Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

الشِّعر العربي وآثارُ العولمة … الثابت والمتحول

البشير ضيف الله*
الشِّعر «أوكسجين» الأمة العربية وأقنومها الأول، وشاهدها عبر مختلف العصور، وهاجسها الإبداعي حتى قيل «الشعر ديوان العرب»، فهو لصيق بحلها وترحالها، بحركاتها وسكونها، بمآسيها وأفراحها، وأصبح بذلك صفتها الإبداعية الثابتة، ولعلّ طبيعة التّمرد المحرّكة للنّص الشعري في راهنيته تجعله في صميم التحولات التي فرضتها «العولمة»، مثله مثل باقي الفنون والآداب، وكان طبيعيا أن يعيش حالة من «التشظي» والقلق والانفتاح، أو حالة من «الارتداد» في نظر «المتأصلين» الحريصين على «نقاء» الجنس الأدبي، فاختلفت الرؤية وانفتح الشعراء على عهد جديد بظهور «قصيدة النثر» الممارسة لعملية محو «الفوارق الأجناسية»، المبشّرة بدور مختلف وجريء للشاعر في سياق محيطه الكوني الصّغير المنفتح على عوالم الشعر العالمي والغربي بالخصوص، والشعر العربي من هذا المنظور «جزء من تحولات حاصلة في الشعر الغربي عموما، وبذلك تحدث هجرة معرفية ونصية من وإلى، ويتم كل ذلك عن طريق شبكة الإنترنت والوسائط الاتصالية الأخرى، فالتكنولوجيا تقدم بعض الإمكانات المثيرة عن طريق الكومبيوتر، وبعض الأساليب المفيدة للعرض والبيع، والأدب عموما والشعر خصوصا، يواجه تغييرات في التوزيع عميقة المغزى مثل الموسيقى»، ممّا أسهم في تأثيث الرؤى والمعاني، واكتشاف زوايا أخرى مضيئة في بلورة وعي إنساني جديد يضع النتاج الأدبي على المحكّ، ويربط علاقة تفاعلية إيجابية مع المتلقّي الواقعي والافتراضي كيفما وأينما كان، بدون «خلفيات» مُسْبقة، فالشعر استفاد من تجربة «العولمة» واستوعب تمثلاتها، والشعر في هذه الحالة «محرك العولمة مادامت تستهدف تطور الإنسان».

تحولات العناوين.. افتراضية العتبة
العنوان أهمّ عنصر مكوّن للأثر الأدبي إن لم يكن «فيزا» عبوره نحو الآخر/المتلقّي فهو «يشكل قيمة دلالية عند الدارس، حيث يمكن اعتباره ممثلا لسلطة النص وواجهته الإعلامية التي تُمارس على المتلقي، فضلا عن كونه وسيلة للكشف عن طبيعة النص والمساهمة في فك غموضه»، ولعلّ من أبرز التحولات التي شهدتها التجربة الشعرية في عصر «العولمة» بناء العناوين بشكل مختلف، ما يرسمُ إحالة مركّزة على العصر بكل تجلياته «الإلكترونية»، ما يؤكد حالة من التفاعل الإيجابي يسجّلها الشّعر لصالحه، بدون تحفّظ شديد، بعيدا عن القصائد العصماء والمطولات المحتكمة إلى اللغة العربية في أصولها، بدعوى الحفاظ على ما تبقى منها.

الحب في زمن الفيسبوك

«الحب في زمن الفيسبوك» عنوان مجموعة شعرية للشاعر المصري «عمرو فرج» من الجيل الجديد الذي فتح عينيه على «العولمة»، والعنوان جملة إسمية مكونة من مسند ومسند إليه، فالمسند إليه واقعي» الحبّ» والمسند افتراضي «الفيسبوك»، ما ينبئ بأننا أمام ظاهرة خطابية جديدة تحاول التأسيس لشخصيتها من غير مركّب نقص، فهذا العنوان يحملُ نزوعا جديدا و«قيماً أخلاقية واجتماعية كثيرة»، ويرصد حالات مزاجية مختلفة، لا تقتصر على إحساس واحد أو لون واحد، وإنّما تحتوى على كل المتناقضات.
أفكار في زمن الفيسبوك
(بدر)، هو عنوان رئيسي لمجموعة شعرية للعراقي رغيد النحاس، تضمّنت 96 نصّا نثريا، عضّده الشاعر بعنوان فرعي في طبعتها الإنكليزية «أفكار في زمن الفيسبوك،» في إحالة ضمنية على أجواء هذه النّصوص، وتفاعلها مع الراهن بمعطياته الإلكترونية الوثّابة، مع إضافة شكلية مهمة، تمثلت في تأثيث صفحاتها بعدة صور فوتوغرافية ملوّنة في مقاربة بين النّص واللّون، النّص والصّورة، ما يترك انطباعا جماليا قائما يحاول ترسيخه الشاعر بتقنية متعالية، ورغبة في صنع الاستثناء.
وتشترك مع كثير من المتون الشعرية وحتى السّردية في كون الحافز على الكتابة هو العالم الأزرق بكلّ تمثلاته، أيْ أنّ هذه النّصوص بما تحمله من تراكمات هي انعكاس لتجارب «فيسبوكية» مفصلية، خصوصا ما تعلق منها بسيّر الحب والجمال، وصناعة الحياة، فكأنّ الحبّ يعيد نفسه لكن بتقنية تعبيرية مختلفة، بمعطيات من صميم الواقع الذي نعيشه لا حبّا بالوكالة – كما في معظم النّصوص الشعرية الحديثة القائمة على الماضي، وبكائيات الأطلال، والهجر والفراق – فالعلاقات تستحضرها الصّور مباشرة من غير تزييف، والرسائل عابرة للقارات تسارع الزّمن ولا تتريّث، فالـ»أس أم أس»، و«المسنجر» و«الشات» جعلت من عنصر الزّمن لعبةً لحظيةً تنعدم فيها المسافات، وإن ابتعد الحبيب من أقصى الأرض إلى أدناها، في بوح لم يكن يخطر على بال قبل عقدين من الزمن فقط!
واللاّفت في هذا المجموعة أنّ الشاعر يرصد علاقة عشق قائمة بين طالب جامعي وأستاذة الفلسفة التي تكبره بنحو 13 سنة، نظرا للهمّ المشترك بينهما وهو الشعر، ورغم بعدهما عن بعضهما بعضا بآلاف الأميال كونهما من دولتين مختلفتين، إلاّ أنّ الفضاء الإلكتروني، كان سبيلهما الأوحد للتعارف ثمّ التلاقي بعد انتقال الأستاذة إلى بلد الطالب الجامعي والتدريس في الجامعة نفسها، التي يزاول فيها دراسته لينتهي هذا الحبّ بصورة درامية مفاجئة من طرفها طبعا، ويبقى متعلّقا بها على امتداد أربع وأربعين سنة!
وكلّما ولج عالم «الفيسبوك» أو حرّك «السكايب» تذكّرها بحرقة.

هل استطاع الشِّعر فعلا وبهذا المكسب المعجمي الجديد، الذي هدم «المواضعات اللغوية» المعروفة أن يجدّ ضالته في استباق التّحول واستيعاب ما يدور حوله من نقاشات تؤكد غالبيتها انسحاب الشعر لصالح الرواية، وانكماش مقروئيته بشكل لا يحتاج إلى تدليل؟

غير أنّ ما يميّز هذه المجموعة الشعرية ذلك التقديم الاستشرافي المبني على رؤية خاصة للشاعر، إذْ يتنبأ بنهاية زمن «الفيسبوك»، أو تغيّرَه بعد أربع وأربعين سنة على الأكثر، وهو ما يحاول الإشارة إليه في نصّه «واحد بالبليون» الذي يلتقي فيه حبيبته بدون موعد سابق في توقيع إعجاب متزامن على مقروء «فيسبوكي»، فكانت اللّحظة غير المنتظرة تماما، لحظةٌ نسبة تحققها في الواقع أو حتى الافتراض لا تتجاوز الواحد من بليون، يقول:
« بإمكانكم تصور دهشتي
حين كنت أتوقع أن اسمي سيظهر لوحده،
لكنني رأيت الاسم الآخر
يتوهج لحظة قبل أن يستقر الاسمان سوياً جنباً إلى جنب.
سرني أن كلينا كنا نقرأ
ونحب الكلام نفسه؛
هل أقول إن (فيسبوك) وفّر لنا فرصة أخرى من بليون فرصة؟

المعجم اللغوي.. من الرسالة إلى الـ أس أم أس

حفلت كثير من القصائد النّثرية بمعجم لغوي جديد يحيل على واقع افتراضي، شكّل خريطتها وأثّث تركيبتها بشكل مائز حينا وماتعٍ أحيانا أخرى، تجعل النّص المكتوب أشبه بكائن «رقمي» يُعضّد اللّغة ويقضّ مضجعها ـ على استحياء- وهو ما نلمسه في كثير من النّصوص كتوظيف مصطلحات «النت، أس أم أس، موبايل، الفأرة» وغيرها.

عن انسحاب الشعر لصالح الرواية

هل استطاع الشِّعر فعلا وبهذا المكسب المعجمي الجديد، الذي هدم «المواضعات اللغوية» المعروفة أن يجدّ ضالته في استباق التّحول واستيعاب ما يدور حوله من نقاشات تؤكد غالبيتها انسحاب الشعر لصالح الرواية، وانكماش مقروئيته بشكل لا يحتاج إلى تدليل؟ وهل أنَّ الشِّعر تعرض للافتراس المبين من الرواية فعلا؟
المسألة غاية في الإحراج، خصوصا حين تضعنا أرقام «المبيعات» الورقية على المحكّ، فطبع «مجموعة شعرية» لا يتعدّى في أحسن الأحوال 5 آلاف نسخة لشاعر مُكرّس تمام التّكريس، أيْ اسم له قراؤه ومريدوه على نطاق واسع، غير أنّ هذا الرقم يبدو مجهريا بالنسبة للرواية، وبلغة الأرقام فإنّ اكتساح الرواية ماثل للعيان ولا ينكر ذلك إلاّ من جهلَ ظروف نشر و«تسويق» الرواية في زمننا هذا، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تصدرت الرواية قائمة الكتب الأكثر مبيعا في منافذ البيع «كينوكيا»، و«بوردز» و«فيرجن» في دولة الإمارات، في غياب عنوان شعري واحد ضمن هذه الإحصائية الجديدة، التي تؤكد بما لا يدع مجالا للمقارنة تزعّم الرواية «بورصة» المبيعات، وبالتالي اتّساع المقروئية.
لقد أسهمت الجوائز الخاصة بالرواية ـ جائزة الطيب صالح /البوكر/كتارا… في قلب الطاولة لصالح الرواية، مع ما تقدمه من حوافز مادية مهمّة، وأخرى «لوجيستية» كالنشر على نطاق واسع، والترجمة إلى مختلف اللغات العالمية، والمتابعة المستمرة للحراك الروائي، ما يشجع على «النّزوح» طلبا للرواية، خصوصا من الشعراء، حيث نجد الكثير من التجارب في هذا الشأن على غرار الفلسطيني إبراهيم نصر الله، والشاعرين الأردنييْن أحمد أبو سليم وجلال برجس وغيرهم. فالدور المحفّز لهذه المسابقات يجعل دور النشر العربية تغيّر وجهتها لصالح الرواية، خصوصا وأن هناك جوائز مخصصة لدور النشر أيضا، ما يعني وجود حركية نشر نشيطة، ومستمرة بحثا عن الجديد ورغبة في التألق والتميّز، وتوسيع المبيعات، والانفتاح على معارض الكتاب العربية، التي تقام هنا وهناك، ما يضمن عائدات مادية معتبرة لدور النّشر، ومن الطبيعي في ظل هذه المعطيات أن يشعر الشعر والشعراء باليُتم، يُتمٌ فرضته قواعد «سوق النّشر» بالدرجة الأولى، فأزمةُ الشعر ـ إن كانت هناك أزمة فعلا- ليست أزمة نصّ، وإنما أزمة «تجارية /ترويجية» بالدرجة الأولى ليس له يد فيها، وإنّما كرّستها معطيات «اقتصادية» جديدة، زيادة على هجرة كثير من الشعراء نحو كتابة الرواية، ولو أنّ هذا النزوع لا يضع حدودا فاصلة بينهما، فالتجربة الشعريّة «لا تنفصل عن تجربة الحياة، وما نعدّه شعرًا، إنّما هو تحويل شكل لغويّ إلى شكل من أشكال الحياة، وتحويل شكل من أشكال الحياة إلى شكل لغوي. والنصوص السرديّة أو «الرواية» التي ينزع إليها الشعراء الآن تحمل الشعر في مطاويها.

ما نشهده اليوم هو التحول في مفهوم اللغة، وانتقالها من البلاغة الكلاسيكية إلى برق الإشارة، ومن مفهوم الوزن إلى متاهة الإيقاع

ولا أقصد لغة الشعر، إنّما ما يفيض عن الشعر، وهناك موضوعات وتفاصيل وشوارد، قد لا يتّسع لها الشعر، ومن ثمّة يلجأ بعضنا إلى الرواية أو القصّص».
في حين أن محمد علي شمس الدين ينفي هذا الحكم القاسي على لا جدوى الشعر جملة وتفصيلا، ويؤكّد أنّ التّطور المذهل المشهود حاليا يجعل لغة «القصيدة أكثر تفوقًا وخصبًا.
هذا التطور الذي يصل اليوم إلى اللحظة العنكبوتية للعالم؛ الإشارة والبارقة والرقم وما إلى ذلك، ما يجعل الشعر من أكثر الفنون قلقًا. وما نشهده اليوم هو التحول في مفهوم اللغة، وانتقالها من البلاغة الكلاسيكية إلى برق الإشارة، ومن مفهوم الوزن إلى متاهة الإيقاع؛ إذ يختلط النسق بالفوضى، والشعر بالنثر، والشاعر بالمتلقي، فنشأت مع التطور الإلكتروني قصائد الفيسبوك، والقصائد الفورية، ونص الموبايل، والنص الجماعي، والنص الرقمي التفاعلي، أو الهايبر تكست، وهي تجارب كثيرة على كل حال، تحاول اليوم أن تغير من مفهوم ارتباط القصيدة باللغة والوزن والإيقاع، وهو ارتباط تاريخي وثني أو ديني إلى حدود كبيرة، وتسعى لاعتبار الشعر رهن الإشارة الإلكترونية. يمكن القول في النهاية إنّ «العولمة» ـ رغم كل ما يقال عنها- نفضت الغبار عن كثير من «المسلّمات» الشِّعرية التي لم تعد قادرة على تقديم الإضافة، ولا أنْ تجاوز ذاتها، وفتحت أعين الشعراء على فضاءات أرحب يميّزها التنوع والإبهار في بناء النّصوص، ونقلت تجارب شعرية عالمية جراء الترجمة والتواصل الإلكتروني حتى إنْ لم تكن بالقدر الذي ينتظره أو يبحث عنه الشّعراء، لتوقيع حضور أكثر تأثيرا وأنقى تجربة.

• كاتب جزائري

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share