فعالية فكرية بصنعاء عن “الاقتصاد اليمني” تدعو لإصلاح الإنسان قبل البنى التحتية

في خطوة تعكس الحاجة الملحة لمعالجة التحديات الاقتصادية العميقة التي تواجه اليمن، استضافت العاصمة صنعاء مساء أمس الأحد، الحلقة الثانية من السلسلة النقاشية الموسعة تحت عنوان “الاقتصاد اليمني: الفرص والتحديات”. نظمت الفعالية بالشراكة بين مركز دال للدراسات الاجتماعية والاستشارات والمركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل “منارات”، وفي الفعالية التي شهدت حضورًا نوعيًا من الأكاديميين والخبراء في مجالات الاقتصاد، والسياسة، والفكر الاجتماعي، إلى جانب عدد من المثقفين والمهتمين بالشأن الوطني.

وأدار اعمالها ويسر نقاستها المهندس عبد الرحمن العلفي المدير التنفيذي للمركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل ((منارات))؛ أجمع المشاركون على أن المدخل الحقيقي لأي تحول اقتصادي يبدأ من الإنسان، داعين إلى إصلاح شامل يرتكز على بناء القدرات البشرية قبل أي إصلاحات هيكلية أو بنوية.

الإنسان أولًا

الورقة الرئيسة للفعالية، التي قدمها الأستاذ الدكتور عبد الله محمد العاضي، أستاذ الاقتصاد في جامعتي صنعاء وعمران، وضعت محور “الإنسان أولًا” في صميم النقاش.

وشدد الدكتور العاضي، على أن “المدخل لأي تحول اقتصادي حقيقي يبدأ من الإنسان، لا من الأموال أو الموارد”، مؤكدًا أن تغيير البنية الاقتصادية مرهون بتغيير البنية الثقافية والاجتماعية. وأشار إلى أن الاستقرار هو الشرط الأساسي لأي نقلة اقتصادية، موضحًا أنه “لا يمكن الحديث عن خطط اقتصادية أو تنموية في بيئة تمزقها الحرب، وتنعدم فيها مقومات السلم الاجتماعي”.

وأكد العاضي، أن النهوض الاقتصادي يتطلب خطة واضحة المعالم تعالج المشكلات على المستويين المحلي والدولي، مشددًا على ضرورة وجود سلطة وطنية تؤمن بالعدالة الاجتماعية، والمساواة، والشراكة في القرار والثروة. كما ركز على العنصر البشري بوصفه “الركيزة الأساسية لأي عملية تنموية”، مشيرًا إلى أن تمكين هذا العنصر يعتمد على توفر ثلاثة شروط أساسية: الاكتفاء الاقتصادي الذاتي، التأهيل العلمي الجيد، والصحة الجسدية والنفسية السليمة والاستقرار المعيشي المناسب. واستشهد بتجربة ماليزيا الرائدة في الاستثمار البشري من خلال تعزيز قيم الانضباط والتفوق والتفكير خارج أطر التخلف.

تحديات يمنية

تميزت الفعالية بتنوع المداخلات التي أثرت النقاش من زوايا فكرية متعددة.

الشيخ عبد الملك منصور أكد أن الثروة الحقيقية لأي أمة تكمن في الإنسان وليس في الموارد الطبيعية مستشهدًا بتجارب دولية متباينة: الاتحاد السوفيتي الذي امتلك الإنسان والموارد لكنه فشل لغياب نظام يحفز المبادرة الفردية، واليابان التي تفوقت رغم افتقارها للموارد بفضل الاستثمار الذكي في الإنسان ونظامها الاقتصادي المرن، والولايات المتحدة التي جمعت بين الإنسان المؤهل، الموارد، والنظام الاقتصادي الحر. وخلص منصور إلى أن “العدالة والحرية هما الأصل في تقدم الشعوب، وغيابهما يفضي إلى شلل مجتمعي وعجز اقتصادي”.

من جانبه، طرح الكاتب مصطفى راجح تساؤلًا نقديًا حول مفهوم الاستقرار، مشيرًا إلى أنه ليس كافيًا لتحقيق التنمية. وتساءل: “إذا كان الاستقرار هو شرط أول للتنمية، فهل يعني أن طالبان ستحقق تنمية في أفغانستان؟”، داعيًا إلى التركيز على الاستقرار المنتج لا القمعي.

كما تساءل الأستاذ طاهر جابر عن أسباب عدم استغلال الموارد الطبيعية في اليمن بالشكل الأمثل، مرجعًا المشكلة إلى علاقة مختلة بين البنية الاجتماعية والاقتصادية، وغياب ثقافة الإنتاج وعدالة التوزيع، ومشددًا على أن “أي خطة اقتصادية حقيقية يجب أن تمر أولًا عبر إصلاح سياسي شامل”.

أبعاد الأزمة

تطرقت المداخلات أيضًا إلى الأسباب الجذرية للأزمة الاقتصادية في اليمن. الدكتور عبد الكريم قاسم ركز على خطر الاقتصاد الريعي، معتبرًا إياه جذر الصراعات السياسية والانقسامات المناطقية والطائفية.

وأوضح أن الاعتماد على المساعدات والنفط حول الصراع على الحكم إلى “صراع على الريع، لا على المشروع الوطني”، مما يعيق أي جهود تنموية حقيقية.

من جانبه دعا الدكتور عبد الكريم السعيدي إلى الاستفادة من تجارب الدول النامية الناجحة مثل رواندا وفيتنام، التي استطاعت الخروج من الحروب والنزاعات إلى حالة من التعافي والنمو من خلال التركيز على التعليم، العدالة، ومحاربة الفساد. وأشار المهندس يوسف الحشار إلى أن اليمن تمتلك مقومات اقتصادية لا تقل عن جيرانها في الخليج، لكنها تفتقد إلى نظام سياسي عادل يتبنى قيم الحرية والعدالة والشراكة، مؤكدًا أن “النهضة تبدأ حين تتوقف الأنظمة عن استغلال الدين لتبرير الفساد والبقاء في الحكم”.

رؤى معمقة

تجسد المحور الأخير من الفعالية عمقًا فكريًا يُبرز الترابط الوثيق بين الأبعاد التنموية المختلفة، مؤكدًا أن النهوض الاقتصادي في اليمن لا يمكن فصله عن إصلاح شامل للإنسان والمجتمع. وقد قدم الأستاذ الدكتور نبيل منصور العودي، رؤى معمقة في هذا الصدد، مسلطا الضوء على التحديات الجوهرية التي تواجه عملية التنمية في اليمن.

أضاء الدكتور العودي على ثلاث قدرات محورية يمتلكها الإنسان تُعد أساس أي عملية تنموية حقيقية: التعلم والتنظيم والتخطيط، مؤكدًا أن تقدم البلدان يقاس بتطور أنظمتها الفكرية والعملية والإدارية، شريطة أن تكون مبنية على أسس علمية رصينة. فالتخطيط السليم، المبني على المعرفة والتحليل العلمي، هو الشرط الأساسي لتحقيق أي تنمية مستدامة.

أما القدرة الثانية، فهي تطوير الذات والنمو العقلي والبيولوجي، والتي ربطها بنظرية “التعليم المبني على حل المشكلات”، مشددًا على أن التنمية الحقيقية تنبع من قدرة الأفراد على التكيف والتفكير النقدي وإيجاد حلول للتحديات المعقدة. أما القدرة الثالثة، فهي حل المشكلات بالعلم والمعرفة، حيث أكد العودي أن كافة المشكلات، بما في ذلك التحديات الاقتصادية والاجتماعية، يجب أن تُقاس وتُحل بالعلم والمعرفة لا بالاجتهاد العشوائي. وضرب مثالًا على ذلك بمورد المياه الحيوي، الذي يتم هدره في اليمن على حساب الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والدواء، مشددًا على ضرورة تبني أطروحات وممارسات مسؤولة من قبل المثقفين والنخب، لتنعكس أقوالهم في سلوكياتهم.

ولم يقتصر طرح الدكتور نبيل العودي على الجانب المعرفي، بل ربط التنمية بالأبعاد السياسية والثقافية. مؤكدًا أن التنمية الشاملة لا يمكن فصلها عن هذه الأبعاد، وأن أي مشروع تنموي سيفشل إذا لم يأخذ في الاعتبار العوامل المتجذرة في الثقافة اليمنية، مثل الفقر والجهل والاستبداد والتسلط والعنف.

وأوضح أن الفقر في اليمن ليس فقط ماديًا، بل هو نتاج تراكمات هذه الأمراض المجتمعية التي تنتج بدورها فقرًا ماديًا ومعنويًا، وتُشكل بيئة خصبة للأمراض الجسدية والنفسية والاجتماعية. واعتبر أن التسلط والاستبداد هو الحامل الرئيسي لكل هذه الأمراض “الكيانية” التي تعيد إنتاج الفقر وتُدمر المجتمع.

كما نبه العودي إلى نمط الاستهلاك العبثي في اليمن، الذي وصفه بأنه مدمر لصحة البيئة والمجتمع، لأنه يأتي على حساب الاحتياجات الأساسية، مما يعكس غياب الوعي والترشيد في استغلال الموارد.

وفي مداخلة لافتة، أكد أستاذ علم الاجتماع المعروف الدكتور حمود العودي، أن المشكلة ليست في الموارد أو الأرض سعة أو ضيقًا، بل هي متجذرة في الإنسان نفسه. أشار إلى أن البشرية، على مدى قرون، أحدثت تغييرات جوهرية في واقعها، لكن الإنسان لم يتغير على مستوى الجوهر، وظل يتعامل “بعقلية الوحش والغابة ورجل الكهف”.

وطرح تساؤلًا نقديًا حول ما إذا كان الإنسان الذي قطع مسافة نحو الديمقراطية وأمن بالعلم والمشاركة والتنوع قد وصل إلى مرحلة من النضج الإنساني الحقيقي. وانتقد الدكتور حمود العودي من يتغنى بمنجزات الغرب في الديمقراطية والحقوق العامة، مؤكدًا أن هذه المنجزات غالبًا ما تكون لشعوبهم فقط، وليست للبشرية جمعا، مستشهدًا بأمثلة من فيتنام والبوسنة وغزة. وخلص إلى أن “هناك إنسانًا صالحًا لنفسه نعم، ولكنه مصيبة على غيره”.

كما أشار إلى أن الإنسان أصبح “مروجًا للخرافة”، وأن التكنولوجيا العالمية، بدافع البراغماتية، تعمل لتحقيق الربح والمكسب بغض النظر عن التأثيرات الأخلاقية والاجتماعية.

اختتم اللقاء السياسي المعروف خالد الديني ضيف شرف الفعالية، الذي شدد على ضرورة تبني مشروع وطني جامع يضم كل اليمنيين على اختلاف مناطقهم وانتماءاتهم.

وأكد أن هذا المشروع يجب أن يركز أولاً على الاستثمار في الإنسان، من خلال بناء قدراته وتمكينه، وإعادة توجيه الموارد الوطنية نحو تنمية شاملة ومتوازنة تشمل كافة مناطق اليمن، من الريف والحضر إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب. هذه الدعوة تعكس قناعة راسخة بأن التنمية في اليمن لا يمكن أن تتم في غياب وحدة وطنية حقيقية ورؤية مشتركة لمستقبل مزدهر.

تعكس هذه الفعالية رغبة حقيقية في بناء نقاش علمي وموضوعي حول الاقتصاد اليمني، وتؤكد أن الأزمة الاقتصادية في اليمن هي في جوهرها أزمة قيم وفكر ومؤسسات، وليست مجرد نقص في المال أو الخطط. الحضور النوعي للمفكرين والمهنيين والناشطين، أعطى للنقاش بعدًا نقديًا يلامس جوهر الأزمة، ويقدم رؤى متكاملة للنهوض باليمن.

 

Comments are closed.

اهم الاخبار