تحطمت أسطورة الدفاعات الأميركية، وتبددت هيبة حاملات الطائرات أمام صواريخ يمنية دقيقة…بالنسبة لواشنطن وتل أبيب، لا يمكن السماح بتحول هذا الواقع إلى قاعدة جديدة في ميزان الردع الإقليمي، لأن نجاح اليمن في فرض معادلة المنع البحري يهدد مشروع «الشرق الأوسط البحري» برمّته، من ميناء إيلات إلى ممرّات قناة السويس، ولهذا لا حديث حقيقي عن سلام، بل عن إعادة فتح جبهةٍ لتقويض المعادلة اليمنية.
السعودية، التي جرّبت الحرب لسنوات ولم تحصد إلا الخسارة، ترى في هذا التنسيق الثلاثي فرصةً للعودة إلى الميدان بغطاء أميركي–إسرائيلي واضح، تعتقد أنه كفيل بإعادة فرض شروطها القديمة. لكنها أيضًا تعيش قلقًا مزدوجًا من جهة، هي تخشى أن يفرض عليها اليمن بعد انتصاراته في البحر الأحمر دفع التعويضات التي طالبت بها صنعاء، ومن جهة أخرى، تريد أن تدخل مرحلة «الاستقرار الدولي» قبيل استضافتها كأس العالم، وهي تخشى أن يظهرها هذا الحدث العالمي تحت ضغط الصواريخ اليمنية.
لذلك تميل الرياض إلى خيار التصعيد أكثر من خيار التسوية، مدفوعةً بوهم أن الظروف الدولية قد نضجت لإعادة الهجوم.
الإمارات من ناحيتها شريكٌ صامت لكنه فاعل، فهي لم تتخلَّ يومًا عن أطماعها في الجزر والموانئ، وتعرف أن أي تسويةٍ سياسية مع صنعاء ستجبرها على وقف النهب المنظم للثروات اليمنية في الجنوب والساحل، ولهذا تفضّل البقاء في ظلّ الموقف الأميركي، حتى لو كان الثمن إشعال جولةٍ جديدة من الحرب.
أما إسرائيل، فهي ترى في اليمن تهديدا حقيقيا سيما بعد معركة الاسناد لغزة
الأحداث في الداخل اليمني تكشف أبعاد هذه التحضيرات: تحريك ألويةٍ سعودية تابعة لما يسمى «درع الوطن» في رأس العارة وباب المندب، وتوسيع التموضع العسكري في صحارى الجوف، كلها إشارات إلى نيةٍ لإشعال جبهات جديدة، تحت غطاءٍ مناوراتي واستطلاعي.
لكن صنعاء تدرك اللعبة. فالمعادلة التي رسختها في البحر الأحمر غير قابلة للكسر إلا بثمنٍ أكبر من قدرة خصومها على تحمّله. وما جرى خلال العام الماضي – من كسر هيبة البحرية الامريكية إلى شلّ ملاحة العدو الإسرائيلي، إلى تفكك التحالفات الغربية الامريكية… جعل من اليمن لاعبًا مركزيًا لا يمكن تجاوزه.
وفي ظل هذه المعطيات تقول المؤشرات إن واشنطن لن تسمح للرياض بتنفيذ ماتم الاتفاق عليه مع صنعاء وإن تل أبيب لن تقبل بمعادلة بحرية تقطع أنفاس مشروعها التوسعي في البحر الاحمر وإن الرياض تريد التنصل من تنفيذ ماتم الاتفاق عليه مع صنعاء
ولذلك، فكل حديثٍ عن حلولٍ سياسية ليس سوى غطاءٍ لمرحلةٍ جديدة من العدوان يجري إعدادها تحت الطاولة. وإذا كان ثمة ما يتوجب على صنعاء فعله اليوم، فهو عدم انتظار سراب المفاوضات، لأن الانتظار في لعبةٍ كهذه يعني تسليم زمام المبادرة للخصم.
من الواضح أن المنطقة تتجه نحو اختبارٍ جديد، سيكون اليمن في مركزه مرة أخرى… الولايات المتحدة بحاجةٍ إلى نصرٍ يعيد لها ثقة الحلفاء، والسعودية تريد التنصل من التزاماتها تجاه اليمن بسبب عدوانها وإسرائيل تريد استعادة قدرتها على الحركة في البحر الأحمر .. لكن ما لا يدركه هذا الثلاثي أن الزمن الذي كان يُصنع فيه «الردع» بالقواعد العسكرية قد ولّى… الآن يُصنع الردع من صنعاء، بالصواريخ.
المصدر: “رادار360”
Comments are closed.