Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

العربيّة في عيدها: كيف نواجه الخطر؟

نزار قانصوه* 

أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) بتاريخ 18 كانون الأول 1973 قراراً بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، ليُخلّد هذا اليوم ﴿بلسان عربيّ مبين﴾ رافعاً راية «اليوم العالمي للغة العربيّة».

يرجّح العلماء أنّ اللّغة العربيّة نشأت نتيجة إيحاءات وإشارات إلى أن تحوّلت إلى مقاطع صوتيّة وما يُعرف بالمحاكاة، تلك المحاكاة التي قارعت حوافر الجاهليّة في معلّقاتها لتحطّ رحالها في صدر الإسلام بوعد من الرحمن في كتابه القرآن.

لطالما حوت العربيّة القيم والخصال التي ساهمت في نشر المبادئ والأصول والمعارف العلميّة، فخصال العربيّ في الجاهليّة كالكرم والشجاعة وإغاثة الملهوف وغيرها كانت تسير معه سير الدم في الجسد لا تنفصل عنه إلّا بالموت، يتحلّى ويفتخر بها كلّ عربيّ ويتربّى على أساسها.

لعبت تلك الخصال والقيم على الرغم من قبح بعضها في شبه الجزيرة العربيّة دوراً في إنضاج الأدب والحضارة من جهة، وفي نشر الأسواق من أجل غايات اقتصاديّة من جهة أخرى. خذ مثلاً سوق عكاظ وهو أحد الأسواق الكبرى آنذاك على مقربة من مكة المكرمة، يجتمع حوله العرب كلّ شهر في السنة تحت نداء المفاخرة، فكان منبراً إعلاميّاً ومضماراً للفروسيّة وصوتاً شعريّاً ومحطّ رحال العديد من التجّار القادمين من بلاد فارس والشام واليمن، وهذا أدى إلى النهوض بالحياة الاجتماعيّة وتحسّن الوضع الاقتصادي، ما دفع إلى حلحلة الكثير من المشكلات التي نشأت بين القبائل إضافة إلى تطوّر مستوى اللغة العربية في مستوياتها كافّة.

ويأتي بعد ذلك الإسلام فيعطي العربيّة وثيقة شرف ممهورة بوحي النبيّ (ص)، لكي يؤكّد على خصال وقيم العرب الحسَنة وينفي ما يشوب الأخلاق الإنسانيّة من شائبة، ليحتلّ العرب المركز الأول حضاريّاً عبر الفنون والهندسة والعلوم والجبر والطب والفلسفة والتأريخ والرياضيات مع عباقرة كابن الهيثم وابن سينا والرازيّ وأبي الأسود الدؤليّ وغيرهم من الكبار الذين سطّروا حروف (إقرأ) على مدارك الحضارة العربيّة، ولا ننسى عصر النهضة الذي ساهم في نشر العلوم وتلاقح الثقافات من خلال الترجمة والانفتاح العلميّ.

ولكن كيف تغيّرت القيم والخصال العربيّة في عصرنا الحديث؟ وهل تراجع بذلك مستوى اللّغة؟

نلاحظ في عصرنا الراهن الكثير من التحوّلات في القيم والأفكار والأيديولوجيا في العالم العربي، وبهذا المعنى فقدَ العرب العديد من خصالهم وقيمهم الأصيلة التي أدت إلى نقلة في المجال الفكريّ، غيّرت مسارهم وحرفَت بوصلتهم في ظلّ عصر العولمة واجتياح المعلوماتيّة التي نقلت مجتمعاتنا من قيم محافظة إلى قيم رقميّة جامدة.

أزمة القيم اليوم هي أزمة وجود بكلّ ما للكلمة من معنى، وما سبّبته من شرخ لدى الأجيال الذين فقدوا الخصال العربيّة من ناحية ولم يتقبّلوا الأنسنة الغربيّة بجانبها الإيجابي من ناحية أخرى، فتلاشت صلة الارتباط بين الجيل الماضي الذي تغذّى من مسارات ثقافيّة وأدبيّة وعلميّة وبين الجيل الحديث، لانحرافه نحو مسارات لا تمتّ إلى القيم والأصالة العربيّة بصلة.

إنّ المتأمّل في واقع العالم العربي العاصف بالحروب من كلّ حدب وصوب وانتشار النظام العولمي والثقافة الكونيّة يرى أن ذلك سبّب تغييراً في بنية الواقع الاجتماعي العربي، حيث تبدّلت ميول الشباب واهتماماتهم، نتيجة الضغط الاقتصادي والنفسي الذي أضحى همّ كلّ شاب عربيّ يبحث عن قوت يومه بين ركام الحروب وحجارة الصحراء، وفي المقلب الآخر نجد سيطرة اللغات والقيم الهجينة على حساب اللغة العربيّة، لأنّ العرب أنفسهم قدّموا استقالتهم من لغتهم الأمّ نوعاً ما وبحثوا عن لغات احتلّت العصر الرقمي والبنية التكنولوجيّة الحديثة وهذا سبّب ضعفاً في النسيج العربيّ على صعيد تعالق القيم مع اللغة، لأنّ العلاقة بين اللغة والقيم هي علاقة متلازمة، فإذا تراجعت اللغة تتراجع القيم معها، وإذا تطوّرت اللغة تحذو حذوها قيمها وخصالها.

ولا ننسى أيضاً الممارسات الخاطئة من المواطنين أنفسهم، الذين يتحدثون عن تلك القيم كالعدالة وحقوق الإنسان وإغاثة الملهوف ولكن لايطبقونها بشكلها السليم، لأنّ جلّ اهتماماتهم انصبّ نحو الواقع اليوميّ المأزوم النابع من خلافات سياسيّة وطائفيّة.

والجملة الحاسمة هنا، إنّ تعزيز العلاقة بين قيم العربيّ ولغته لا ينضج إلّا بالرجوع إلى لغة الضاد وخصالها الأصيلة، وتحاور وتعاون الدول العربيّة في شتّى الميادين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة، وهذا ما يخفّف من وطأة الأزمات المفتعلة بينها، علّنا نخرج من هذا الواقع ونعيد إلى العربية ضادها.

 

  • باحث وأكاديمي لبناني

 

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share