Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

بدر شاكر السياب .. حياة القصيدة حين تلبس أثواب الرفض

صفاء ذياب

أكثر من نصف قرنٍ على رحيل الشاعر بدر شاكر السيّاب وما زال الجدل حول شعره مستمراً، هل تمكّن هذا الشاعر من كسر طوق القصيدة العربية فعلاً؟ وهل كانت قصائده خرقاً للذائقة العربية آنذاك؟ وهل كان السيّاب بالفعل رائد القصيدة الحرّة، أم نازك الملائكة أو علي أحمد باكثير أو شاعر آخر لم يلتفت له التاريخ؟

السيّاب الذي رحل في الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 1964 بعد صراع طويل مع المرض والفقر والفصل من الوظيفة، ربما كان واحداً من جمع من الشعراء الذي غيّروا خريطة الشعر العربي، واحداً من بنية ثقافية أسهمت في إعادة التفكير بالأسلوب القديم وكسر أطواقه، لكنه مع هذا كان الملهم الأهم لأجيال جاءت بعده.. وربما هذا هو ما يميز صوته الشعري، وتحولات قصائده، كونه نموذجاً للرفض والسعي للخروج بأنماط أخرى.

دراسات لم تكتمل

يرفض الشاعر محمد صالح عبد الرضا كلام القائلين إن شعر السياب استهلك بحثاً، ذلك أن الدراسات النقدية التي تصدت لشعره باتجاهاتها المتنوعة، وطروحاتها المتباينة في استنطاقها النص السيابي على كثرتها، لم تستوف تطبيقات المناهج النقدية الحديثة غير الانطباعية، مثل البنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثة، وفي ذلك دراسة العلاقات المتخيلة مع منظومة العلاقات الواقعية ودراسة الأنموذج البشري أو تحليل شعره لسانياً أو استغواره إيقاعياً ذاتيا وموضوعياً، وكذلك من المفيد حرث حقله السايكولوجي والمركب الوجداني في دراسات جادة ومستقلة.

يرى الناقد سلمان كاصد أنه من الضروري النظر للسياب من زاوية مهمة وهي علاقة الشاعر بالديمومة، وإلاّ كيف نفسر بقاء واستمرار الظاهرة السيابية بعد سبعين عاماً من اكتشافها وتطويعها لشكل القصيدة العربية؟ الظاهرة السيابية مختلفة تماماً عن كل الظواهر الشعرية العربية التي سرعان ما تختفي بعد التعرّف عليها إبداعياً، إلا السياب وصياغاتها الشعرية العربية، إذ ظلت رؤاه تدخل أزماناً وتخرج منها نحو أزمان أخرى وهي أقوى مما قبل.

ويؤكد كاصد أن الظاهرة السيابية لم تمت، وكأننا أمام رؤى تتجدد، الأبنية الشعرية لبساطتها وخفتها على الكلام، والصيغ الأسلوبية لترابطها الثر ولتعانقها الأخّاذ ظلت أكثر صفاءً، حتى قصيدته «أنشودة المطر» صارت أكثر الأناشيد التي تستدعيها لحظة انهمار المطر، وكأن الأنشودة قد صيغت من الانهمار الطبيعي للمطر نفسه، فقد تحوّل المطر إلى كائن شعري باذخ.. مثلما تحّول بويب إلى نهر في ذاكرة الشعرية العربية على الرغم من أنه لم يكن سوى ساقية صغيرة لا تعني في واقعها شيئاً أبداً، إنه خارج الجمال بمعناه الواقعي.. داخل مركز الجمال بمعناه الكتابي.

لننظر إلى صياغات السياب، لم أجد في «أنشودة المطر» فاعلاً يجاور فعله، لم يقترب الفاعل من فعله، لابد أن يكون هناك فاصل ما؛ أي فاصل، كل ذلك لخدمة القافية التي تمطر سحراً لقمرٍ يسقط في نهر.. «كما اكتشف السياب عبر القصيدة التي كتبها سمات الواقع ولم يصوّر واقعاً، إنما أخرج جدليته، فصاغ قوانينه التي لم يبصرها في البدايات أحد غيره، ذلك هو السياب الذي ظل في ديمومته، على الرغم من التحولات المتعددة في أبنية الشعر العربي، التي لم تستطع أن تطمس تجلياته وكشوفاته وصياغاته، وهذا هو أهم قانون في شعرية القصيدة التي صاغها السياب أن تظل جميلة دائماً».

السياب وديمومة الأثر

يتحدث الناقد باقر جاسم محمد عن أثر السياب في الشعر العربي، مبيناً أنه بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاته، مال زال بدر شاكر السياب شامخاً بصفته أحد أعلام الحداثة في الشعر العربي المعاصر؛ ذلك أن نتاجه الشعري الغزير والمتنوع والمتجدد كان وما زال حاضراً بقوة، فليس غريباً أن يكون موضع اهتمام ودرس، على المستويين الأكاديمي والنقدي، على الرغم من غيابه الجسدي المبكر. تمكّن السياب، من خلال نتاجه الشعري في الدرجة الأولى، وفي هذا العمر القصير نسبياً، وعلى الرغم من اعتلال صحته، أن يسهم، مع شعراء آخرين، في منح الشعر العربي الحديث هويته المميزة وأن يقدم له قصائد رائعة تمثل، آثاراً خالدة يمكن أن تكون من بين القصائد الأنموذج الدالة على الشعرية العربية الحديثة، مثل قصائد «أنشودة المطر» و»النهر والموت» و»المسيح بعد الصلب» و»شباك وفيقة» بجزئيها. وفضلأً عن ذلك، فإن السياب واحد من الشعراء العرب القلائل الذين استطاعوا أن يحققوا لأنفسهم متوناً شعرية ونصية مميزة ودالة عليهم ومؤثرة فيمن جاء بعدهم من الشعراء. ويضيف محمد: ولم يكن للسياب أن يحقق ذلك لولا أنه عاش تجربة الوجود بإخلاص. فقد واجه؛ بشجاعة، كل ما تنطوي عليه الحياة من المحن ومن خذلان الجسد والأوضاع السياسية والاجتماعية المضطربة، وما آلت إليه من الأخطاء والخطايا. فحوّل كل ذلك إلى شعر حي جديد شكلاً ومضمونأً، شعر نابض بالحياة ويتسم بالجمال والعمق لأنه كان يصدر عن خصوبة المخيلة الشعرية لديه، فقد منح السياب شجرة الشعر العربي روحاً جديدة وأغصاناً خضراء نضرة، بعد أن جف عود شعر الشطرين وأوشك أن يتيبس. ويمكن أن نضيف إلى ما سبق أن السياب قد تفرد، من بين الشعراء العرب المحدثين، بأنه منح الأمكنة التي عاش فيها، مثل قريته (جيكور) ونهيرها البسيط (بويب) وساحة (أم البروم) في البصرة شهرة وذيوعاً، ما أضفى على هذه الأماكن الخلود من خلال نقلها من الوجود المادي الواقعي المحدود إلى الوجود النصي المتجدد في كل قراءة.

كباش السيّاب

كان السياب – بحسب الشاعر علاوي كاظم كشيش- مفترقاً مهما جعل هذا القارئ يبحث عن الشاعر الحر وليس عن الشعر الحر، إذ إن الأشكال لم تشكل عائقاً أمام الإبداع، ولهذا ظل الشعر حرّاً في جوهره يحتل أي شيء شكل يشاء، ومثلما أن قِدَم الأشكال لم يعق الإبداع، فإن حداثة الأشكال لم تنفع كثيراً من التجارب الفجة. لهذا وجد هذا التلميذ القارئ للسياب أن مشكلة الشاعر الحر لم ترس لها حلول أو نظرية على الأقل تقود إلى تطبيق يصح على كثير من القمم الشعرية، على أن الشاعر الحر موجود هناك في الكواليس خلف الواجهات، وفي طرقات الإبداع الوعرة التي هي صعبة المرتقى على الباحثين عن الجاهز والمصطف والمجتلب قديماً وحديثاً. وعلى هذا القياس البسيط، فإن السياب لم يكن شاعراً حرّاً ولا شعره، فهو كان متذبذباً بين أن يختار أو لا يختار. ولذلك أصبح سهلاً هو وشعره على الدراسين. ثم أدخله الإعلام المتعاطف إلى مصاف الرمز وظل الحكم الحقيقي عند قارئه المستبعد الذي تم اغتياله مع الشاعر، وهو وحده (القارئ) الذي يشم روائح قصائد السياب ويتمثل المضيء منها، وهذا على قلّته فإنه إبداع سيابي لا يندثر باندثار بويب. كشيش يقول إن قارئ السياب يؤمن بأن الشعر كلام مقيد غير حر، ويفرق بين الكلام الشعري وبين الشعر في جوهره المتغلل في الأشياء والأفكار، وهو جوهر لا يختلف عن السحر إلاّ في الأدوات، وإن كان العرب قد وصفوا البيان بالسحر، كما في الحديث النبوي الشريف… وقارئ السياب يؤمن أيضا ألا شيء أكثر ابتكاراً ولا أشد شخصية من أن يتغذى الإنسان من الآخرين، ولكن ينبغي هضم هذا الغذاء، فالأسد مكون من كباش مهضومة؛ بحسب فاليري.

تحجّر القصيدة

وحسب الشاعر أديب كمال الدين فإن السياب لم يلقِ حجراً في بركة ماء راكدة، بل حفر نهراً عذباً من الشعر شرب منه آلاف الشعراء العراقيين والعرب. فقد امتلك كلّ صفات الشاعر الفذّ: امتلك موهبة نادرة، قاموساً شعريّاً خاصاً، فهماً عميقاً للنمو العضويّ في القصيدة، اقتصاداً في المفردة، معاناة عميقة، لغة ثانية مكّنته من النهل من تجارب كبار شعراء العالم، ولذا كان نتاجه خلّاقاً حتى أنه غيّر الذائقة الشعرية العربية، وقبل ذلك، بالطبع، غيّر القصيدة العربية إذ كانت قد وصلت في زمنه إلى أقصى درجات التحجّر. ولولا هذا لما استطاع أن يحقق التغيير الكبير الذي صار بفضله معلّما قلّما يجود الدهر بمثله وليبدأ عهد شعر التفعيلة بدلاً من الشعر الكلاسيكي الذي أكل عليه الدهر وشرب. ويوضح كمال الدين أن بعض شعراء الستينيات في العراق حاولوا «اختصار» المنجز السيّابيّ بثماني قصائد فقط هي: «أنشودة المطر، في المغرب العربي، المسيح بعد الصلب، أغنية في آب، غريب على الخليج، سفر أيوب، النهر والموت، شناشيل ابنة الجلبي»، وحتّى لو افترضنا جدلاً بصحة هذا الاختصار- وهو اختصار تعسفي دون أدنى شك- فإنّ هذه القصائد قد كتبها السياب لا لتتألق في جمالها وعذوبتها وفرادتها ولغتها، بل لتتحدّى سطوة الدهر وهو الممتحِن الحقيقي الذي يغربل كلّ شيء فلا يبقى على شيء إلّا ما كان من معدن أصيل. مبيناً أن هذا يحدث رغم أنّ القصيدة العربية قد دخلت منذ زمن ليس بالقصير في منعطف قصيدة النثر، وهو منعطف كبير أهّلها لتكون مرآة جمال عميقة على يد المبدعين الحقيقيين من الشعراء، لكن هذا ما كان ليتمّ لولا المنجز السيّابي المتدفّق، المتفرّد الذي شقّ نهر التغيير العظيم.

علامة فارقة

غير أن الكاتب حسان الحديثي يؤكد أنه لم يعدْ يعنينا كثيراً الخلافُ حولَ من بدأ شعرَ التفعيلةِ؛ هل هو بدر شاكر السياب؟ أم نازك الملائكة؟ كما لم يعدْ يشكل هذا السؤال أهميةً كبيرةً لدى المهتمين بالشعرِ الحرِ خصوصاً، وبالأدب عموماً، وذلك أن القناعة أصبحت متكاملةً أن هذه المدرسةَ لابدَّ ناشئةٌ إن لم تكن بالسياب فبغيره. فنشأةُ شعرِ التفعيلةِ ضرورةٌ أدبيةٌ كان لابدَّ لها من الظهور وليست ترفاً أدبياً كما كان يظنُّ، أو يتهم بعضُ شعراءِ ونقادِ أهل ذلك الزمان ومن عاصرهم وأتى بعدهم، إنه مؤامرة على الشعر العربي وقال بعضهم سموه ما شئتم إلا شعراً، والضرورة في نشوئها وظهورها هو أمر له علاقة بالمعاني لا بالتراكيب الشعرية من بحورٍ وقوافٍ، وما جعل السياب يبتكر تكرار التفعيلة الواحدة في المقطع الشعري متجاوزاً الحد «الخليليَّ» المسموحَ به، إنما هو لإتمام المعاني وللانطلاق في فضاءاتها لكي تكتمل صورها آخذاً بنظر الاعتبار أنَّ القلة في التكرار هو الأصل والمحبذ والزيادة ضرورة لإتمام المعنى.

أما القافية، فيشير الحديثي عنها إن السياب أدرك – بحس الشاعر- أن اللغة العربية هي لغة صوت، بالإضافة إلى أنها لغة معنى، وإن وقْعَ الصوتِ له أهميةٌ لا تقل شأناً عن المعنى، عندها وجد في شعر التفعيلة سعةً في المساحةِ والأفقِ لتحقيق ذلك، فلم يمنعْهُ حينها مانعٌ أن ينتقل من قافيةٍ لأخرى، ما رأى أن ذلك يخدم المعنى مراعياً جِرسَ المفردةِ وتأثيرها في البناء الشعري من جانب ووقعها في أُذن المستمع من جانب آخر… ليس ذلك فحسب، فالأمر الذي يعدّه بعض الأُدباء والنقاد ضعفاً في شعر العمود أصبح مصدر جمالٍ في شعر التفعيلة وهو «التدوير»، إذ اصبح التدوير سمةً جمالية فارقة في شعر السياب وأن بناءه الانسيابي الذى راعى أهمية الإيقاع وسلاسة البناء جعله سمةَ جمـــالٍ وإمتاع. هذا على صعيد القارئ العربي، أما على الصعيد العالمي، فإن السياب- وبعد مرور ما يزيد على نصف قرن لرحيله- يعد من أكثر شعراء العربية ترجمةً- إن لم يكن أكثرهم- إلى بقية اللغات، ليس ذلك فحسب، بل لقد تمت ترجمة القصيدة الواحدة عدة ترجمات، لاسيما اللغات الأكثر انتشاراً كالإنكليزية والإسبانية والفرنسية، ولا يزال المترجمون العرب والمستشرقون يجدون أن القصائد المترجمة تحتاج إلى ترجمات أخرى للإلمام والإحاطة بمعاني السياب وصوره وإشاراته، ولا تكاد تخلو جامعةٌ تدرس الأدب العربي من شعر السياب كعلامة وأساس من علامات وأُسس الأدب العربي الحديث… كل ذلك يجعل الشاعر الكبير والأديب العبقري بدر شاكر السياب يشكل نقطةً فارقةً في الشعرِ العربي على وجه الخصوص والعالمي عموماً.

Share

التصنيفات: ثقافــة,صور

Share