Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

د. محمد السنفي: الإنسان كائن عميق

الإنسانُ كائنٌ شديد الغموض، فلو أنفقنا العمر كلّه باكتشاف الإنسان لم يضع عمرنا هدرًا. مشكلات الإنسان تعود للفشل في اكتشاف حقيقة الإنسان. إنّ اكتشاف الكائن البشري في غاية الصعوبة؛ ففي كلّ شخصٍ بسيطٍ عمقٌ لا نراه، وفي كلّ شخصٍ عميقٍ صوت طفلٍ لا نسمعه.
تختبئ في أعماق الأشخاص الّذين نعيش ونتعامل معهم كلّ يومٍ أشياء من أشخاصٍ لم نكتشفهم. كلّ شخصٍ نكتشفته، ما زالت لديه أبعادٌ غاطسةٌ لم نصل إليها، وربّما لن نصل إليها ما دمنا أحياء. نعم، يمكننا أن نتصيّد أحيانًا ما يكشف عن ما هو مضمرٌ لديهم، ممّا يؤشّر إليه ما يصدر عنهم، من: الهفوات، وفلتات اللسان، والنسيان، والرغبات المضادّة، والآراء المتهافتة، والمواقف المتناقضة.

الشخص البشري تجتمع في ذاته التناقضات. ليس هناك شخصيةٌ ساكنةٌ قارّةٌ كالصخرة، إلّا إن كانت من جنس الحجر لا البشر.كلّما اشتدّت حيويّة الذات وتدفّقها ومواهبها اشتدّت تناقضاتها. نعم، تبدو هكذا، أي أنّها تناقضاتٌ بحسب معايير العرف والتقاليد والأديان والأيديولوجيات، ولكن هل الإنسان إلّا تلاقي الأضداد؟ أليس ضعفنا جزءًا من متعة الحياة؟
هذه التناقضات يؤشّر إليها في الكائن البشري اجتماع: الضعف والقوّة، الكراهية والحبّ، القسوة والرحمة، وغير ذلك. لكنّنا لا نتنبه إلى أنّه لولا الفشل لم يكن هناك نجاحٌ، ولولا الضعف لم تكن هناك قوّةٌ، ولولا الكراهية لم تكن هناك محبّةٌ، لولا القسوة لم تكن هناك رحمةٌ… إلخ. كلّها يمكن أن نعثر عليها في منجم الذات البشرية.
في شخصية كلّ كائنٍ بشريّ بؤرةٌ مضيئةٌ أو أكثر، في الجسد أو العقل أو العاطفة أو السلوك، حتّى أسوأ البشر لديه على الأقلّ بؤرةٌ مختبئةٌ مضيئةٌ.

مشكلات الشخص البشري تعود للفشل في اكتشافه لذاته وسبر أغوار كينونته.كلّ من يفشل في ابتكار صورته، وتغريد لحنه الخاصّ، ورسم بصمته الفريدة، يخطف بصره كلّ ضوءٍ، فتتشكّل شخصيّته ظلًّا لغيره، ويقتبس على الدوام كلّ صوتٍ يُسكر سمعه.
يتوهّم الشخص البشري حين يعتقد أنّه يجد ذاته خارج ذاته، وهو لا يدري أنّه لن يجد ذاته إلّا في ذاته. وما أجمل تصوير أبي اليزيد البسطامي لنسيان الذات، وكيف غفل أبو يزيد أربعين عامًا عن ذاته، كما يبوح هو بذلك، حين سأله شخصٌ عمّن يكون هو، فأجاب: “ومن أبو يزيد؟ ومن يعرف أبا يزيد؟ أبو يزيد يطلب أبا يزيد منذ أربعين سنةً فما يجده!” .
إنّ اكتشاف العالم يبدأ باكتشاف الذات. وعي العالم يبدأ بوعي الذات. استبصار العالم يبدأ باستبصار الذات. الإحساس بظلام العالم يبدأ بالإحساس بظلام الذات. نقد العالم يبدأ بنقد الذات. الشجاعة في معرفة أسرار العالم تبدأ بالشجاعة في معرفة أسرار الذات.

تنوير العالم يبدأ بتنوير الذات. قبول العالم يبدأ بقبول الذات. الاعتراف بالعالم يبدأ بالاعتراف بالذات. التسامح مع العالم يبدأ بالتسامح مع الذات. احترام العالم يبدأ باحترام الذات. السلام مع العالم يبدأ بالسلام مع الذات.
من يفشل في اخماد حرائق ذاته يتعذر عليه اخماد حرائق العالم. تخليص العالم من أغلاله يبدأ بتخليص الذات من أغلالها. تحرير العالم من عبودياته يبدأ بتحرير الذات من عبودياتها. تغيير العالم يبدأ بتغيير الذات. تقدير العالم يبدأ بتقدير الذات. فهم تدبير العالم يبدأ بفهم تدبير الذات.

الشعور بآلام العالم يبدأ بالشعور بآلام الذات. التضامن مع العالم يبدأ بالتضامن مع الذات.
حبّ الله والإنسان والعالم يبدأ بحبّ الذات. نسيان الله في الذات نسيانٌ لله في العالم. غياب الله في الذات غيابٌ لله في العالم. حضور الله في الذات حضورٌ لله في العالم. من لا يلتقي الله في ذاته لا يلتقيه في العالم. من لا يرى الله في ذاته لا يراه في العالم. معرفةُ الله في الذات معرفةٌ لله في العالم. “من عرف نفسه فقد عرف ربّه” ، كما هو مرويٌّ عن النبيّ (ص). وذلك ما يصوّره قول النفري: “من سألك عنّي فسله عن نفسه، فإﻥ عرفها فعرّفني إليه، وإن لم يعرفها فلا تعرّفني إليه، فقد غلقت بابي دونه” .

هناك صوتٌ دفينٌ في باطن الذات، هو حوار الذات مع ذاتها، إنّه مونولوجٌ باطنيٌّ. يستفيق لهذا الصوت بعض الناس، فيجده يكرّر: أنا لست أنا، صورتي مرآة هويّتي، فائض هويّتي يصادر ذاتي، مثلما يصادر حرّيّتي. لا أسمع صوتي أبدًا، صوتي صدى قبيلتي وطائفتي. يفرض عليّ انتمائي لهويّتي ألّا أكون أنا، كي تتطابق صورتي مع ما تنشده هويّة جماعتي، لكنّي لو خلوت ونفسي فسرعان ما تباغتني ذاتي، فتتمزّق الأقنعة وكلّ ما طمس ذاتي، فأخفي شخصيتي، الّتي لا أكاد أراها إلّا حيث تكون ذاتي في مواجهة ذاتي.

الأب والأم والعائلة والجماعة، بل الكلّ، يريدون منك أن تكون شخصًا آخر، أن تكون نسخةً مكرّرةً عنهم. ستلبث على الدوام تصارع طبيعتك البشرية؛ بغية التنازل عن ذاتك، والاستجابة لهم. لكنّ ذاتك تظلّ تلحّ على فرديتك، ولا تكفّ عن التطلّع للاستقلال، والخلاص ممّا تفرضه عليك العائلة والطائفة والجماعة من سجونٍ.

ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎﺗﻨﺎ ﻻ ﻳﺪﻋﻚ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻚ أﻥ ﺗﺨﺘﺎﺭ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻋﻴﺸﻚ، ﻭﻻ ﻳﺤﺘﺮﻣﻮﻥ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺗﻚ. إﻧﻬﻢ ﻛﺎﻷﻭﺻﻴﺎﺀ ﻋﻠﻴﻚ، ﻻ ﻳﻘﺒﻠﻮﻧﻚ إﻻّ ﺣﻴﻦ ﺗﻜﺮﺭﻫﻢ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﺊ، لهذا ينبغي أن يتنبه الذين يدافعون عن الله أن الدفاع عنه إنما يبدأ بالدفاع عن كرامة الانسان، وصيانة حقوقه، وحماية حرياته .. لا يمر الطريق إلى الله إلاّ عبر احترام الانسان ورعايته وتكريمه.

Share

التصنيفات: أقــلام

Share