Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

“فاكهة للغربان” لأحمد زين: معضلة الواقع والحلم .. جدارة السرد

رامي أبو شهاب*

في روايته الصّادرة حديثاً ينزاح الروائي اليمني أحمد زين إلى نمط مغاير عن الشيوع السردي، اتكاء على تمايز نصه من ناحية الموضوع، والمقاربة، حيث تسعى رواية «فاكهة للغربان» الصادرة عن منشورات المتوسط لعام 2020 في إيطاليا لأن تختبر فترة تاريخية تتصل بحقبة من تاريخ اليمن الجنوبي، ولا سيما في مرحلة بينية تتصل بزوال الاستعمار، وتشكل القوى الوطنية ذات الطابع اليساري، فضلاً عن تموضع المدينة بوصفها مركزاً يستقطب الثوار، والاتجاهات اليسارية، إذ تحمل هذه المدينة عبء حلم يبدو أكبر منها، ولعل هذا ما تعضّده عتبة نصية يستهل بها الكاتب روايته حيث جاء: «عدن، مدينة ارتكبت أحلاماً، تفوق طاقاتها التحمل» وهي عبارة للكاتب منصور هايل من كتابه «هذيان الحطب». ومن هنا نقرأ صورة مدينة عدن في سياق سردي، يبدو مؤثثاً بقدر غير يسير من تقنيات السرد، التي تتسم بتكوينها المتجانس، حيث لا نجد اختلالاً على مستوى البناء الوحدات السردية، أو اضطراباً في الأسلوب السردي، فأحمد زين يغاير فيض الكتابة السردية التي تتلمس صيغتها ضمن موجة الكتابة السردية التي تجتاح العالم العربي، كونه ينتمي إلى تجربة سردية ناضجة، فالسرد لديه يبقى في حالة متقدمة من السلاسة، بدون أي عوائق أو نتوءات تقنية تشوه سطح العمل، ومرد ذلك يعود إلى خبرة الروائي الذي أصدر عدداً من الروايات والمجاميع القصصية.

الفاعلية السردية

تعمد الرواية إلى إيقاع واحد بطيء، قوامه مركزية الحوار بين شخصيتي العمل الرئيسيتين، ونعني (صلاح ونورا) في بوح الأخيرة مع تقاطعات تتصل بتأملات صلاح أحد أعضاء الحزب، بالتّجاور مع شخصيات أخرى تنتمي إلى قطاعات عربية سياسة نشيطة، ومنها سناء ونضال الفلسطينيين، وعباس العراقي، وبقطاش الجزائري، وهكذا تمسي مدينة عدن حاضنة لهذه الحيوات التي تتعالق مع فضاء المدينة الثقافية وأحلامها وتطلعاتها، علاوة ما تحمله هذه الشخصيات من ذاكرة، وهكذا يتخذ الاسترجاع شكلاً من أشكال تعرية حيوات شخصياتها، في فضاء مدينة تبدو مغايرة عن أي مدينة عربية حينها، خاصة حدية نزعتها الثورية، وإيمانها بالمرجعية الأيديولوجية التي تدين بها.

تكمن حبكة الرواية، كما أسلفنا، في نموذج حواري أقرب إلى كلاسيكية بوح شهرزاد لشهريار، غير أنّ سطوة كلا الشخصيتين تبدو معدومة، فصلاح يرتهن لقوى سلطوية تعتمد التراتب الحزبي الذي يتآكل نتيجة الفساد، في حين أن نورا باتت أسيرة ماضيها، وعطبها الداخلي، وبناء عليه، فإن كلا الشخصيتين يمارسان تكوين خطاب مزدوج لتوجهين بينهما الكثير من التنافر، فنورا تمتح تجربتها من وقائع الماضي، وربما يطغى الخيال أحياناً، في حين أن صلاح ينهض بعملية التدوين التي تتصل بوضع مذكرات امرأة كانت جزءاً من ذاكرة تلك المرحلة، ومع ذلك فثمة نوع من التعاطف الخفي، ولاسيما من لدن صلاح تجاه نورا، المرأة التي تنتمي إلى قبيلة فقدت وهج قوتها، وامتيازاتها التي تحققت أثناء الاستعمار، وهنا نقرأ تحولاً في رسم الصيغ ما بعد الكولونيالية الناجمة بعد مرحلة الاستقلال، والتّحولات التي طالت البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وقوامها تضافر عاملي اليسار التحرري والمقاومة لجلاء الاستعمار، مع نزعة ناقمة قائمة لبعض النخب التي كانت تحفظ نفوذها أثناء الاستعمار، حيث اضطرت للتنازل أمام صعود القوى الوطنية الجديدة، التي لم تختلف في المنهج عن تلك القوى البائدة من حيث محاولة الاستفادة من فكرة الامتيازات، لكن تحت شعار آخر.

وهكذا فإننا إزاء صورتين لا تختلفان إلا بالتأويل والنموذج الشعاراتي، وهذا ما نراه مجسداً بشكل عميق في الحوار الذي دار بين صلاح ووالد نورا- قائد القبيلة السابق، الذي فقد مركزه بعد زوال الاستعمار- كما ثمة نوع من الحسد بين طبقتين اجتماعيتين تبادلتا مواقع القوة بأثر من حضور أو غياب الاستعمار، ومن هنا ينتقد والد نورا هذا التحول، حيث يقول: «ذكر أن الثورة عليهم كان سيسهل فهمها، لو أنها بقيت في حيز القضاء على الإقطاع والرجعية، بيد أنها تكشفت عن عبث طالما انتهى الرفاق أنفسهم إلى تصفية واحدهم الآخر». هكذا تمسي القوى الوطنية الناشئة أقرب إلى صيغة «فرانز فانون» فيستبدل بالشرطي الأسود الشرطي الأبيض، أو كما تعبر عنه الرواية في الحوار عينه حيث جاء «لن تكون هذه النهاية. القادم مأساوي بدرجة مريعة. لقد استبدلتم بالتاج البريطاني المطرقة والمنجل، من مستعمر جاء على رأس جيوشه إلى مستعمر آخر ذهبتم بأنفسكم إليه، وسلمتم البلاد والعباد له».

تعمد الرواية إلى إيقاع واحد بطيء، قوامه مركزية الحوار بين شخصيتي العمل الرئيسيتين، ونعني (صلاح ونورا) في بوح الأخيرة مع تقاطعات تتصل بتأملات صلاح أحد أعضاء الحزب، بالتّجاور مع شخصيات أخرى تنتمي إلى قطاعات عربية سياسة نشيطة، ومنها سناء ونضال الفلسطينيين، وعباس العراقي، وبقطاش الجزائري.

التمثلات ما بعد الكولونيالية

إن تمثلات الصيغ الاستعمارية، تبدو شديدة التمايز في النمط الذي يميز الكتابة المتورطة بالهم ما بعد الكولونيالي، فحضور الصيغة أو التمثيل الكولونيالي يبدو متجرداً في النص، فليس هنالك من مستعمر غربي ينطق في الرواية، غير أن آثاره وصدى صوته، حاضر في تكوين بنية المدينة، والأفكار التي ما زالت تستعاد على لسان الشخصيات، التي ارتبطت بها، فالمدينة تقع في مجال متنازع عليه على مستوى تعميم القلق والمآلات الفاشلة لواقع الدول العربية التي خرجت من الاستعمار لتتحول إلى دويلات ينتهكها التجريب والمغامرات غير المحسوبة، كما التكسب ضمن صيغة العنوان، ونعني الغربان التي تبدو على قدر كبير من التأويل، فثمة مؤشر رمزي حيث نرصد رائحة العفونة التي تنبعث من ساق نورا كناية عن هذه الإفساد، وبهذا فإن الصيغة لم تشهد تحولاً إلا في المظهر، كما نقرأ في حوار داخلي ينهض به صلاح: « قالوا لنا في السنوات الأولى من الاستقلال إن المستعمر عاد ليحكمنا، لكن بالتلفون، يعطي أوامره لجنرالات الجيش. في البداية كذّبت أنا هذا، لكن في ما بعد اعترفت لنفسي بأن الاستعمار لا يزال موجوداً، بيد أنه هذه المرة ليس أمامنا أو حولنا ولا يأتينا عبر أسلاك التلفون، إنه يسري مع الدم في الأوردة والشرايين ليس الاستعمار، إنما مسخه الذي صور لنا أننا هزمناه، وطردناه إلى الأبد، يراقب ما نفعل، ويهزأ بنا».

بدت الرواية تشكيلاً يشخّص جزءاً كبيراً من نتاجات ما بعد الاستعمار التي اتجهت لليسار بلا وعي تنويري أو فلسفي، أو علمي، ومن هنا فإن هذه الرواية تتقدم في محاولتها لا لتمثيل المرجعية الواقعية للتاريخ، وإنما في نقده ضمن صيغة سردية تحتفي بالمتخيل. إذ تتخذ شخصية نورا مساحة متقدمة في نقد اليسار الثوري، وتعالقها معه بناء على عامل شخصي، ونعني علاقتها مع «جياب» أحد القادة، أو إحدى القوى النافذة في الحزب، لكنه سرعان ما فقد مكانته واختفى، لتبقى نورا وحيدة في مواجهة القوى المتربصة بها، إذ يمارس حدث العطب الذي أصاب ساقيها نتيجة اعتداء من مجهولين – على علاقة بالحزب أو القيادة – دلالة رمزية، مع غياب جياب الغامض، أو ربما تصفيته، يبدو وجود نورا محصورا على التداعي والتذكر لأحداث ومسارات تتصل بجياب، ذلك الرجل الذي قدم لهذه المرأة امتلاء حقيقياً على مستوى الأفكار والروح والجسد، فنورا ابنة البدوي والمتحللة من قيم القبيلة والإقطاع، تتحول إلى راقصة تعبيرية، لكن حلمها يجهض بعد الاعتداء، وهكذا نرى الرقص يتجسد بوصفه صيغة سردية رمزية تحيل إلى عطب الحلم اليساري، وعرجه، لكنه يحيل إلى دلالة تشكل دول نهضت من عبارة الاستعمار بالكثير من الأحلام، لكنها استهلكت نفسها، وشوّهت الحلم، وأجهضته، والأهم أنها قتلت الأمل في داخل شعوبها، الذي يأتي في شبه غياب للقيم التي تتصل بالديمقراطية والحرية.

مآلات الحلم

ثمة نوع من الحسد بين الرفاق، وتنافس، ومحاولة تصفية، كما ثمة حسد بين الطبقات التي اتصلت بقوة الاستعمار، وبتبادل للأدوار، هكذا تبدو لنا الرواية في بنيتها المقنعة، غير أن هذا لا يعني سوى تشكيل أو تفصيل صغيرة ينهض على بيان العوار الأيديولوجي، حيث تبدو السلطة تجسيداً عميقاً وبنيوياً لدى الثورية واليسارية، التي تسعى لأن تقيم نوعاً من التراتبية في السلطة؛ ولهذا فإن سعي صلاح لأن يكتب مذكرات نورا يتحول في النهاية إلى هدف، كما باقي الشخصيات التي ترى أن بقاءها في مدينة عدن قد بات أمراً غير متحقق، فترحل تلك الحيوات مع السفينة لتغادر، ولاسيما بعد أن انفجر الفساد والنفاق الثوري، ومن صوره (الفيلا) التي يرتادها الثوار، والتي تحتوي على بقايا مشروبات، وأطعمة استهلكتها الوفود الأممية، ولعل (الفيلا) تحيل إلى مدينة عدن التي تبدو لنا في صيغة جدلية من حيث تكوين العمق الدلالي للرواية، التي تحتفي بعتبة رمزية شديدة الجدل والتحول، وربما تبدو أقرب إلى فعل تأويلي قابل لكل الاحتمالات لتراجع الفاكهة نتيجة ازدياد الغربان.

إن استلاب نورا في سياقين زمنيين، ورؤيتين لا يحيل إلا إلى قيمة أو معادل موضوعي لليمن بين مرحلتين، فنورا سليلة النمط الكلاسيكي والإقطاعي، لكن في تخليها عن مرجعيتها تغرق في الفراغ اليساري، لتتحول إلى أيقونة التشظي اليمني، فتتحول من القيمة الموجبة أو الإيجابية التي تعني اليمن بتكوينه المتعالي إلى كتلة من الأمل والحسرة التي تحيل إلى شلل، وانحسار الحلم: «يحتاج إلى من يؤكد له أنه غير محق، في موقفه من هذه العلاقة التي تربط بين نورا، نتاج تربية الإنكليز وسليلة سلاطين، وجياب الماركسي الذي يأخذ اسمه الحركي من المناضل الفيتنامي فون نغوين جياب». في سياق هذا العمل ثمة إرهاصات حقيقية للقارئ على مستوى التلقي، ولاسيما استدعاء المرجعية التاريخية لليمن، وفضاءاته الثقافية، خاصة لقارئ غير مطّلع على الجغرافية التي تلعب دوراً في بناء فضاء رمادي، وأحيانا شديد الكآبة للمدينة التي يتنازعها منظوران: الأول استعماري والثاني ثوري، كما تتنازعها تنظيرات يسارية تقع بين النموذج السوفييتي من جهة، والنموذج العلمي الذي يعتمد التجربة الصينية من جهة أخرى، هكذا نقرأ صراع الأفكار والأيديولوجية في متن سردي يحتفي بلغة شديدة الخصوبة، وبوجه خاص تكوين جمل سردية ذات نمط قصير، تحتفي أحياناً برغبة في عكس أجواء الثقل، واللزوجة التي تتمكن من الشخصيات بما في ذلك الهواء، والمدينة، والبار، والشقة، وغير ذلك، هي قدرة على خلق النموذج الشعري، عبر اللغة في حوارات معدّة بعناية، حيث اتخذت مساحة لا بأس فيها في المتن السردي، فضلاً عن تتبع صيغ تحرك الشخصية في الفضاء، وحشد قدر كبير من مفردات القنوط، والكآبة التي تظلل فضاء المكان، لكن ضمن رؤية مشهدية، تعنى بمبدأ تحرك الذوات في عدة زوايا على مستوى الحيز المكاني، وتقاطعها مع الأشياء، والإضاءة والكؤوس، والستائر، والحركات والإيماءات، وغير ذلك، لكنها شديدة التقنين، وعالية الجودة، ما يجعل من الرواية باعثة على خلق رؤية متفردة، أو ربما لعلها عميقة على مستوى المنظور، غير أن أحمد زين يبدو فاعلاً لغوياً، حيث يعلق القارئ في جملته الشديدة التفرد فنستعيد عافية الرواية، وماءها.

٭ كاتب أردني فلسطيني

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share