Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

المقالح.. الرَّمز والإنسان

 زين العابدين الضبيبي*
لا بد من الاعتراف بداية أن الخوض في تفاصيل حياة الرموز الكبيرة والمؤثرة في حياتنا والذين ساهموا في صناعة التحولات الجوهرية في واقع بلدانهم وخارجها، ومَن لوَّنوا الحياة بمصابيح الإبداع والأفكار والرؤى أمر ليس باليسير.
إذ يجد الواحد منَّا نفسه واقفاً في مفترق الحيرة، وبقدر إلمامه بمنجز هذه الشخصيات وقربه منها تتسع الرؤية وتضيق العبارة كما يقال، وكلما كان أثر هذه الشخصية متعدداً ومتشعباً وغيرَ منحصر في مجال واحد، كانت الحيرة هي البوصلة التي تقود الذاكرة والقلم، هذا ما تبادر إلى ذهني لحظة تلقيت دعوة كريمة من مجلة “الجسرة” للكتابة حول شخصية بحجم المعلم الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح، ولأن علاقتي به تمتد لسنوات تقترب من نصف عمري، فما تحفظه ذاكرتي من تفاصيل كثيرة يضاعف صعوبة الأمر، فلا أدري من أين سأبدأ ولا كيف سأنتهي.
لذا سأعود بالذاكرة إلى ما قبل لحظة اللقاء الأول، فقد تشكّلت شخصية الدكتور في وجداني عبر قراءاتي لبعض نصوصه الشعرية المقررة ضمن المنهج المدرسي، وفي مقدمتها قصيدةٌ تحولت إلى أيقونةٍ وفاتحةٍ تُردّد في فم كل ثائرٍ، وصرخةَ انطلاقٍ لكلِّ ثورة، أعني قصيدته الشهيرة “سنظل نحفر في الجدار” ثم ما تلاها من نصوص شعرية ونثرية أشعلت قراءتي وحفظي لها شرارةَ الشغف في وجدان الصغير الذي كنتهُ يومها وما صرت إليه اليوم، وهو شغفٌ ينقسم إلى قسمين، الأول: شغف بمعرفة الشخصية وقراءة المزيد من نتاجها، والثاني: شغف بالكتابة بدءًا بتقليد ومحاكاة ما وقع بين يديّ من نصوصِ هذا الشاعر العظيم الذي تحوّل إلى قدوةٍ تشغل البال وتتربع عرشَ الاهتمام.
مرّت الأيام، وبدأت ملامح الطريق إلى عالم الإبداع تتضح، وبدأ الاتصال والتواصل ينمو بيني وبين مَن سبقوني إلى جناته، وبقدر تعدد التواصل وتعمقه كان الحديث عن شخصية الدكتور المقالح يفرض نفسه، فتارةً بقراءةِ جديدِهِ، وتارةً بالحديث عن منجزه الثقافي والإبداعي، وحيناً بتتبّعِ تفاصيل حياته وأثره في الساحة الثقافية والوطنية كمثقفٍ ثوريّ، وواحدٍ من أبرز رموز الثورة اليمنية التي انطلقت في الشطر الشمالي من الوطن، والتي ساهم المقالح فيها بقلمه ولسانه وكان أحدَ الذين خطُّوا
وقرؤوا بيانَ ثورتها ضد الحكم الإمامي الكهنوتي المتخلف لحظة انطلاقها عبر أثير الإذاعة التي كان يعمل فيها.
وبقدر عطاء المقالح يتسع الحديث عنه، وعن الأثر الكبير إبان فترة إدارته لجامعة صنعاء، وما أحدَثَه فيها من تغيير وتطوير، وكيف تحولت على يديه من مبنى صغير يحوي عدداً محدوداً من الكليات، إلى صرح متعدد الأقسام والتخصصات، أخذ بالاتساع والتفرّع بفضل جهوده إلى مناطق لم يكن في خيال أبنائها أن تصل إليهم الجامعات أو يواصلوا الدراسة في كليات متخصصة داخل محافظاتهم ومدنهم دون مشقةٍ أو تعب، فلم يعد الراغبون في مواصلة التعليم العالي بحاجة إلى السفر صوب العاصمة لغرض الدراسة في الجامعة الوحيدة الموجودة على امتداد الوطن، وهو حلم ظلّ صعب المنال ومحصوراً على ذوي الجاه والثراء منهم.
لم يقتصر أثر المقالح على تطوير الجامعة ومضاعفة أقسامها فقط، بل تحولت في عهده إلى ورشة عملٍ دائمة استوعبت نخبة من كبار المختصين في مختلف العلوم من شتى الأقطار العربية كضرورة مُلحّة لتأهيل كادر وطني يستطيع المواصلة والمواكبة لاحقاً، فقد كان عدد المؤهلين من أبناء البلد لا يفي بالغرض ولا يلبي التطلعات المنشودة، ولقد اتسعت مسارات وإسهامات الدكتور المقالح سواء منها الثقافية والشعرية، باعتباره أول رواد الحداثة والمؤسسين لقواعدها والمبشرين بها يمنيًّا، ومن أهم عمالقتها عربيّاً، إضافة لإسهاماته النضالية سابقاً، مروراً بعمله على التأسيس المتين لمداميك التعليم الأكاديمي بما يساعد على صناعة نهضةٍ علمية ومعرفية، جنودُها نخبة من أهم الأكاديميين العرب، الذين تم استقطاب بعضهم وتلبية رغبة البعض الآخر في الانضمام إليهم، وذلك لِما تمتّعت به الجامعة من مكانة حينها، أو باستيعاب من ضاقت بهم أنظمتهم وأوطانهم فهجروها ولاذوا باليمن واستقبلهم المقالح دون أيّ تردد أو فضل، وسعى لتوفير فرص عملٍ لهم في بلدهم اليمن، وقد عرفتُ بعضهم وسمعت منهم عن مواقف الدكتور النبيلة ما لا يتسع المقام هنا لذكرها، فبفضلهم وبرؤية عميقة تسلح بها المقالح، حَدَث تغيير واقع المجتمع اليمني التعيس، وساهموا بقيادتهِ في صناعة التحولات التي غادرت بها بلادنا من سراديب وكتاتيب التعليم المحدود والمتخلف إلى فضاء التعليم العالي والبحث العلمي.
ورغم انشغال الدكتور المقالح في الحياة العامة والإدارة والتدريس وقيادته -التي لم يسعَ إليها- للحركة الثقافية والمعرفية حاملاً عبء تقديمها للعالم العربي، وما سرقته من وقته وجهده، فإنه لم يتوقف عن كتابة الشعر، والتأليف النقدي والكتابة الصحفية بشكل شبه يومي في الصحف المحلية والعربية وكتابة المقدمات لأعمال الشعراء والمبدعين الشباب وتشجيعهم، إلى الحد الذي لا يضاهيه أديب سواه، معتبراً ذلك واجباً فرضه على نفسه وقام به على أكمل وجه.
كل تلك التفاصيل التي توزعت فيها حياة المقالح لم تحجبه يوماً عن حياة الناس ومشاركتهم همومهم العامة بقلمه، ولم يتخلف بشخصه عن مشاركة أفراحهم وأتراحهم ومناسباتهم، وهو ما تسنّى لي معرفته لحظة اقترابي منه، وهي لحظة بإمكان سرد تفاصيلها أن يكشف الكثير من شخصية هذا الأب والإنسان الكبير والمبدع الفذ والقيمة الأهم في حياتنا، كيف لا وهو الذي حمل الوطن وهمومه حتى تقوّس ظهرُه!.
كانت أول مرةٍ التقيت فيها بالدكتور المقالح هي حين كنت طالباً في الثانوية العامة، أحمل بجعبتي القليل من البوح والكثير من الأحلام، حينما قادتني المصادفة إلى حضور فعالية يوم الشعر العالمي؛ ولأنني كنت أصغر المشاركين سناً وآخرهم وصولاً إلى الفعالية، فقد كنت آخر مَن ألقى، ولأن ما ألقيته كان عبارة عن قصيدة ذات مضمون وطني، فإني لحظةَ مشاهدتي الدكتور عبدالعزيز المقالح في الصف الأول، وجدتني دون تخطيط أفتتح القصيدة بإهدائها إليه، ثم بدأت بقراءة القصيدة، فحضر صوتي وغابت صورتي، إذ لم يسمح لي قِصَرُ قامتي وقد حجبتني المنصة عن الحضور وحجبتهم عني، كما حجبت رغبتي بمشاهدة تفاعلهم وبالأخص الدكتور المقالح؛ ولكن موجات تصفيق لا بأس بها كانت تُسمع بين الحين والآخر، وبانتهائي من قراءة القصيدة نزلتُ مسرعاً؛ لأتشرف بمصافحة الدكتور، فلم أتمكن من ذلك نظراً لاحتشاد الحضور حوله لذات الغاية؛ وسرعان ما امتطى سيارته وغادر المكان.
وبقدر سعادتي بالمشاركة واستماعه لي، كانت حسرتي أكبر لعدم مصافحته وسماع انطباعه عن القصيدة، وقد ذَهَبت بي الأحلام حد انتظار كلمة شكر منه على الإهداء الذي افتتحتُ به القصيدة؛ فعُدت أجرّ أذيال الخيبة وليس في حسباني أنه سيتذكرني إن سَنَحتْ فرصةٌ أخرى لي بالوقوف بين يديه، لكنَّ الأب الكبير لا يمكن أن ينسى أبناء الكلمة، وهو الذي نذر جزءًا كبيراً من وقته لتشجيعهم ورعايتهم.
مر يومٌ.. يومان.. ثلاثة..، وفي ظهيرة اليوم الثالث أشرق صوتُ البشير بما لم يخطر في البال، حين رن هاتفي وكان المتصل أحد الشعراء المعروفين، أخبرني أن الدكتور عبدالعزيز المقالح سأله إن كان يعرفني أن يتصل بي، لأزوره في مكتبه بمركز الدارسات والبحوث، وفور سماعي للخبر لم أدرِ ما أقول! فقد ظننته مازحاً، وشككت بصحة كلامه، ما جعله يقسم لي إنها الحقيقة.
ولهول المفاجأة بقيت أقلّب حيرتي رغم وضوح الرؤية ومعرفتي لما يجب أن يحدث وإلى أين أتجه، ساعتها كنت أعمل إلى جوار والدي في “بسطة” على أحد أرصفة العاصمة، وقبل أن أغادر كان لا بدّ مِن طلب الإذن من والدي، وحين تمالكت نفسي أخبرت أبي بما تضمنته المكالمة الواصلة للتو، فلم يكن منه إلَّا أن سخر مني مُكذباً ما أدّعيه، ورغم أنه لم ينل نصيباً من التعليم إلا أن شخصية بحجم الدكتور المقالح كانت لا تخفى على أحد، فمن أنا حتى يطلب حضوري شخصٌ كبير بحجم المقالح!، واعتبَرَ أنَّ ما ادّعيتُه مجرد حيلةٍ لأتهرب من العمل، فأقسمت له واقتنع أخيراً وسمح لي بالمغادرة.
طوال الطريق؛ كنت أرسم خارطةً للّقاء، وكيف سأقابل الدكتور!، وهل سيصدقني حارس مكتبه إن قلت له إن الدكتور هو من طلب حضوري وهل سيسمح لي بالدخول؟ .. عشرات السيناريوهات دارت في تفكيري ولم يكن أحدها باعثاً على الاطمئنان، وأخيراً وصلتُ إلى المكان الذي سأجد فيه الدكتور مُستقبلاً ضيوفه وطلابه ومحبيه، يقف حوله الحراس، ومع اقترابي من باب مكتبه وجدته مفتوحاً للجميع، وبسيطاً كأنه مكتب خدمات عامة، لا مكتباً لأهم أدباء اليمن، وأكبر رموزه الثقافية والأكاديمية؛
الأمر الذي يقتضي وجود الحراسة وسكرتارية لتنظيم المواعيد والمقابلات، كما هو معروف في مكاتب من هم أدنى منه منصباً، ولكني لم أشاهد شيئاً من ذلك.
انهارت السيناريوهات جميعها بنظرةٍ واحدةٍ، وتسمرتُ في مكاني أمام بابه الذي يخرج منه الجميع وقد امتلأت أرواحهم دهشة ومحبة، الباب الذي سأدخل من خلاله إلى عالم المقالح الكبير، وسأنال بعدها شرف صحبته لأصبح أحدَ المقرّبين منه وأحد تلاميذه المُنتَجبين وهو كرم لم أكن أحلم به أو أتصوره يوماً،
وقفت أمام المكتب أُقدّم خطوة إلى الأمام وأعود مثلها إلى الوراء، لم تمضِ سوى لحظات بين ترددي وتنبهه لوجودي، وقيامه من على “كنبة” يجلس عليها قبالة الباب طوال فترة الدوام _إذ لم أشاهده يجلس خلف المكتب، سواء في ذلك اليوم أو سواه_ وقد ظننتُ أنه قام لقضاء عملٍ ما، غير أن ابتسامة ارتسمت على وجهه كانت بوصلتها تشير إليَّ مباشرة وكأنه أحس بترددي، وسرعان ما امتدت يده لمصافحتي مرحِّباً بي، ممسكاً بيدي نحو المكتب المكتض بالأوراق والكتب، ثم دعاني للجلوس على “كنبة” مجاورة، مكرراً الترحيب مُقدماً الضيافة ومبدياً إعجابه بموهبتي “رغم صغر سني” وطالبًا نسخة من قصيدة الفعالية ونماذج من قصائدي، فعل ذلك بصوتٍ أبويٍّ يقطر محبةً واحتفاءً.
ثم شمَّرَ عن كُم يده اليسرى _ربما لمشاهدة الوقت_ فظهرت ساعة كانت تختفي تحت كُم بدلته الأنيقة والبسيطة، فذهب ظني إلى أنها إشارة لانتهاء اللقاء، تهيأت للوقوف لكنه طلب مني الانتظار وخلع الساعة التي تشير عقاربها لاقتراب موعد صلاة الظهر، فاعتقدت أنه خلعها متهيئًا للوضوء، وإذا به يناولني الساعة قائلاً: هذه هدية بسيطة أرجو أن تقبلها. ثم أدخل يده في جيبه وأخرج ظرفاً يبدو أن بداخله مبلغاً، وناولني إياه، أخذته وأنا شبه متبلدٍ في مكاني، وفي حالة الصمت التي تلبّستني انطلق صوته الهادئ منادياً مدير مكتبه طالبًا منه اصطحابي إلى مخزن الكتب وإهدائي عدداً من إصدارات المركز ومؤلفات الدكتور .
ذهبنا إلى المخازن واخترت مجموعةً من الكتب وعدت إليه سعيداً محملاً بها، وبعد جلوسي سألني عن عمري ودراستي وعمل والدي ومتى بدأتُ كتابة الشعر؟ وأنا أجيبه متلعثمًا، وهو يصغي بمحبة كمن يصغي إلى صديق يعرفه منذ سنوات، ما دفعني للشعور أن ما أعيشه الآن خيالٌ وليس حقيقة، لكنها كانت حقيقةً أضافت إليَّ الكثير من ملامح هذه الشخصية الفذة التي ملكت القلوب وشغلت العقول، وشاركت في كتابة ملامح هذه البلاد، وساهمت بالدفع بها من عصور التخلف والأمية والاستبداد والهامش إلى فضاء المعرفة والحضور الفاعل وحوّلتها إلى قبلةٍ يقصدها أقطابُ المعرفة والثقافة والمهجّرين من بلدانهم للزيارة أو للحصول على فرصة عمل في جامعتها عبر الدكتور المقالح، سالكين جسور المودّة التي شيّدتها أواصر الكلمة والمكانة الكبيرة التي اختطها الرجل بإبداعه الذي ملأ الآفاق، وبإنسانيته وقد ذاع صيتها من المحيط إلى الخليج.
وبانتهاء اللقاء، سألني، وهو يتهيأ للمغادرة، عن وجهتي، فكانت الصدفة أنّ سكني يقع في حيٍّ مجاورٍ لسكنه، فقال: إذن اصعد معنا، صعدت إلى جواره وعلى سيارته، متمنياً حينها أن أصادف كل مَن أعرفهم في طريقنا ليشاهدوني بجواره، فأيُّ زَهوٍ أعظم من ذلك لِفتىً جاء مِن رصيف الحياة وهامش الكلمة، فحمله القدر دفعة واحدة لبلوغ القمة بكلمة ولفتة إنسانية حانية تشكلت بعدها ملامح حياته وتغيرت مساراتها إلى الأبد.
وفي الطريق حاولت أن أمطره بما ألقت به غيوم العرفان في فمي من شكر، فكان ينقل الحديث إلى أماكنَ أخرى كعادته، متحاشياً الثناء والمديح، باعتبار أن ما يقوم به واجب لا يستوجب الشكر حسب قوله، تلك هي شخصية المقالح الأب والإنسان الذي فتح قلبه وذراعيه لي ولكل أبناء الوطن من المبدعين الذين عرفهم وعرفوه، وقبل أن يودعني دعاني لحضور المقيل “الصالون الثقافي” الذي يُعقد في منزله كل أحد وثلاثاء، وفي المقيل حكايات تعلّق بها القلب ولم يفوِّت ميعادها يوماً إلّا في أشد الظروف عنادا.
في مقيل المقالح وصالونه الثقافي الأبرز وطنياً من الحكايات والمواقف ما يحتاج إلى كتابٍ منفرد، ومع ذلك فسأحرص على الاختزال قدر الإمكان، هذا المقيل الذي ظل لعقودٍ من الزمن ساحةً عامرةً بالثقافة والأدب، محتضناً في جنباته أعلامه الذين توافدوا من كل قطر عربي، ولك أن تتخيل حال شاب مثلي كان أقصى طموحه أن يقرأ قصائده في طابور الصباح، وقد صار الآن يجلس في زاويةٍ جلس عليها ذات يوم قادةٌ وزعماء كـ “ياسر عرفات” و”بو تفليقة” و”عبدالله السَّلَّال”، وشعراء ونقاد كـ “أدونيس” و”كمال أبو ديب” و”محمود درويش” و”عبدالملك مرتاض” و”علي جعفر العلاق” و”محمد عبدالمطلب” و”حاتم الصكر” و”إبراهيم الجرادي” وعددٌ لا حصر له من الأسماء التي ملأت الحياة إبداعاً.
يبدأ المقيل في الثالثة عصراً بعد تناول الدكتور طعام الغداء وعودته من العمل، وقد تهيأ لاستقبال ضيوفه صغاراً أو كباراً، والقيام بواجب الضيافة بنفسه، رافضاً أن يشاركه أحد في ذلك، ثم يوزع ما في جعبته من أغصان القات عليهم ويتناول غصنين منها ماضغاً إياهما لوقت قصير حتى ينتظم المجلس ويأخذ كُلٌَ مكانه، بعدها تتنوع فقرات المقيل وتكون البداية بقراءة أحدث المقالات والدراسات المنشورة في كبرى الصحف العربية، والأعمدة الثابتة لكبار الكُتاب التي يتابعها الدكتور بشكل يومي، وهي عادةٌ لم ينقطع عنها إلّا في الفترة الأخيرة لأسباب صحية، من خلال تلك القراءات، عرفتُ أنا وزملائي من الشباب أهم الأدباء والأسماء وتعرفنا على أهم النظريات النقدية، وانفتح وعيُنا على مذاهبها والخصائص الفنية للحداثة، وتعرف من وصل منا إلى المقيل مبكراً على بعض من أهم رموزها وسمع منهم مباشرة واستمعوا إليه؛ فقد ظل بعضهم إلى ما قبل اندلاع حرائق الحرب مقيماً في اليمن، وبعد قراءة المواضيع المختارة بعناية لقيمتها أو لتناولها مواضيع الساعة، يدور النقاش حولها ويدلي كل من حضر برأيه حتى ينتهي الجميع، ليُقرأ موضوعٌ آخر، وبين القراءات والنقاشات يختار الدكتور أغنية، ليتشارك سماعها مع رواد المقيل -ومن خلال اختياراته للأغاني- تَعرَّفنا على أجمل وأندر أغاني الزمن الجميل، وسمعنا معه أغانيَ لم نسمعها من قبل، وعرفنا التواريخ التي غُنِّيَت فيها وشاركناه ذكرياتها، وحدثنا عن حضوره لحفلات منها وهي تُغنَّى لأول مرة، ورغم أن المقالح “وَهَّابيٌّ مُتشدِّد” في عشقه للموسيقار محمد عبدالوهاب، إلَّا أنه منفتح أيضاً على الكثير من المذاهب والمدارس الفنية، لكنه يختار ما يَسمع بعناية فائقة، ولديه أغنيةٌ أو أكثر مفضلة لكل فنان، لا يَملُّ سماعَها، فتعلمنا منه كيف نتذوق ونختار ما نسمع، يستمر المقيل إلى وقت المغرب، وفي الساعة الأخيرة منه تبدأ القراءات الشعرية، لأحدث نصوص الشعراء الحاضرين ويتم التعقيب عليها وإبداء الملاحظات إن وجدت، والتشجيع لصغار السن وحديثِي التجارب والاحتفاء بهم والتوجيه الأبوي الحنون لهم، فالمقيل هو عكاظهم الوحيد، وأحد أهم معامل إنضاج تجاربهم التي تُشعل فتيل منافسةٍ خلّاقة مَبعَثُها نَيلُ ثناء الدكتور وإعجابه هو وضيوفه.
وكما كان المقيل مزاراً لكل الأعلام من ضيوف اليمن والمقالح، فقد كان وجهةً لا بد منها لكل شاعر ومهتم بالأدب من أبناء الوطن، سكانَ العاصمة أو الوافدين من خارجها، فلا تكتمل زيارتهم لصنعاء ما لم يحضروا مقيل المقالح، حدّ حرصهم على التوفيق بين موعد زيارتهم للعاصمة لقضاء بعض حوائجهم وموعد انعقاد المقيل، ليتمكنوا من حضور المقيل ولقاء الدكتور والسلام عليه، وكما أن مكتب المقالح يظل مفتوحاً دائماً، كذلك ظل باب منزله في الأيام المخصصة للمقيل أمام كل محبيه من عامة الناس ومختلف الفئات، مفتوحاً ومستقبلاً لهم قائماً على خدمتهم وقضاء حوائجهم ما أمكنه ذلك.
لقد حاولتُ التركيز على جزئيات بسيطة في حياة مبدع عظيم وزع حياته في جهات العطاء الإنساني، ما بين الكتابة والإدارة والنضال، والتأسيس المعرفي وتقديم المشهد الثقافي اليمني للخارج، والكتابة النقدية والفكرية والصحفية والشعرية، والجلوس مع الناس والأصدقاء طوال أيام الأسبوع في العمل أو في مقيل منزله أو في مقايل الأصدقاء؛ مِضيافاً بشوشاً متواضعاً حد البذخ، حليماً حكيماً صبوراً مستمعاً للشباب محتفياً بهم، متجنباً الصراعات والعداوات منتهجاً المحبة طبعاً لا تَكلُّف فيه، متسامحاً مع من خاصموه، مدافعاً عنهم حين يقعون في حبائل أعمالهم، صانعاً للتغيير في كل القضايا التي تناولها والمناصب التي تقلّدها، فكان الصوت الأعلى للناس الذي يخشى موقِفَهُ الجميع، دون مصادمة وافتعال، فهو يُلمِّح أكثر مما يصرّح مما يساعد على وصول صوته الهادئ إلى غايته بكل قوّةٍ ويُسر.
وكما قلتُ في البداية إن الكتابة عن شخصية بحجم المقالح ليست أمراً هيّناً، أعود وأكررها الآن، فما كتبته هنا لم يكن إلا قطرةَ ضوء من محيط أنواره وحضوره الفاعل في حياتنا، فهو مَن أنفق سنوات عمره للنهوض بوعي أبناء بلده والرقيّ بهم وتخليد رموزهم، وفتح أعينهم على حدائق المستقبل المعبّدة بالعلم والحرية، كيف لا وهو الذي لم يُهدر ساعة في غير مكانها الصحيح، فكل دقيقة في يومه لها ثمنها، فمن ذا غيره ينام ويصحو ويكتب ويلتقي بالناس في مواعيد ثابتة لم تتغير طوال حياته، ملقياً خلف ظهره كل مغريات الحياة التي أتت إليه ولم يَسعَ إليها، عنيداً لا يقبل المساومة في قيمهِ ومبادئه مهما كان الثمن، رافضاً لملذّات الحياة، متشبثاً بالأرض والناس، معبّراً عنهم بالكلمة والإبداع والتفاني الإنساني الفريد، ناذراً حياته لذلك بلا كللٍ أو ملل أو تذمّر، وموزعًا غيوم روحِه ثمراً في حقول الآخرين، ذلك هو المقالح الذي اغترفتُ بيديّ الصغيرتين مِن بحره الوافر المديد، أما المقالح الشاعر الكبير الذي يعرفه الجميع، فسأعترف أن خيالي أقصر من بلوغ سمائه.
* مجلة الجسرة الثقافية، العدد 57، شتاء 2021
Share

التصنيفات: ثقافــة

Share