Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

أحفاد نوح: أي حياة يعيشها أولئك الناجون؟

حسن داوود*

في مكان ما من روايته يكتب أحمد علي الزين ما يلي: «أن تكون حيّا يعني أنك نجوت». لكن هل يعني هذا النجاة المؤقتة، كأن يخرج أحدنا سالما من مقتلة أو من زلزال أو من حادث اصطدام؟ ذاك أن من ينجو لن يبقى ناجيا إلى الأبد. فإن لم تتكفّل به الحروب والحوادث والجائحات، سينتهي بأن يكون مسلّما للموت.

لكن الكاتب أبعد هذا المصير، الحتمي، من حسابه فقطّع الحياة إلى مراحل أو أجزاء قوامها الكوارث على اختلافها، حيث سيكون ناجيا من يبقى حيا بعد كل كارثة. ذلك بدأ من أيام نوح وسفينته، التي قُيّض لها أن تكون المُستأنفة للحياة بعد أن تكون هذه قد شارفت على الانقطاع. لكن لم يكن ذلك إلا نجاة من حادثة واحدة، فمن خلّفهم الناجون الثلاثة سام وحام ويافث، أبناء نوح، سيظلون معرّضين على الدوام للمحن التي إما تميتهم، وإما تنجّيهم.

هكذا هي حياة شمس إبن درّة الذي، منذ أن بدأ يتكون جنينا في بطن أمّه، لم يكن في منجى من الخطر. كان يُمكن أن تُقتل أمه بعد حبلها به من أبيه، ذلك الرجل الغامض الغريب الذي قضى مقتولا، ما يعني أن شمس كان معرّضا لئلا يولد. وهو كاد يموت بعد نجاته، جنينا، في الباخرة جنوى التي أصاب المرض المعدي ركّابها قبل أن تضربها ريح شديدة العتوّ تقضي على من لم تزهق العدوى روحَه.

رحلة جنوى من بيروت إلى مرسيليا، ثم إلى هافانا، كانت رحلة أسطورية على غرار ما كانته سفينة نوح، وأيضا على غرار ما كانته السفينة الأقرب زمنا إلينا، «تايتانيك» التي مكّننتها كارثتها من أن تبلغ مرتبة الأسطورية هي أيضا. تفاصيل كثيرة في وصف ما تعرّضت له «جنوى» سبق لنا أن قرأناها، أو شاهدناها في محنة تايتانيك التي أدّت إلى غرقها. لكنّ هناك فارقا بين الاثنتين قائما في أن ركاب السفينة الغارقة داهمتهم الكارثة وهم في ذروة احتفالهم ببذخهم، أو بغرامهم في ما يتعلّق ببطل الرواية وبطلتها، أما مع جنوى فكان خطر الغرق متبوعا بخطر الموت من الوباء. ذلك، في البحر، يماثل ما جرى بعد عقود، أي حين صار الجنين كهلا في ثمانينياته وهو يجول في شوارع بيروت. أقصد بهذه المماثلة المحنة التي تلي المحنة.

هنا، في الفصول الأولى من رواية «أحفاد نوح» يعيش شمس عصر توالي النوازل، ليس على بيروت وحدها، بل أيضا على البلدان المجاورة لها، التي مثلها تعيش زمن نكباتها. نقرأ ذلك الذي يحدث، هنا وهناك، بتفاصيل حاضرة وسخط راهن يوقعه الكاتب على من يراهم متسببين بالكوارث، التي تجعل من هذا العصر ذروة الخسارات.

تلك الفصول الأولى، الراهنة والمعاصرة، هي أقل أسطورية مما نقرأه في فصول الرواية اللاحقة، ربما لأن القرب من الكارثة، أو من عيشها، أو من معاناتها إبان حدوثها، يفقدها ذلك الجانب التخيّلي، القادر على إضافة أزمنة أخرى إلى زمنها. لكن رغم اتساع الخريطة الجغرافية لرواية «أحفاد نوح» المتناولة لما جرى في بلدان مثل سوريا والعراق، والموصل عبر ما يرويه أحد هاربيها، تبقى القاعدة المكانية للرواية بيروت ومشتى الجوز، القرية الجبلية المطلّة على البحر. هناك، في تلك القرية، جرت البدايات الأولى التي من إحداها تكّون شمس في بطن أمه نصف الروسية، وإلى هناك، ستعود الرواية لدفن تلك الأم، تلبية لوصيّتها. أما الإقامة في البلدان الأخرى، تلك التي جرت فيها وقائع العيش العادي (هافانا ومرسيليا وباريس وأسطنبول وقونية، ولنضف إلى ذلك جنوى، الباخرة، حيث تحوّل ركوبها في تلك الرحلة إلى أن تكون مكان إقامة، حيث فاقت مجريات ما حدث فيها ما شهدته أمكنة الإقامات الأخرى) فتبدو كما لو أنها إقامات سياحة، رغم أن شمس، وأمه، عاشا فيها سنوات طويلة.

مشتى الجوز هي الأصل وهي أيضا العودة بعد الطواف.. ما كان يمكن للرواية أن تنتهي دون تلك العودة. كان شمس قد أنجز حياته خارج تلك القرية، جلّ حياته. هناك قام بما أراد أن يقوم به: أن يشبع شغفه بفن الرسم، وإن لم يبلغ به حدّ آخرين التقاهم، مثل بابلو بيكاسو كما يروي؛ وهناك أمكن له أن يشهد موت قاتل أبيه ميمون المؤدّب بعد لحظات قليلة من مثوله أمامه. بدا هذا الرجل القاتل، الذي صار يعمل خطّاطا، كأنه ينتظر تلك اللحظة التي تعيده إلى جريمته، لينكب على نفسه، وعلى أوراقه، ويموت.

بهذا يكون شمس بن درّة قد قَتَل دون جريمة. قَتل ولم يقتل وهو، إلى ذلك، كان شاهدا على ثأره، متحقّقا متأكّدا من حصوله. لكن كانت ضرورية العودة إلى مشفى الجوز، مرورا ببيروت التي لولاها لم تكن الرواية لتبلغ ختامها، أي لحظتها التراجيدية. وكان أحمد علي الزين قد عاد إلى تلك النهاية أولا، بادئا روايته بذلك الختام ما جعلنا نظن، أو نتساءل، ونحن بعد في تلك الصفحات الأولى، إن كنا إزاء بطل رواية يعيش أواخر أيامه.

٭ ٭ رواية علي الزين «أحفاد نوح» صدرت عن دار نوفل في 214 صفحة، مؤخّرا في 2021.

‏كاتب لبناني

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share