Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

عبدالقادر عثمان: طالبات مدرسة بالستية

الساعة الرابعة عصراً تكسو الغيوم صنعاء موصدة أمام أشعة الشمس كل السُبل المؤدية إلى أحضان المدينة، في هذه الأثناء يكون عملي داخل غرفة أخبار إحدى وكالات الأنباء المحلية قد بدأ، أسميتها غرفة أخبار محازًا، هي ربما تبدو لأي شخص مجرد مجلس لتبادل أطراف الحديث عن الحرب والسياسة والرياضة والاقتصاد وعن حياة المترفين الذين لسنا منهم، وحتى آخر قرارات ولي العهد السعودي الرامية إلى انفتاح شعب بلاد الحرمين.

يرن هاتفي مرات عديدة، أحاول ألا أجيب على الفتاة التي تشغلني كل يوم بالحديث عن اشتياقها وقليل من الهراء الذي لا أفهمه لكنني أدعي العكس من ذلك؛ أنا في نظرها صحفي ويجب أن أبدو بحدس وبديهة عالية. تحدثني كثيراً عن جمالها بغرور وفتنة شباب الحي بها وماركات ملابسها وعن طفلة جارها الوحيدة ذات السبع سنوات التي تزورها باستمرار وتحبها بشدة وأصبح ذلك الحب مزعجاً في نظري لكثرة حديثها عنه.

تعاود فاطمة الاتصال مرة أخرى. أرفض المكالمة؛ لدي عمل وعليّ ألا أزعج زملائي بالحديث مع فتاة أرى أنها غير طبيعية. أرسل لها لأخبرها أنني منشغل بأخبار الحرب وعندما يحين وقت فراغي سأتصل بها، لكنها ما لبثت أن عاودت الاتصال. أغلق الهاتف وأبدأ في تصفح الأخبار.

تقتضي توجيهات رئيس التحرير لي بالعمل على أخبار جرائم التحالف خاصة الإمارات في المحافظات الجنوبية، لكني أجد خبراً مطولاً في موقع صحفي شهير يتحدث عن “سقوط ضحايا من المدنيين جلهم طالبات مدرسة أساسية بقصف للتحالف على حي سكني في منطقة سعوان شمال شرق صنعاء”.
أقترح أن أصوغ تقريراً عن ردود الفعل في مواقع التواصل الاجتماعي حول الجريمة. أشرع في جمع المنشورات والتغريدات من تلك المواقع، فينقطع الإنترنت عن الوكالة في منتصف الطريق، لا يقتضي الأمر أن أسرد ردود فعل من طرف واحد، ولذا لم أستطع إكمال التقرير.

تمرّ ساعة على توقف العمل. أفتح كتاباً عن تاريخ الأديان، أقرأ فيه بضعة صفحات ثم يصيبني الملل، فيما يفتح زميلي في الزاوية الأخرى توشيحاً مزعجاً لم يرق لي صوت صاحبه. ألتفت إلى بقية الزملاء وأخبرهم أننا في جلسة تعكير مزاج، فيجيبني أحدهم “وجودنا هنا كفيل بذلك” ثم نضحك جميعاً.

لا أريد أن أعيد تشغيل هاتفي؛ تجنباً للإزعاج. أخشى أن يدرك بقية الزملاء أنني على علاقة مع فتاة مجنونة. هي ليست مجنونة لكنها قد تبدو لهم كذلك.
ثمة شيء ما بداخلي يدفعني إلى ذلك، يرغمني على الاستجابة لفضولي. الفضول تلك القوة الغريبة التي تقحمتي في الكثير من الأمور التي تعنيني والتي لا تعنيني. أفتح هاتفي وأهم بالرحيل، فقد قارب وقت الدوام على الانتهاء، وقبل أن أنهض من مجلسي أجد هاتفي مليئاً برسائل فاطمة، عتاب ورجاء وشتم وألفاظ لم أسمعها منها قبل ذلك.

تعاود الاتصال مرة أخيرة، فأجيبها. “عليك اللعنة” هذا ما قالته، وقبل أن أرد عليها تسترسل بهدوء: “أوصدت أبوابك في وجهي حينما احتجت إلى أن أبوح لك”. أجيبها أنني كل يوم أسمع بوحها السخيف حتى أكاد أحفظه جيداً.

نصمت لوهلة ثم أسألها عما حدث؟ وعن سر هذا الكم الهائل من الاتصالات؟ تخبرني بنبرة مذبوخة “علياء…”. أشعر بصدري يكاد ينطق، أقول لنفسي: “كم هي تلك الطفلة كريهة حتى دون أن أراها!”، لكني أدعي عادية الأمر، وأكمل: “ما بها علياء؟”.
تنفجر بالبكاء حتى أكاد أغلق الخط في وجهها؛ أنا لا أحب بكاء النساء لأن أمي كانت تبكي كثيراً على أي سبب تافه. أعيد السؤال مرة أخرى فتجيب “قتلوا علياء…”.

أتوقف عن المشي خارج فناء البناية التي تضم مكان عملي. أعيد السؤال ثالثة فتؤكد لي ما سمعته منها للتو، لا أدري أهو امتحان لمعرفة ما إذا كنت أحب هذه الطفلة من سواه أم أنها جادة فيما تقول، إن كانت مزحة فهي مزحة سيئة، وإن كان الأمر حقيقياً فلا أدرى هل أفرح لأني لن أسمعها تتحدث عنها مجدداً أم أحزن لأنها طفلة بريئة وفقدت حياتها التعيسة ككل إنسان في هذا الوطن البائس.

“من قتلها؟” أسأل وفي نفسي شك من الخبر، فتجيب بصوت مخنوق كأنها تتحدث تحت الماء “قصفت طائرة سعودية عند مدرستهم”. تتوقف الدنيا أمامي. لا أرى من حولي.. مر بجواري صاحب دراجة نارية وتباطأ متعمدًا علّي أطلب منه إيصالي إلى مكان معين لكني لم أكن حاضر الذهن حينها وكنت أفكر في المدرسة التي ذبح التحالف طالباتها قبل ساعات، تلك المدرسة التي شاهدت عنها أخباراً في وسائل إعلام موالية للتحالف تصف المكان بمخزن للصواريخ الحوثية!
كيف لخبر كهذا أن يجد من يحترمه! طالبات لم يتجاوزن المرحلة الأساسية من الدراسة يتحولن – إعلامياً – إلى صواريخ حوثية! يا لعهر تلك الوسائل!

لعل فاطمة نادتني كثيراً بينما لم أكن منتبه لذلك، أمشي حتى أصل غرفتي في الجهة المقابلة لجامعة صنعاء. أستلقي على ظهري. أشعر برغبة عميقة للنحيب.

تمرّ هنيهات أحملق قيها نخو سقف الغرفة قبل أن أفتح الإنترنت لأجد رسالة طويلة من فاطمة على الواتساب. أتصفحها وأقرأها بتمعن. ثم أبكي دون شعور بالوجود.

أخبرتني فاطمة عن علياء وروتينها اليومي الصباحي. أرسلت لي صورة شاحبة عن الطفلة. كان الجفاف يصبغ شفتيها ووجهها ناصع البياض، كيف للموت أن يقدر على كل هذه البراءة! يا الله إن كان يرضيك هذا فلا مانع لدينا!

كانت فاطمة حزينة، تبكي علياء التي تخرج كل يوم إليها قبل الذهاب إلى المدرسة لتعطيها مصروف اليوم وتتناول وجبة الإفطار معها قبل ذهاب فاطمة إلى الجامعة.
أسرة علياء فقيرة جداً ويكاد يخلوا منزلهم من كسرة خبز واحدة، لكنها اليوم ذهبت دون أن تأكل أي شيء، فلم تسمع فاطمة بصوتها حينما جاءت في الصباح. كانت مغرورقة في سباتها؛ فاليوم أول أيام إجازة الجامعة قبل الامتحانات. طرقت علياء الباب ونافذة الغرفة لكن أحداً لم يجبها فانسحبت بهدوء حاملة أمعاءها الخاوية وقليلاً من البؤس، وحسرة من تجاهل فاطمة غير المقصود، وجوعها الذي يقف أمامها كشبح ينتظر لحظته، وينتظرها الموت في المدرسة.

تتحسر فاطمة على صديقتها الصغيرة وأبكي أنا على فتاة أحببتها يوم فارقت الحياة. كم نحن سيئون حتى في لحظات الحب الصادقة؛ لا نحب أحداً إلا حين نفقده!

أريدها أن تعود حتى أراها. أذهب معها إلى المكتبة وأشتري لها حقيبة كتب جديدة وألوان وكل ما تشير إليه، أضمن لها وجبة إفطار من مقصف المدرسة على حسابي دون أن تحتاج إلى طرق نافذة فاطمة. ليتها تعود حتى أخبرها أنني سأسمع فاطمة عنها كل يوم، وأطلب منها أن تحكي لي عن صديقتنا الصغيرة. حتى أخبرها أنني أصبحت أحبها.

7 نيسان/ أبريل 2019

Share

التصنيفات: أقــلام

Share