Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

التعددية الثقافية والشعبوية

عزالدين عناية

ثمّة ظاهرتان تطلّان بإصرار في عصرنا، إحداهما محمودة والأخرى ممقوتة، ألا وهما التعدّدية والشعبوية.

وتبدو الأولى قادمة من عمق التنوّع الثقافي ودلالاته ورموزه، والثانية من رواسب السياسة ومخلّفاتها وشظاياها. وقد شاءت الأقدار أن تظهرَ هذه وتلك في زمن جامع، أو لعلّ قانون التدافع الخفيّ بين المتضادات، يفعل فعله بأن يصارع الشيء نقيضه. فقد أمست التعدديّة، ولاسيما الثقافية منها، سمةً غالبةً على كثير من المجتمعات، مشرقاً ومغرباً، بفعل العولمة، وهي تزداد رسوخاً وتجذّراً.

صحيح أن مستويات التعددية وأشكالها تختلف من مجتمع إلى آخر، ولكن ما يوحّد بينها أنّ واقعاً جديداً ناشئاً يحتفي بالتنوّع والمغايَرة يزداد حضوراً وفاعلية. وبالمثل، فما يلفت النظر أيضاً توهّج الشعبوية الحانق، وركوب الأحداث والأزمات لجرّ حشود صوب مرادها وما ترنو لبلوغه.

وبشأن الظاهرة الأولى، لم تعُد التعددية الثقافية سمةَ المجتمعات الغربية دون غيرها، وقد كان إغراء الرفاه عاملاً حاسماً في جذبِ جحافل من المهاجرين القادمين من شتى أصقاع الأرض، بِما عزّز ذلك التنوّع، بل باتت التعددية سِمة المجتمعات الشرقية أيضاً. فمجتمعات مثل مجتمعات الخليج العربي غدت متنوعة بدرجة لافتة، وهي تعيش التعدد الدينيّ والحضاريّ واللغويّ في أعلى مستوياته.

الطابع الكوسموبوليتي

ومن هذا الباب لم يعد الغرب وحده مدرسة في إعطاء الدروس حول فلسفة التعددية وفحواها، بل باتت دول نائية عن المركز الحضاري المزعوم عنواناً لهذا التحول الذي يسري في عالمنا، وتعيش بالمثل اختبار هذه التجربة بمزاياها ومساوئها. وبشكل عامّ، تبقى ميزة التعددية التي يعيشها العالم الراهن في الطابع الكوسموبوليتي المدني الجديد الذي يترسّخ في المجتمعات.

مراعاة المغايَرة

ولكن قبل الغوص في فهمِ التحولات التي يشهدها عالمنا، حريّ تبيُّـن ما الذي تعنيه التعددية؟ لاشك أنّ التعدديةَ من حيث المبدأ، هي نقيض واحدية الرؤية والرأي، وإقرار بحقّ الجميع في مراعاة المخزون الحضاريّ الخاص، وإفساح المجال للكيانات الصغرى والمهمَّشة للتعبير عما يختلج في دواخلها. فالتعددية الثقافية تناهض الاحتكار للفضاء العامّ، وترمي إلى ترسيخ الشراكة والاعتراف بين المكونات الاجتماعية. فمن شروطِ التعددية الثقافية مراعاة المغايَرة بمختلف تلوناتها، اللغوية والقِيمية والروحية، وهو ما لا يتنافى مع قِيام هوية مجتمعيّة جامعة، يُفتَرَض أن تكونَ ليّنة لا صلبة، ومنفتِحة لا منغلِقة، تجد فيها الفئات «الدخيلة» أريحيتها.

مراعاة المِخْيال الرمزي

حريّ في هذا السياق توضيح أنّ الغرب الذي طالما تصوَّره العالم أنموذجاً ومثالاً لهذه التعددية ليس نسقاً موحَّداً متماثِلاً، بل هو جمعٌ في صيغة المفرد في واقع الأمر. ففيه مجتمعات تعيش التعددية الثقافية في أبهى حللها، وفيه مجتمعات لا زالت تحبو في مستويات متدنّية يطغى فيها الاحتكار الثقافي والتوجيه القسري للسياسات الثقافية، وأخرى بين هذه وتلك. والواقع أنّ عيشَ التعددية الثقافية في أن يحظى الدخيل والوافد، بمراعاة مِخْياله الرمزي ورأسماله الحضاري، دون أن يجد حرجاً من الأغلبية. فحين تتمثَّلُ الأكثريةُ الأقليةَ إثراءً وحافزاً لروح التجدد في الأصل، يغدو التعدّد نعمة. والمجتمعات التي تعيش أوضاع التعددية الحقة هي المجتمعات التي تختار ذلك التمشي عن وعيٍ وقصدٍ، إيماناً بأنّ العولمة الداهمة تقتضي ذلك، وأمّا المجتمعات التي تجد نفسها أمام واقع مفروض، تبحث عن التلاؤم معه بأقلّ التكاليف وأيسر الطرق، فغالباً ما ترهقها التعددية.

الشعبوية نقيضاً للتعددية

بَيْد أنّه في الوقت ذاته الذي تزداد فيه التعددية ترسّخاً في نسيج المجتمعات، تُطلّ علينا ظاهرة الشعبوية، وهي تلوّح بشعارات شوفينية متماثلة فحواها: «شعبستان للشعبويّين»، في إيحاء إلى أنّ الغرباء لا مكان لهم، ومن ثَمّ لا مستقبل أيضاً، مع أنّ ذلك يتناقض مع مسار التاريخ المعوْلَم الذي يطبع عصرنا، ومن هذا الباب تلوح الشعبوية نقيضاً للتعددية.

«المَرُوكّيني» منافساً

لقد عشتُ فترة حاسمة من تاريخ إيطاليا المعاصر، على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، وهي الفترة التي شهدت تقريباً ميلاد التعددية الثقافية وانبعاث الشعبوية من مرقدها في آنٍ واحد. ولم يكن القادمون من جنوب المتوسط، أو كما أَطلق عليهم اللسان الشعبي الإيطالي «المَرُوكّيني»، أي المغاربة، من أهالي المغرب الأقصى وتونس خصوصاً، ثم توسّعت التسمية لتشمل كل أسمر البشرة، سوى أغراب وأجانب. حلّوا بالديار الإيطالية بعد أن شهد البلد تحوُّلاً اقتصادياً متسارعاً في عقديْ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فلا بأس أن يزيدوا عجلة الرأسمالية دوراناً في المزارع والمصانع. وفي البدء لم يكن الإيطالي يرى في «المَرُوكّيني» منافساً، بل غريباً وافداً، نفعه أكثر من ضرّه، حتى استفاقت الشعبوية (الدينيّة والفاشيّة واليَمينيّة) من مرقدها، وصارت تفتّش في غور هوية هذا القادم وتُحمّله ما لا يحتمل، من أوزار الصراع الحضاريّ والدينيّ وما شابه ذلك. وأمسى السّمرُ أو الخضرُ عناوين للزحف القادم من جنوب العالم على نقاوة الشمال، الأبيض عرقاً والأرقى حضارة والأفضل ديناً! وهكذا، تمثّلت الشعبوية العرقَ والثقافةَ والدينَ مكوَّنات مفارقة، رغم أنّ الشعبوية لا قِيَم ولا دين لها، وإنما هي غوغائية تتوسّل كلّ السبل لقيادة الجماهير وجرّها إلى مبتغاها.

التجاور والتحاور

لقد أثبتت جائحة «كورونا» التي نعيش أوزارها المتنوعة أنّ العالم قد بات معوْلَماً بالفعل، في السرّاء والضرّاء، وأنّ التعددية الثقافية والدينية والحضارية هي قدره المحتوم. وفي مؤلَّفٍ حديث الصدور بعنوان: «هياكل الحداثة المتعدّدة.. الأديان في زمن التعدديّة»، رصد عالم الاجتماع الأميركي بيتر لودفيغ بيرجر توالُدَ الظواهر الدينية والحضارية وتطوّرها في مناطق عدّة من العالم بشكل متوازٍ. حيث يشهد العالم، في أميركا وآسيا وأوروبا وأفريقيا، انزياحاً نحو التعدد عماده التجاور والتساكن والتحاور. ومن العبث أن تخوضَ المجتمعات في زمن العولمة سياسات عمادها الحصْر والصهْر للكيانات المغايرة، وفق مخطَّط مصوغ سلفاً، تكون فيه الهوية «الدخيلة» مجبَرةً على ولوج إطار ضابط وناظم، ليكون ذلك الصهر مؤسَّساً على فلسفة اجتماعية متعالية.

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share