Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

التآلف مع العزلة

سعيد خطيبي*

تتحول العزلة، شيئاً فشيئاً، إلى سلوك إنساني طبيعي، بل إلى وقاية إذا صدقنا مناشير التحذير التي تتدفق، كل يوم، ووجوه أطباء عابسة داوموا على البث المباشر على الفيسبوك وهم يوصون الناس، كما فعل المسيح مع الحواريين، بمجافاة من يطوفون من حولهم. باتت واجباً، هذه الأيام، فأخبار الوباء وتطوراته وتفشيه، كما ترد في البرقيات العاجلة، وعلى شاشات التلفزيون، تُحتم علينا الابتعاد والانزواء والاختلاء واعتزال الآخرين.

لقد تفككت العلاقات الاجتماعية، وصار كل فرد يُراعي وحدته بصفتها سلاحه الأمين في الدفاع عن نفسه ضد مواطنيه، الذين يحتمل أن الوباء قد أصابهم أو قد يُصيبهم، وأنهم مؤهلون ليسكنهم، على الرغم من أن لا أعراض ظهرت عليهم، مع ذلك فقد صرنا لا نثق في بعضنا، ونشك في كل سليم معافى أنه سوف يُصاب بالفيروس ولو بعد حين.

صارت العزلة شرطاً أساسياً في لاوعينا، نتظاهر بعدم الميل لها، وأننا اجتماعيون ومحبون ومتعاونون، ونفشل في التخلص من ذلك الشعور بالخوف الذي يدفعنا إليها كرهاً. ندقق النظر في أرقام الإصابات الجديدة وما تلاها من أرقام موتى، ثم نبحث عن أشكال الاحتراز من الوباء، نمتنع عن المصافحة والمعانقة وكل شخص يود أن يكون أشبه بجزيرة في مجتمعه الصغير، أن ينتبذ مكاناً قصياً، كما فعلت مريم، في خانة معزولة لا تصل إليها أنفاس الآخرين، ولا أيديهم ولا تحوم حولها الشكوك، أن يتطرف في مسكنه ومرقده كي يضمن لنفسه حياة أطول، وألا يموت على حين بغتة بسبب الوباء الحديث. قد يبدو ـ ظاهرياً ـ من السهولة أن يختار الإنسان عزلته، أن ينصرف عن الآخرين ويدير لهم ظهره، لكن على الأرض الأمر ليس سهلاً، فالعزلة تعني ـ لا محالة ـ غياباً، وقد تعني ضياعاً أو تضييعا لمكاسب أو احتياجات، وفي العزلة قد يشعر الإنسان أنه مذموم أو مهجور، وليس من السهل تحمل جملة الأحاسيس التي ترافق من يبتعد عن الجماعة، طوعاً أو غصباً.

في العزلة يفقد الفرد مقدرته على التخاطب، وعلى الحوار، قد يفقد أيضاً معارفه ومهاراته، فهذا الخيار يُحيله إلى نقصان وليس العكس، ويصير شخصاً لامرئياً، ففي عزلته لن يسمع صوتاً يقترب منه، لن يسمع أحداً يُنادي باسمه، إنه يقطع ذاكرته ويمحي صورته من أذهان الآخرين. وليس بالضرورة أن يبتعد كثيراً كي يُتيح لنفسه أسباب العزلة، لا يعني أن يتوارى في غابة، أو يسير ليالي في صحراء أو يختبئ في قرى لا تصل إليها كهرباء، بل يمكن أن نعيش في مدن صاخبة ونعتزل فيها، مدن اليوم هي الأفضل للاعتزال، نتحول فيها إلى لامرئيين ونختفي من أعين الناس، ونصير في حكم الغياب.

 

في العزلة يفقد الفرد مقدرته على التخاطب، وعلى الحوار، قد يفقد أيضاً معارفه ومهاراته، فهذا الخيار يُحيله إلى نقصان وليس العكس، ويصير شخصاً لامرئياً، ففي عزلته لن يسمع صوتاً يقترب منه، لن يسمع أحداً يُنادي باسمه، إنه يقطع ذاكرته ويمحي صورته من أذهان الآخرين.

 

العزلة هي أيضاً منفى، وليس بالضرورة أن ينزوي الإنسان جسدياً، بل أيضاً ذهنيا، ينصرف عن التفكير في راهنه، وينشغل بالحلم وحده، باعتباره بديلاً عما يحدث معه، ولكن مهما كان نوع العزلة: ذهنيا أو جسديا، إنما هو تعبير عن احتجاج، عن قلق من الحياة التي نحياها، وهذه الأيام تصير العزلة بديلاً عن الخوف من وباء كورونا، هي الخيار الوحيد المتوفر لنا، كي نخطو قليلاً مبتعدين عن مهرجانات الترويع والفزع، التي تقرعها وسائل الإعلام، ننعزل كي نقول ـ في الصمت ـ إننا غير راضين عما يجري ولن ننخرط في الحرب النفسية التي يودون توريطنا فيها. العزلة شكل من أشكال السجن أيضاً، الفرق بينهما أن المعتزل يغلق الباب من خلفه، بينما السجين لا يتاح له هذا الترف الصغير، وفي الحالتين فإن الشقاء دافع إليهما. لا يوجد من يبتغي عزلة، أو يحتفي ويتفاخر بها، بل إنه يعيشها ويضمرها في نفسه، يتحملها في صمت ولا يبادر إلى الإبلاغ عنها، مع أنها لن تغيب عن أذهان من يعرفونه، سيسجلون غياب المعتزل، ولن ينغصوا عليه خياره، ويتركونه يداوي شقاءه وخوفه وقلقه وانتظاره في الحيز البعيد الذي اختاره لنفسه.

في العزلة نحن مثـــــل أيتام، يبلغ ســــمعنا ما يقع من أحداث، وما يرد من أخبار عاجلة، لكننا لا نشـــعر بأننا في تماس معها، نحس بأن هذا العالم الذي تتساقط منه كل لحظة أخبار وباء كورونا هو عالم جانبي، لا نلقي له اهتماماً، فقد قررنا بخيارنا ذلك أن نهجره ذهنيا، أن ننظر إليه بدون إمعان، وقد تحول إلى صورة ضبابية تسكن في طرف قصي من الذاكرة.

لن نشعر بما يراود الآخرين من آلام، حتى إن كانوا من المقربين، لقد طلّقنا الحياة في العزلة، وتنكرنا إلى كل بؤسها أو فرحها، ولا شيء يُراودنا في تلك الخلوة سوى التفكير في الساعات التي نقضيها، وكيف نقضيها، وكيف ننوع في أشكال التسلية والاستهلاك، كي لا تستحيل العزلة ضجراً جارحاً يعجل رغبتنا في الخروج منها.

في عزلته يصير الإنسان إله نفسه، يحس كما لو أنه الكائن الوحيد على وجه الأرض.

وهي حالة ليست بتلك العذوبة أو اللذة، التي يتسارع في وصفها شعراء، وفي الدعوة إليها، فالعزلة أيضاً ألم وشقاء، ونزول بطيء نحو الاكتئاب والقهر، لكنها وقد صارت حتمية في زمن كورونا، فكيف يمكن أن نتحمل تبعاتها؟

العزلة تشبه ماكياجاً لتزيين الألم الذي يُساورنا، هي البديل عن الحسرة وعن الخسران، وهي ملجأ كي نتفادى هزات نفسية لا نملك طاقة عليها. في عزلته يشعر الإنسان بحاجة إلى رفع معنوياته، كأن يقول إن النبي المخلص لا مكانة له بين الناس، وإنه أحسن الاختيار أن انسحب إلى العزلة. هناك انفعالات نفسية تحصل في العزلة لا يمكن بلوغها، لو بقينا محيطين بالآخرين. قد نفقد اللغة ونتحول إلى التواصل مع العالم بالإشارات، قد نفقد القدرة في العودة إلى الحياة العادية لاحقاً، وقد صارت اليوم شرطاً للبقاء، يتحتم علينا التآلف معها، وعدم التأفف من تبعاتها حين يُرفع الحظر وتدعو شاشات التلفزيون ـ التي عولمت الخوف ـ الناس للخروج من مخابئهم.

 

  • كاتب من الجزائر

 

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share