Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

الحَمَل

بسام شمس الدين

شارع برج الحمل في معبد الكرنك في الأقصر/ مصر

كنت طفلًا فضوليًا جدًا، أسأل عن كل شيء، وأتأمل الأشياء وأظنها في متناول يدي، لكن الكبار كانوا يضيقون من أسئلتي، وينظرون إليَّ في انزعاج. كانت أمي تحكي لي باغتمام أن نجم جدتي هو الحمل، وأن أصحاب هذا البرج سيأتي لهم حيوان يسمى الحمل عقب موتهم، وينبش قبورهم، ويحملهم على ظهره إلى وكره في الجبل، ويأكلهم هناك. وهذا الكائن الخرافي له أربع قوائم على ظهره تشبه قوائم النعوش، ويقولون إنه يتكلم، ولا يأخذ سوى أصحاب برج الحمل.. كنت أحب جدتي، وقد بكيت حين عرفت أن برجها الحمل، وذهبت إليها لفرط سذاجتي، وقلت لها: لا تموتي يا جدتي، حتى لا يأكلك الحمل.. صرخت في وجهي: “ليأكل أمك، لا تحدثني عنه”. بدت خائفة جدًا، ولا تريد أن تسمع أحدًا يخبرها عن الحمل.. وفي يوم، ماتت عجوز في القرية، ودفنت في مقبرة المسجد القريبة من دارنا المرتفعة، وسمعت أبناءها يبكون بشدة، وتعجبت، وسألت أمي عن سبب بكائهم، لأن الرجال لا يبكون كما كنت أظن، فهمست لي أن “نجم” أمهم هو الحمل، وهم يخشون أن يأخذها ليأكلها في الجبل.. فقلت ببراءة: هل ستتألم؟ فأجابت قائلة بغضب: إنها ميتة، والميت لا يتألم، لكن جثتها يجب أن تكون في القبر، وليس في بطن حيوان الجبل، الذي سيحولها إلى فضلات.. رأيت أبناء العجوز الميتة يحيطون قبرها بكوم من فروع شجر السدر المليء بالشوك، ولكنهم يظنون أن ذلك ليس كافيًا لمنع الحيوان من أخذ أمهم بعيدًا، لأن الحمل يستطيع أن يشفطها من تربتها بأنفاسه القوية، لذا وضعوا أكوامًا من الحجارة والطوب تحت الفروع الشوكية.

وفي المساء، أخذتني أمي إلى السطح لنتفرج على المقبرة. كان هنالك فانوس مضيء قرب القبر، وطيف شخص يتحرك في الجوار. أشرت إليه صارخًا بخوف: انظري، الحمل يتحرك هناك.. سدت أمي فمي وهي تقول محذرة: “أششش، لا تصرخ، ذلك هو أحد أبناء العجوز، وليس الحمل”.

عرفت أن الناس لا يكتفون بالشوك والحجارة، بل يحرسون القبر.. ويوم ماتت جدتي، كنت يافعًا، وضج أفراد عائلتنا بالبكاء، لا سيما أبي، الذي بدا مثل طفل تائه، وبكيت معهم، واكتشفت أن بكاءنا ليس سببه الحزن على فراقها، فقد كانت مقعدة مريضة طاعنة السن، كثيرة الصراخ والشكوى، حتى صار جميع أقاربي يتمنون موتها بدافع من الغضب والشفقة، ولكنهم يخشون أن يأخذها الحيوان، وهذا هو سبب حزنهم وعويلهم. كنت على عكسهم، مراهقًا لا مباليًا، ولا أكترث بشيء. ولكن أبي، كان مهتمًا للغاية، وخائفًا على جثة أمه، وأجبرني أن أذهب معه إلى الوادي، لأقطع فروع أشجار السدر الشوكي، لنضعها فوق القبر، وحصل لي عناء كبير، جرحت يدي بالمنجل، ودخل الشوك إلى باطن قدمي، وعندما حملنا الأحجار لنغطي سطح القبر، وقع حجر على مشط قدمي، وسحق أصابعي، وصرت أقفز على قدم واحد بسبب الألم المبرح، وصحت قائلًا بغضب:

هذا لا يطاق، لن يأتي الحمل لأكل عجوز. لم يعد في جسدها سوى العظام.. وهبَّ أبي غاضبًا رافعًا المنجل في الهواء، ثم تراجع حين رأي الدم يسيل من مشط قدمي، ومع ذلك أقسم أن أحرس معه القبر في المساء..

وفي مطلع الليل، سرت متجهمًا خلف أبي، ووضعنا الفانوس، قرب قبر جدتي، وتنحينا جانبًا، ولبدنا في الظلام منتظرين قدوم الحمل، ومضى الوقت ببطء، وحشرات الليل تزعجنا بصريرها المقيت، والكلاب تنبح، وأبي ممسك بسلاح ناري، متأهب لإطلاق النار على الحيوان البغيض الذي يطلقون عليه أيضًا لقب سارق الجثث. كان الجوع يعصرني، ولا أستطيع أن أتحرك، أو أحتج، وكلما حاولت أن أقول شيئًا، صدرت وشوشة أبي محذرًا، ورأيت ضوء الفانوس يخفت، وأردت أن أنبه أبي إلى أنه بحاجة إلى قليل من الزيت، ولكنه طلب مني الصمت، وفجأة همس لي قائلًا:

“انتظر هنا،  وأنا سأذهب لأجلب الزيت، وأدخل الحمام، وأعود سريعًا، أنت تعرف كيف تطلق النار، لن أتأخر”. وناولني البندقية التشيكية، ولم يسمح لي أن أتكلم، بل غاص سريعًا في الظلام متجهمًا نحو المنزل، وبقيت خائفًا، ليس من الحمل، لأني صرت أؤمن أنه كائن خرافي، ومع ذلك لا أجرؤ أن أواجه أبي بمثل هذا الكلام، بل إن البقاء قرب قبر حديث الدفن أمر رهيب، وصرت أتخيل أن هناك حركة تدب في الجوار. ولسوء الحظ انطفأ الفانوس، ولم يعد هناك سوى أضواء النجوم الخافتة، وسمعت حركة فجة آتية من جهة الهضبة، وفجأة رأيت طيف شيء ضخم يتجه صوب القبر، ورأيته يهز فروع السدر، ويأكلها، وتصلب جسدي وتشنج، وغشيني العرق، وقلت لنفسي: “هذا الحمل، إنه ليس خرافة، يريد أن يسحب جثة جدتي”، وصوبت البندقية في اتجاهه، وأطلقت النار، ورأيته يسقط قرب القبر مطلقًا صوتًا، فصرخت بخوف وفرح قائلًا: “قتلت الحمل”.

أتى أبي مسرعًا، وفي يده قنينة الزيت، وفي اليد الأخرى مصباح يدوي، واقترب من القبر، ووجه الضوء نحو الحمل المزعوم.. ورأيت جملًا وليس حملًا، وهذا الجمل الوحيد في القرية، ويملكه شخص يدعى “حسن العوبلي”، وها هو ممدد ميت.. قذفت البندقية من يدي، وأطلقت ساقي للريح قبل أن يفيق أبي من دهشته.

 

 

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share