“صناعة الوحوش”.. نزع إنسانية الآخر
“لم أكن أقبل أنهم بشر. كنت أرى طفلاً يبتسم لي، ومع ذلك أقتله”. من هذه الشهادة لأحد مرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، يبدأ كتاب الباحث الأميركي ديفيد ل. سميث “صناعة الوحوش: كيف يُجرَّد البشر من إنسانيتهم”، الصادر حديثاً عن دار الساقي بترجمة سلمى الحافي، ثمَّ يستقصي الجذور الفلسفية والنفسية لتجريد الآخر من إنسانيته، عبر تحليل دور الدعاية واللغة في شيطنة الآخر، وتصويره كائناً “دون بشري”، لتبرير العنف ضده.
يتوزع الكتاب على ثلاثة عشر فصلاً، في 320 صفحة. يعرّف المؤلف في الفصل الأول “ما التجريد من الإنسانية؟” هذا المفهوم بوصفه حالة ذهنية ترى الآخرين كائنات أدنى منزلة من البشر، رغم مظهرهم البشري. أما في الفصل الثاني “التجريد من الإنسانية قضية حقيقية”، فيعرض شواهد تاريخية على اقتران هذا التصنيف، الذي يميز بين البشر و”دون البشر”، بأعمال العنف، مشيراً إلى أن هذا التصور يسبق فعل الإبادة، ولا ينتج منه.
في الفصل الثالث “الدم”، يتناول المؤلف فكرة نقاء السلالة والخشية من اختلاط الأنساب، موضحاً كيف تُوظَّف مفاهيم وتخيّلات عن الدنس والعدوى الوراثية في سياسات التطهير العرقي. أما في الفصل الرابع “اختلافات جوهرية”، فيفكك الميل النفسي لدى البشر إلى تصنيف الآخرين بناءً على خصائص مفترضة وثابتة، تزعم وجود جماعاتٍ أقل من غيرها.
يتتبّع الفصل الخامس “منطق العِرق” كيف تحوّلت التصنيفات البيولوجية إلى مبررات أيديولوجية للتمييز، عبر علوم زائفة رسّخت تسلسلاً عِرقياً في تراتبية قيمية. وفي الفصل السادس “نظام التسلسل الهرمي”، يُظهر سميث كيف يُبنى هذا التمييز داخل مؤسسات الدولة والمجتمع. ويُكمل في الفصل السابع “نظام التسلسل الرتبي”، محللاً الخلفيات الفلسفية والدينية التي دعمت هذه البُنى، ورتّبت الكائنات في هرم معنوي يُشرّع استعباد وقتل الأعلى للأدنى.
في الفصل الثامن “كون المرء إنساناً”، يطرح المؤلف سؤالاً: ما الذي يجعل الإنسان كذلك؟ ليخلص إلى أن هذا التعريف غالباً ما يتشكل من خلال نقيضه: “اللا إنساني”. وفي الفصل التاسع “الأيديولوجيا”، يستعرض كيف تتحوّل هذه المفاهيم إلى منظومات فكرية تغوي الجمهور وتبرّر الاضطهاد. أما في الفصل العاشر “التجريد من الإنسانية بوصفه أيديولوجيا”، فيبرهن على أن هذا التجريد لا يصبح أداة فحسب، بل يتحوّل إلى خطاب مستقل يعيد إنتاج نفسه عبر الأجيال.
في الفصل الحادي عشر “الازدواجية”، يناقش المفارقة النفسية التي تمكّن الجناة من رؤية ضحاياهم كائنات بشرية وغير بشرية في آن، ما يخفف وطأة الجريمة. ثم في الفصل الثاني عشر “صناعة الوحوش”، يحلّل كيف تسهم الصورة واللغة والأسطورة في خلق “الوحش” الذي يُبرَّر قتله. ويختم في الفصل الثالث عشر “كلمات أخيرة ونهاية غير منجزة”، بدعوة إلى تفكيك هذا الخطاب، إذ تقبل المجتمعات، مع حضور الأيديولوجيات والتوظيف السياسي، نزع إنسانية جماعاتٍ منها.
يستند سميث إلى أمثلة من الإعدامات العنصرية في الولايات المتحدة ومجازر رواندا، ليفسّر تجريد الآخرين من إنسانيتهم، كي يَسهُلَ قتلهم. ويرى أن هذه الآليات كامنة في جميع المجتمعات، ويمكن تفعيلها سياسياً متى تهيّأت البيئة الأيديولوجيّة. والكتاب دعوة إلى رصد خطاب التحقير مبكراً، ومواجهته بالوعي النقدي.
Comments are closed.