وليد عبدالحي: انتظروا الأسوأ ،إلا إذا

من بين 88 مرة استخدمت فيها الولايات المتحدة حق الفيتو منذ 1946 (أول استخدام ) إلى ما قبل 3 أيام ، كان منها 51 مرة دفاعاً عن إسرائيل (أي ما نسبته 56.8%)، وتم الاستخدام من قبل الإدارات الديمقراطية والجمهورية على حد سواء، ومع ذلك كافأ العرب ترامب وإدارته بحوالي 4 تريليون دولار (وهو المعلن، فالعرب يدارون حوائجهم بالكتمان).
بالمقابل ،فإن التصويت الأخير في مجلس الأمن الدولي ب14 دولة (بينها الأربع المتمتعة بالفيتو) لصالح وقف اطلاق النار يشير إلى المأزق الذي تعمل الإدارة الأمريكية والإسرائيلية على تجنبه، وهو وماذا بعد غزة (أيا كانت نتائج الصراع فيها)؟
دعوني أعود لكتاب بنيامين نيتنياهو (A place among Nations) الصادر عام 1993، ففي هذا الكتاب الذي يقع متنه في 401 صفحة أود الإشارة إلى توجهات نيتنياهو بخصوص معركة غزة على النحو التالي:
1- السعي لاثبات أن عدم الاستقرار في الشرق الأوسط ليس سببه “مركزية القضية الفلسطينية ” (الصفحات من 91-129)، ويرى أن الاضطراب في الشرق الأوسط سببه الاستبداد العربي، والصراعات بين الدول العربية على الحدود أو بسبب التنوعات العرقية والقبلية أو بسبب الصراعات العربية مع دول الجوار (إيران وتركيا وأفريقيا..الخ)  ( يقدم جدولا في صفحة 105 عن الخلافات العربية في شهر واحد إبريل 1985).
لكن طوفان الأقصى عزز الفكرة بمركزية “القضية الفلسطينية”، بل أن المجتمع الدولي وبخاصة قواه المركزية بدأ يطرح الموضوع بقوة مرة أخرى، وليس صدفة التحول الهادئ والمتراكم في التوجهات الأوروبية (رغم أن بعض التحول في الموقف الأوروبي ليس سببه فقط موضوع غزة)، ومن هنا أدرك نيتنياهو وإئتلافه الحاكم بأن موضوع مركزية القضية الفلسطينية يشي باحتمال مأزق إسرائيلي مع العالم، لذا ستقوم استراتيجية نيتنياهو القادمة على:
أ‌- تأجيج الصراعات العربية الداخلية والبينية (بتحريك الصراعات الأثنية والدينية والوطنيات الضيقة..إلخ) والعمل على خلق مشكلات بين دول المغرب العربي، وبين مصر وجوارها، وبين دول خليجية فيما بينها، كما أن تركيزه على إيران هو محاولة لصرف النظر عن الموضوع الفلسطيني، وهو ما يسانده تيار عربي تتصدره بعض قوى الخليج العربي وبعض القوى الدينية وسوريا.
ب‌- السعي لخلق أوسع قدر ممكن من التشقق الداخلي بين قوى المقاومة، ثم التنازع بين العشائر الفلسطينية، وافتعال مشكلات بين مصر والفلسطينيين.. وتشجيع فكرة توطين الفلسطينيين حيث يعيشون، وكل ذلك لجعل فكرة مركزية الموضوع الفلسطيني أقل أهمية.
ت‌- لا استبعد أن تتزايد عمليات “حركات دينية أو ذئاب منفردة” ضد أهداف غربية أو إسرائيلية لتاجيج موضوع “معاداة السامية” للتدليل على أن الموضوع ليس فلسطين بل عداء السامية لتحقيق هدفين هما: تشجيع يهود الخارج للهجرة لإسرائيل لحل عقدة تفوق العرب الفلسطينيين سكانيا على عدد اليهود من ناحية، وامتصاص التراجع في مكانة إسرائيل دوليا وتوجيهه نحو “معاداة السامية” وليس بسبب فلسطين من ناحية ثانية. ( صفحة 366-367)
2- إن نيتنياهو يعيش قلقا عميقا جدا من زاوية احتمال إعادة طرح “حل الدولتين”، فهناك الآن أكثر من 145 دولة تؤيد هذا الحل، بل أن اوروبا –بما فيها بريطانيا التي كان لها اليد الطولى في تاسيس إسرائيل- بدأت تميل نحو هذا الحل ناهيك عن فرنسا وألمانيا وايطاليا، بل أصبحت بعض الدول الأوروبية كأسبانيا وايرلندا أكثر حراكا من دول عربية في هذا الاتجاه. ومن الواضح أن الموافقة الأخيرة قبل أيام على انشاء 22 مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية هو تكريس لتوجه نيتنياهو بخلق بيئة ديموغرافية وبنيوية تجعل من إقامة دولة فلسطينية اشكالية كبرى، وسيكون هدف نيتنياهو اللاحق تفريغ الضفة الغربية من سكانها الفلسطينيين على غرار ما يفعله في غزة، وللتأكد من هذا التوجه عليك أن تعود إلى كتاب نيتنياهو وتحديدا صفحة 343-345.
إن أغلب السياسيين الإسرائيليين خارج نطاق الائتلاف الحاكم، ويشاطرهم في ذلك نخبة واسعة من المفكرين الإسرائيليين يرون أن حل الدولتين في حالة اقراره سيكون أقصر الطرق لاحتمال حرب أهلية بين اليهود (بين المستوطنين في الضفة الغربية وعددهم يقارب عدد سكان إسرائيل عند إعلان تاسيسها) وبين الدولة اليهودية ذاتها.. وهو ما يجعل نيتنياهو حريصا إلى أبعد الحدود على إطالة الحرب للوصول لوضع يلغى أي احتمال مهما كان ضعيفا لهذا الحل،بخاصة أن دولاً أوروبية وازنة أصبحت تروج لذلك وعلى رأسها ماكرون الفرنسي، بل ويبدو أن مؤتمرا دوليا سيعقد قريبا لطرح المشروع.
3- أما غزة، فبعد أن كان يرى نيتنياهو في مراحل سابقة أن قطاع غزة قابل لأن يحكم نفسه ذاتيا، وأن غزة ليست ذات قيمة استراتيجية كالضفة الغربية، فقد رأى أن قرب غزة من المدن الإسرائيلية يجعلها في حالة سيطرة التنظيمات الفلسطينية المسلحة عليها مكانا خطرا، لذا يرى نيتنياهو انه لا يمكن فصل الادارة المدنية في غزة عن الامن الإسرائيلي، وهو ما يعني إما تفريغ غزة من سكانها أو بقاء إسرائيل مسيطرة أمنيا وعسكريا على غزة، ويبدو أن التهجير هو الحل الأمثل ومن خلال غواية مصر بشكل أساسي ودول عربية أخرى قادرة على امتصاص العمالة الغزية.(الصفحات 131و284-285 و 303-304 و 349-351)
لكن الركيزة المركزية في تفكير نيتنياهو هو “بناء القوة” (من صفحة 358-401)، ومع تعداده لمؤشرات القوة، فانه يرى أن “إسرائيل تستطيع جذب التحالفات معها والحفاظ عليها من خلال النجاح في ممارسة القوة بمعناها الواسع وفي مقدمتها القوة الخشنة” (ص 395، ويدلل على ذلك بنماذج من النزاعات الدولية خلال فترات زمنية سابقة)، ولعل ذلك أحد جوانب التباين بينه وبين ترامب، فهما متفقان تماما على مركزية القوة في إدارةالعلاقات الدولية ،وينظرا للعلاقات الدولية من منظور صفري، لكن ترامب يعلي من شأن الأدوات الاقتصادية (بالغواية والحجب) بينما يعطي نيتنياهو الأولوية للقوة العضلية، لكن ما يجمعهما هو القدرة على الكذب، وإن يكن نيتنياهو أذكى من ترامب في هذا الجانب.
أرى أن الولايات المتحدة في اتخاذها قرار الفيتو الاخير لمنع وقف القتال في غزة، تتماهى مع موقف نيتنياهو ، ولا استبعد أن يطرح ترامب على الدول العربية بخاصة الخليجية مواقف تعرقل تنامي مشروع الحزام والطريق الصيني لصالح الممر الاقتصادي الهندي، وهو امر قد تسانده إسرائيل، ويتم بعد ذلك دمج غزة في اطار المشروع الهندي الإسرائيلي الأمريكي الخليجي.. وهو أمر فيه من التفاصيل الكثير.
لكني أعتقد أن ثمة نقاط حرجة في المشهد الدولي أبرزها نتائج الصراع في أوكرانيا، وتنامي النزعة الأوروبية لسياسة أقل تبعية للولايات المتحدة ثم موضوع تايوان القادم لا محالة، ثم “قد” يترافق مع كل ذلك أزمات قادمة في تركيا وإيران ومصر وسوريا، وهناك احتقان تحت الجلد في المغرب العربي، كل ذلك سيكون من مصلحة نيتنياهو أن يفكر من الآن “كيف يستثمرها” لصالح مشروعاته، لكن هدفه الاستراتيجي المباشر أن “يؤم صلاة الجنازة على قبر حل الدولتين ” وخلفه الأنظمة العربية ،وهذا هو التحدي الكبير للمنطقة بغض النظر عن جودة أو سوء هذا الحل .. ربما.
* كاتب وباحث أكاديمي أردني  

Comments are closed.

اهم الاخبار