أنس القاضي: هذه هي الرأسمالية

هذه هي الرأسمالية.. عشرة من أثرياء العالم وحدهم يملكون ثروات تكفي لتنمية قارة إفريقيا بأكملها، وكما قال د. كارل ماركس فإن رأس المال بطبيعته يميل إلى التمركز في أيدي القلة على حساب الجماهير والعمال، غير أن ما نراه اليوم تجاوز ما تصوره ماركس في القرن التاسع عشر، إذ لم يعد التمركز داخل المجتمع الواحد فقط، بل أصبح على مستوى الكوكب كله، حيث تتركز الثروة في أيدي شركات عابرة للقارات، وتستنزف شعوبا وقارات بأكملها لخدمتها.

لقد بلغنا المرحلة الإمبريالية التي وصفها فلاديمير لينين حين قال إنها أعلى مراحل الرأسمالية، حيث تتقاسم الاحتكارات الكبرى العالم فيما بينها، وتقسم الدول الرأسمالية الأرض إلى مناطق نفوذ، تدار فيها الثروات والموارد وفق منطق السيطرة لا وفق منطق العدالة. هنا، تتحول التجارة الخارجية إلى استعمار مقنع، وتتحول المساعدات إلى سلاسل مالية تكبل الأمم الفقيرة، وفي هذا النظام، كما شرح سمير أمين، يعاد إنتاج التبعية بشكل دائم بين مراكز الشمال الصناعي وأطراف الجنوب المنهوب.

هكذا تطورت الرأسمالية، وتطور معها منهج الاقتصاد السياسي الماركسي ليحلل تناقضاتها ويتنبأ بمسارها. فالمنهج الماركسي في الاقتصاد رؤية علمية متجددة تنمو مع الواقع. ولهذا، نجد أن الرأسمالية نفسها تعود إلى ماركس حين تعجز عن فهم أزماتها، تحاول أن تفسرها لتتجاوزها، لكنها لا تستطيع تجاوزها فعلا، لأن جوهر أزماتها يكمن في تناقضها بين الإنتاج الاجتماعي والتملك الخاص، بين العمل الجماعي والربح الفردي.

إن ما تفعله الرأسمالية الحديثة هو تأجيل انهيارها لا تجاوزه، فهي تطور آليات جديدة لامتصاص الأزمات دون حلها: الخصخصة، تعويم الأسواق، المضاربات المالية، الديون العابرة للحدود، وتصدير الأزمات إلى الأطراف. وبما أن حل أزماتها يتم دائما على حساب الشعوب الأخرى، فإن خلاص هذه الشعوب لا يكون إلا عبر تحقيق السيادة الوطنية الاقتصادية، أي أن تمتلك قرارها في الإنتاج والتوزيع والموارد، وتمنع نهب ثرواتها تحت أي مسمى.

وإذا ما تحققت هذه السيادة، وتحولت العلاقة بين المركز والأطراف إلى علاقة منصفة قائمة على تبادل المنافع لا على الاستغلال، فإن الرأسمالية ستفقد قدرتها على ترميم نفسها. عند تلك النقطة، ستقف أمام مفترق طرق: إما السقوط والعودة إلى رأسمالية ما قبل الإمبريالية، أي الرأسمالية التنافسية المحدودة، أو تجاوز نفسها إلى أنماط جديدة من الإنتاج والتوزيع أكثر عدلا وإنسانية.

وهنا تبرز الاشتراكية باعتبارها الشكل الأرقى لما بعد الرأسمالية. لكن ليست الاشتراكية البيروقراطية التي عرفها القرن العشرون بعد الحرب العالمية الثانية، تلك التي استبدلت استغلال رأس المال باستبداد الدولة، وجعلت من الحزب الواحد سلطة مطلقة، بل المطلوب اليوم اشتراكية جديدة، اشتراكية تجمع بين العدالة الاقتصادية والحرية السياسية، بين المساواة الاجتماعية والفردية الإنسانية.

هذا ما تحاول الصين تطويره في نموذجها المعاصر: اشتراكية ذات روح جديدة، تتكئ على العلم والحداثة والإنتاج الكبير، وتفتح المجال للحرية والتعدد والتجريب ضمن بنية سياسية أكثر مرونة من الاشتراكيات القديمة، ومع ذلك يجب أن تسعى الصين إلى تجاوز استبداد الدولة الاشتراكية التقليدية تدريجيا، وهذا ما أقره الحزب الشيوعي الصيني مؤخرا ضمن توجهه نحو تعميق الديمقراطية.

وفي المقابل، تقدم دول أمريكا اللاتينية نموذجا آخر من نماذج الاشتراكية الحديثة، حيث تصعد أحزاب اشتراكية وتتبنى نظما من دولة الرعاية الاجتماعية تميل إلى الاشتراكية عبر صناديق الاقتراع لا عبر الانقلابات أو الثورات المسلحة. هذه التجربة، كما في فنزويلا وبوليفيا وتشيلي والبرازيل، تمثل اشتراكية ديمقراطية انتخابية، تحاول تحقيق العدالة الاجتماعية ضمن آليات التداول السلمي للسلطة، وهي تجربة تاريخية راهنة تثبت أن الاشتراكية يمكن أن تكون خيارا ديمقراطيا لا فرضا سلطويا، وأن تعول على وعي الشعب سياسيا وعلى تطور تجربته الديمقراطية بين اليمين واليسار.

ومع ذلك، فإن اشتراكية الغد يجب أن تتجاوز كل هذه النماذج: أن تكون أعمق ديمقراطية وأكثر إنسانية، بحيث يحكم الشعب نفسه بنفسه فعلا، لا أن تحكمه الشركات الرأسمالية ولا الدولة الاستبدادية. عندها فقط يصبح الإنسان المنتج سيدا على ثمار عمله، يرى في حياته اليومية معنى لجهده وكده، ويعيش في مجتمع لا يستعبد الإنسان فيه الإنسان، ولا يتحول فيه كل شيء إلى سلعة تباع وتشترى.

 

 

 

Comments are closed.

اهم الاخبار