في تناوله لسرديات التاريخ اليمني الحديث والمعاصر والحركة الوطنية يؤكد الدكتور هشام السقاف رئيس قسم التاريخ بكلية التربية في عدن أن الإرادة الجبارة لليمنيين في كلا الشطرين والاحساس الجمعي بأهمية الثورة عكست واحدية الثورة اليمنية وأن هذه الإرادة مثلت قوة الدفع الحقيقية للدفاع عن الثورة والجمهورية الوليدة لسبتمبر في مراحلها الأولى أيضاٍ.. كما يتفق السقاف في هذا الحوار مع ذلك الطرح الذي يقول أن ثورة سبتمبر مثلت العمق الاستراتيجي الداعم لثورة أكتوبر وفي تتبعه للمدى الوطني الذي جرت فيه أعاصير الثورة اليمنية قبل قيامها يشير أيضاٍ إلى كيفية تطورها كثورة وطنية اجتماعياٍ وسياسياٍ وملامستها هموم وتطلعات كل أبناء الشعب اليمني..
وفي تفنيده للسياسة الامامية والبريطانية يرى أستاذ التاريخ أن السياسة الامامية لم تقدم أنموذجاٍ وطنياٍ جاذباٍ لليمنيين وبينما كان للإدارة البريطانية سياستها الخاصة كان للمواطنين اليمنيين إرادتهم على القتال وافشال المخططات التي تهدف إلى التفرقة بين اليمنيين وان المشاعر الجمعية لليمنيين ظلت خلال التشطير مفعمة بالروح الوحدوية.
وأخيراٍ كأستاذ تاريخ يتفق مع مقولة أن الشعر هو التاريخ وأنه ريادي ويكاد أن يكون الوجه الآخر للحقيقة كما يرى أن التاريخ بحاجة لكتابة واعية ومناخ ديمقراطي حقيقي لكتابته.. فإلى الحصيلة:
وفي تفنيده للسياسة الامامية والبريطانية يرى أستاذ التاريخ أن السياسة الامامية لم تقدم أنموذجاٍ وطنياٍ جاذباٍ لليمنيين وبينما كان للإدارة البريطانية سياستها الخاصة كان للمواطنين اليمنيين إرادتهم على القتال وافشال المخططات التي تهدف إلى التفرقة بين اليمنيين وان المشاعر الجمعية لليمنيين ظلت خلال التشطير مفعمة بالروح الوحدوية.
وأخيراٍ كأستاذ تاريخ يتفق مع مقولة أن الشعر هو التاريخ وأنه ريادي ويكاد أن يكون الوجه الآخر للحقيقة كما يرى أن التاريخ بحاجة لكتابة واعية ومناخ ديمقراطي حقيقي لكتابته.. فإلى الحصيلة:
حـــــاوره/عــــادل خاتم
> إذا تركنا سرديات القديم والوسيط في تاريخنا اليمني.. كيف تنظر كأستاذ تاريخ إلى وقائع التشكل التاريخي الحديث والمعاصر¿
>> سافترض أن هناك تداخلاٍ في الحديث والمعاصر يأتي بمقصد حسن النية أحياناٍ وللتقارب الذي يوحيه اللفظ »الحديث والمعاصر« فالحديث مقرون عند البعض بالكشوفات الجغرافية الكبرى وعند آخرين بالثورة الصناعية والتشكل القومي في أوروبا وربما هو عند البعض بموجة الاستعمار الغربي.. وفي هذه الحقبة لن نرى اليمن وخاصة في القرن الخامس عشر إلا ساحة مفتوحة لغزوات يحملها البحر سواء كانت برتغالية أو عثمانية وبعد فترة زمنية انجليزية وعثمانية مرة ثانية متزامناٍ ذلك مع فشل تجربة الدولة القاسمية الامامية الساعية إلى بسط نفوذها في غير مكان في اليمن..
أما التشكل التاريخي المعاصر فانني أراه يبدأ في غداة الحرب العالمية الأولى وظهور مملكة الامام يحيى المتوكلية عام ٨١٩١م في الشطر الشمالي من الوطن وبقاء الجنوب كمحميات وعدن تحت الإدارة البريطانية وكان بإمكان الإمام يحيى – رحمه الله – أن يبدأ عهداٍ جديداٍ وقد نالت مملكته استقلالاٍ مبكراٍ مقاربة بكثير من بلاد الدنيا لكن الامام فرض على المملكة الوليدة سياسة العزلة ولم تحدث ارهاصات حداثية كالتي شهدتها بلدان عربية أخرى مصر مثلاٍ في القرن التاسع عشر وهي تحت حكم أسرة محمد علي باشا غير العربية وغير المصرية لقد خيب الامام آمال اليمنيين وخاصة القادة الذين خاضوا النضال التحرري ضد الاتراك معه أو النخب المثقفة بالمقاييس اليمنية في تلك الفترة..
حراك ثقافي
> كيف وفرت ظروف الحرب العالمية الثانية ٩٣ – ٥٤٩١م وما بعدها مناخاٍ ملائماٍ لتنامي الشعور الوطني والقومي عند المواطنين اليمنيين بأهمية قيام الثورة اليمنية¿!
>> تنامى الشعور الوطني قبل الحرب العالمية الثانية ففي العشرينيات كانت عدن بحكم موقعها وانفتاحها على العالم تشهد حراكاٍ ثقافياٍ وأدبياٍ عبرت عنه الأندية الثقافية والأدبية التي ظهرت بتعبيرات بازرة لشخصيات مثل محمد علي لقمان الأمير العبدلي أحمد فضل القمندان الأستاذ عبده غانم والد الشاعر الكبير محمد عبده غانم عبدالمجيد الاصنج وآخرين ومع تزايد اهتمام الانجليز بعدن كقاعدة عسكرية وميناء لا يضاهى في الأهمية تزايد أيضاٍ حراكها الثقافي والاجتماعي وأصبحت قبلة لكثير من رواد النهضة العربية مثل أمين الريحاني وعبدالعزيز الثعالبي ناهيك عن علاقات القمندان بالغنيمي ولقمان بأرسلان… إلخ
في الشطر الشمالي من الوطن بدأ التململ من سياسات الامام بشكل جلي في الثلاثينيات خاصة بعد ترسيم الحدود مع المحميات برعاية انجليزية طبعاٍ عام ٤٣٩١م وللخسارة الفادحة التي نجمت عن الحرب مع المملكة العربية السعودية عام ٤٣٩١م.
في كتابات الأستاذ المناضل الكبير أحمد محمد نعمان وخاصة مذكراته ما يشير بوضوح إلى هذه الفترة وفي نهاية الثلاثينيات يجد مجموعة من المثقفين غايتهم في مجلة »الحكمة« التي أصدرها الشهيد الوريث عام ٩٣٩١م.
رسمت الحرب العالمية الثانية أفقاٍ مفتوحاٍ بعد دخول الاتحاد السوفيتي في المعادلة الدولية ومع تنامي مكانة عدن يجد أحرار الشمال »هكذا يسمون ولنا تحفظ على هذه التسمية« مكاناٍ آمناٍ نسبياٍ لبدء نشاطهم المعادي للامام مستفيدين من مناخات عدن وما وفرته وجاهات هذه المدينة لهؤلاء النازحين إليها من أجواء أفرزت تأسيس حزب الأحرار واصدار صحيفته وانتقاله إلى طور متقدم من النضال بعد اليأس الذي أصاب معظم »الأحرار« من عدم استجابة الامام لمطالبهم الاصلاحية فكانت ثورة ٨٤٩١م الدستورية التي يطول الحديث عنها أما عدن فقد شهدت في هذه الفترة ظهور الصحافة فيها ابتداء من ٠٤٩١م بصحيفة »فتاة الجزيرة« كأول صحيفة مهنية – بمعنى الصحيفة – في اليمن.
ومع اتساع دائرة التعليم وظهور منظمات المجتمع المدني واحراز بعض المطالب المتقدمة مثل انتخابات المجلس البلدي ظهرت الأحزاب السياسية والنقابات على قاعدة التطور الاقتصادي والاجتماعي والتأثر بمناخات الثورة والحركة القومية العربية بعد ٢٥٩١م.
> هل يمكن اعطاؤنا صورة مختصرة عن الكيفية التي جعلت عدن الحاضن الأمين للطلائع الوطنية المعارضة للإمام¿ والانتقال بحركة المعارضة من طور تقديم النصائح للامام إلى طور العمل التنظيمي¿
>> جزء من اجابتي على السؤال السابق فيه تفصيل عن الحياة الثقافية والاجتماعية في مدينة عدن واستفادة المعارضين للإمام من مناخات إدارية مدنية معينة في عدن من العمل التنظيمي الراقي – نوعاٍ ما – ضد الإمام باصدار الصحيفة »صوت اليمن« وتأسيس كيانهم السياسي حزب الأحرار والالتقاء بالمواطنين في المهجر وحث التجار على دعم حركتهم كان الدينامو المحرك لهذا العمل السياسي الأستاذ أحمد محمد نعمان وإلى جواره الشهيد الشاعر محمد محمود الزبيري كان الرجلان قد يئسا تماماٍ من انصياع الإمام لدعوات الإصلاح التي تجيء على هيئة قصائد للزبيري أو دعوات موجهة من النعمان خطباٍ ورسائل وفي الواقع أن هذا العمل المنظم قد أثمر فيما بعد ثورة ٨٤م الدستورية التي نصبت إماماٍ دستورياٍ أو هكذا أريد له أن يكون دون أن نشطح بالخيال لرسم رؤية وطنية شاملة للأحرار تستهدف الشمال والجنوب على السواء كما أن بصمات حركة الاخوان المسلمين على الحركة واضحة تماماٍ وأقصد المصرية بطبيعة الحال.
كانت الصحافة العدنية في قلب الحدث وربما لديها معرفة بمجريات الأمور وحتى ساعة الصفر وفي الوقت الذي استطاع الثائرون اغتيال الامام في حزيز تحرك أحمد محمد النعمان إلى صنعاء بعد أن تقاطر زملاؤه من قبل ولكن حلم الثورة لم يستمر وسقطت صنعاء بيد سيف الإسلام أحمد بعد أقل من شهر على قيامها..
نضج سياسي
> كيف ساهمت أفكار الثورة العربية المتصاعدة بعد انتصار ثورة يوليو ٢٥٩١م في تطور الحال السياسية وظهور الأحزاب القومية في اليمن التي وضعت في برامجها القضية الوطنية اليمنية ككل لا يتجزأ في الجنوب عنه في الشمال¿
>> كانت عدن تمثل النضج السياسي المتطلع إلى بلورة أفكار الثورة العربية خاصة ثورة يوليو ٢٥٩١م مستفيدين من المناخ السياسي المتاح فيها.. انتشار التعليم تنامي الطبقة العاملة ودور نقاباتها الدور الذي لعبته الصحافة العدنية ودور المثقفين والرواد في تهيئة الشارع لمعارضة السياسات البريطانية وكان حزب رابطة أبناء الجنوب أول حزب نخبوي يتأسس مطلع العام ١٥٩١م بعد تهيئة سابقة لاشهاره وهو الحزب الذي خرج من عباءته كثير من قادة العمل السياسي القومي واليساري وتجلت الأحزاب القومية في استلهام أفكار الثورة العربية القادمة من مصر وسوريا ولبنان لعبت خطب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وصوت العرب دوراٍ مؤثراٍ في اذكاء نار الثورة في صدور اليمنيين وانطلقت الأحزاب القومية والتنظيمات التابعة لها في رؤية واحدة لمجريات العمل الوطني في اليمن ككل انطلاقاٍ من عدن.
وربما لا يتذكر من يؤرخون لهذه الفترة دورة الحركة الطلابية اليمنية في مصر التي استطاعت قبل غيرها أن تتوحد تنظيميا بمعايير العمل النضالي والنقابي اليمني ومن أبرز رموزها الأستاذ عمر الجاوي وأبو بكر السقاف ومحمد عمر اسكندر »السقاف« وآخرون..
إرادة جبارة
> بقيام ثورة سبتمبر تجلت منذ البدء واحدية الإحساس الجمعي لليمنيين بأهمية هذه الثورة التي هزت سكون الجزيرة العربية من خلال ذلك الالتحام الوطني للدفاع عنها .. فكيف مثلت العمق الاستراتيجي الذي وفر إمكانية مقاومة الاستعمار بالسلاح واندلاع ثورة ٤١ أكتوبر بدعم مباشر من جمهورية مصر¿
>> واحدية الثورة اليمنية تبدأ من احساس أبناء الجنوب منذ اليوم التالي لثورة سبتمبر أهمية هذه الثورة في عدن بدأ المواطنون ينفرون إلى صنعاء عبر تعز للدفاع عن هذه الثورة لعبت الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والصحافة دوراٍ وطنياٍ عظيماٍ في الدفع بالمواطنين للانخراط في الدفاع عن الثورة ولم تكن هناك مغريات سوى مبلغ بسيط يعطى للأفراد يكاد لا يكفي لوصولهم إلى صنعاء لكن الإرادة كانت جبارة مثلت قوة الدفع الحقيقية لهؤلاء للذهاب إلى صنعاء.
وتقاطر أيضاٍ أبناء الضالع وردفان والصبيحة وتبن ويافع بفروعها وأبين ودثينة والمحفد وشبوة وحضرموت والمهرة للدفاع عن الثورة والجمهورية في المراحل المختلفة لهذه الثورة وظهرت الصورة ساطعة في الدفاع عن صنعاء ٧٦٩١م .
إلى فبراير ٨٦٩١م وأذكر وأنا طفل صغير عندما وصلنا إلى تعز نازحين بعد تسلم الجبهة القومية الحكم في عدن في ٣ نوفمبر ٧٦٩١م ونزوح جبهة التحرير والتنظيم الشعبي الذي كان الوالد – رحمه الله – ينتمي إليه أن النازحين من شباب التنظيم لم يلتقطوا أنفاسهم أو يقولوا اننا لاجئون ليس لنا فيما يجري في صنعاء من دخل وانما ذهبوا مباشرة لمحاولة فك الحصار عن صنعاء واستشهد الكثيرون منهم في نقيل يسلح مثل القائد هاشم عمر والقائد الهارش وسواهما.
وقد مثلت ثورة سبتمبر العمق الاستراتيجي الداعم لثورة الجنوب التي تفجرت في ٤١ من أكتوبر ٣٦٩١م وسجلت على مدى أربعة أعوام احدى أهم الثورات التحررية الكبرى في العالم إلى جانب الثورة الجزائرية والفيتنامية.
وكما كان للمصريين دور معمد بالدم في إسناد ثورة سبتمبر فإن للمصريين الدور الذي لا ينكره إلا جاحد في دعم ثورة الجنوب.
تداع جماهيري
> في قراءتنا التاريخية لثورة ٦٢ سبتمبر و ٤١ أكتوبر نجد أن الأولى انطلقت من داخل المدن بينما الثانية من الريف.. ما تحليلك التاريخي لهذين الفعلين¿
> استفادت ثورة سبتمبر وتنظيم الضباط الأحرار بقيادة البطل علي عبدالمْغني من تجربة الثورة المصرية حتى الأهداف وهذا ليس عيباٍ كما استفاد التنظيم من تجارب ثورتي ٨٤ و٥٥٩١م ومن التراكم التاريخي في تطور الأحداث الداخلية في اليمن وتصاعد المد الثوري التحرري العالمي وكان الجيش هو المؤسسة الوحيدة تقريباٍ في الشمال المؤهل لخوض تجربة نوعية بالاستفادة من السرية ورسم الخطوات باتقان وطبيعي أن يتم الأمر على هيئة حركة للجيش تطيح بالنظام الامامي القائم وتتطور كثورة وطنية اجتماعياٍ وسياسياٍ لتلامس كل هموم وتطلعات الشعب وهو ما تم في حركة التداعي الجماهيري للدفاع عن أول ثورة وجمهورية في الجزيرة العربية في القرن العشرين.
أما ثورة الجنوب فقد قامت من الريف وإن كانت إرهاصاتها قد بدأت في عدن بحركة المقاومين الذين ألقوا قنبلة المطار الشهيرة وكان للنقابات والأحزاب والطلاب والمرأة دور ثوري نضالي مشهود في عدن نفسها وحتى الفنانين كانوا قد واكبوا العمل التحريضي من خلال إقامة الحفلات الداعمة لثورة الجزائر ولصمود بور سعيد كما فعلت الرابطة بجهود الأديب الكبير عبدالله هادي سبيت وبأصوات محمد صالح حمدون وحسن عطا وأغاني شيخ الفنانين اليمنيين محمد مرشد ناجي فعدن لم تكن بمعزل وعندما تقرأ صحافة عدن في الخمسينيات والستينيات سوف تلاحظ المدى الوطني الذي جرت فيه أعاصير الثورة اليمنية قبل قيامها هنا وهناك.
ثم خاضت عدن بعد نضوج فكرة الثورة المسلحة في الريف من خلال جبهات القتال وانتقال العمل الفدائي إلى قلب أحيائها تجربة ثورية قل أن نجد لها نظيراٍ ولكنها لم تلق حتى الآن من يتقصى وقائعها الثورية تاريخياٍ بكتابات ناضجة تبتعد عن الأهواء الشخصية.
لكن لصنعاء ميزة أخرى تمثلت بمعارك المدن أثناء الحصار – حصار السبعين يوماٍ – وهي تجربة أبدع فيها الأستاذ عمر الجاوي الذي كان أحد قادة المقاومة الشعبية فيها صياغة ريبورتاجية من خلال كتابه الشهير »حصار صنعاء« وهي تجربة تعيد إلى أذهاننا تجربة المراسلين العسكريين فما بالنا وقد توفر لعمر الجاوي فرصة ليس مشاهدة الحدث فحسب وانما الاندماج فيه وضياغته أيضاٍ.
وقد أشاد الأستاذ والشاعر الكبير عبدالله البردوني بذلك الكتاب عندما زرته في موسكو – أثناء الدراسة – وقد جاء للعلاج فيها مع زوجته الكريمة أظن في منتصف الثمانينات وللأستاذ الشهيد جار الله عمر كتاب مماثل عن حصار صنعاء.
مخططات مشوبهة
> هل لكم أن تضعونا أمام الحقائق التاريخية والوطنية التي اكتسبها الاستقلال¿!.. وماذا عن الأساليب الفاشلة التي اتخذها المستعمر لتكريس الانفصال من خلال طرد الشماليين من وطنهم في الشطر الجنوبي¿! وكيف كان يقابلها الشارع اليمني آنذاك¿!
>> لا شك أن الاستقلال الوطني في ٠٣ نوفمبر ٧٦٩١م هو ثمرة نضال جماهير شعبنا طوال أربع سنوات من النضال الوطني التحرري في المدينة والريف ولا ينبغي الانتقاص من هذا الإنجاز الكبير كأن يقال عنه »يوم الجلاء« فالجلاء يكون سلمياٍ وبالتفاوض وبعيداٍ عن الثورة والنضال المسلح..
كان الاستقلال دعماٍ إضافياٍ لثورة سبتمبر التي كانت تواجه تحديات كثيرة في ٧٦ و ٨٦٩١م.
ومهما كان للاستعمار من مخططات مشبوهة في الجنوب والشمال فإن إرادة الثورة قد أنجزت هذا الاستقلال المعمد بالتضحيات من كل اليمنيين..
ولا نريد أن نخضع التاريخ لمشيئة الأماني واخضاع الأمس البعيد لرؤية اليوم كأن يتشارك كل الذين صنعوا الاستقلال في حكم البلاد التي استقلت والنأي عن ازاحة الآخر والاستفراد بالحكم فهذه أمور معقدة جرت على تلك الجريرة والصيرورة التي رأيناها وكان بالإمكان تجنب الكثير من الأخطاء.
روح وحدوية
> كيف مثل شعار الوحدة اليمنية من خطورة على الاستعمار البريطاني فخطط لتسويق هوية هلامية لا علاقة لها بالتاريخ والجغرافيا¿
>> ربما القضية أبعد وأعمق من أن تكون شعاراٍ يرفع كان للإدارة البريطانية سياستها الخاصة في عدن وكان للمواطنين إرادتهم القادرة على إفشال مخططات هذه الإدارة عندما استثنى أبناء الشمال أو غير المولودين في عدن من حق الدراسة في مدارس عدن الحكومية نشطت الفعاليات الوطنية في بناء المدارس الأهلية.
لماذا نلزم الاستعمار بشعار الوحدة اليمنية فقد سارت السياسة الاستعمارية باتجاه يخدم مصالحها وسعت إلى ترسيم الحدود بين الشطرين لكن السياسة الامامية لم تقدم أنموذجاٍ وطنياٍ جاذباٍ لليمنيين. ومن المؤسف أنه بعد الاستقلال صدر قانون الجنسية وكذلك نظر للجنوبيين النازحين وكأنهم مقيمون ولم يتم الدمج الحقيقي لهم لكن المشاعر الجمعية لليمنيين في الشمال والجنوب ظلت في ظل التشطير مفعمة بتلك الروح الوحدوية وإلا لماذا يستشهد أبناء الجنوب في نقيل يسلح والحيمتين وبني مطر إلخ ويستشهد أبناء الشمال في شوارع عدن¿
جيل حقيقي
> ماذا عن النضال البطولي للحركة العمالية ضد الانجليز¿
>> لا شك أن بناء مصفاة النفط في البريقة بعدن مطلع الخمسينيات كان البداية لجيل حقيقي من العمل بالمفهوم المتعارف عليه ومع اتساع وتيرة العمل في المصفاة والخدمات الأخرى وازدياد أعداد العمال ونضوج العمل السياسي في عدن في الخمسينيات في ظل الصحافة الحرة والتأثيرات التي تهب على المنطقة من غير مكان في الوطن العربي والعالم تصبح الطبقة العاملة ونقاباتها احدى دعائم العمل الوطني في عدن وقد كتبت رسائل علمية وكتب كثيرة عن النقابات في عدن لكن الحقيقة يجب أن يعلنها المرء بوضوح أن هذه النقابات استطاعت أن تكون احدى مكونات العمل السياسي الذي قض مضجع الإدارة البريطانية في عدن.
وينبغي أن يكون للنقابات دور وطني رائد بعيداٍ عن وصاية الدولة أي دولة إذا أردنا أن نتحدث عن مجتمعات حرة وديمقراطية لكن للأسف عندما تصبح الدولة الوطنية التي تحررت من الاستعمار – مثلاٍ – وكانت واحدة من دعامات نضالات الشعب هي النقابات – تصبح هذه الدولة وصية على النقابات وسواها من التعبيرات العصرية من منظومة المجتمع المدني ومن ثم تفقد هذه أو تلك دورها الحقيقي وتصبح تابعاٍ باهتاٍ في منظومة مسخة..
محطات تاريخية
> من خلال التتبع لصيرورة التاريخ الحديث.. ألا ترى أن واحدية اليمن مثلت أهم عناصر الثورة الشاملة¿! وأن ما أنشطه سياسياٍ لم ينشطه اجتماعياٍ وثورياٍ¿!
>> مسألة التشطير التي مرت بها اليمن مسألة معقدة وقديمة لكننا نتحدث عن وجدان الشعب الذي ظل يؤمن ويحلم بهذه الوحدة ولا يضير هذا النسيج النفسي الغائر في الضمير الجمعي للشعب أن يخوض شطر أو جماعة حركة تحررية أو انتفاضة في جزء من الوطن المشطور لأن الحقائق الاجتماعية والأولويات تكون أول ما تكون في الخصائص المحلية ثم تتطور فعندما قامت ثورة سبتمبر في الشمال وأكتوبر في الجنوب والتلاحم الذي بينهما كما أوردناه آنفاٍ محطات تاريخية على طريق الوحدة نعم تأخر هذا المولود ثلاثة عقود تقريباٍ من قيام الثورة لكن هذا التأخير مرهون بأوضاع داخلية وخارجية معقدة هناك.. مثل روسي يقول: أن تأتي متأخراٍ خير من أن لا تأتي..
وقد أشرت إلى أن الأحاسيس الوطنية تجاه الوحدة اليمنية وتجاه بعضناٍ بعضاٍٍ في ظل التشطير كانت أعلى وتيرة وفعلاٍ في النفس بشكل إيجابي.
ما زلنا نطمح
> يقال أن الثورة بالمفهوم تتبنى بديلاٍ مغايراٍ كليا عن القائم المرفوض.. إلى أي مدى حققت الثورة اليمنية سبتمبر – أكتوبر هذا الهدف¿!
>> سيدي أنا من مواليد هذه الثورة وأدين لها بأشياء كثيرة لكنني أصدقك القول أن مشروع الدولة الحديثة المتطورة اللائقة بشعب عظيم مثل شعبنا وأرض معطاءة واسعة ومتنوعة مثل أرضنا لم نزل نطمح إليه ونسعى فهناك دول أقل في المستوى الاقتصادي وغير الاقتصادي من دولتنا لكنها حققت للإنسان أفضل مما حققناه فانظر مثلاٍ بعد نصف قرن ماذا حققنا من خلال الأرقام وليس من وحي المزايدة والمكايدة كثير تحقق ولكنه دون الطموح أنظر إلى نسبة 42٪ من الذين يتقاضون دولارين من أبناء هذا الشعب نسبة الأمية والأمية الثقافية الاصلاح الاقتصادي والمالي الذي يترنح الأوضاع العامة وهي مسائل ملحة يجب أن نتشارك في مواجهتها جميعاٍ بمشروع دولة عصرية متطورة مؤمنة بالديمقراطية قولاٍ وفعلاٍ..
كتابة واعية
> يقال أن الشعر أصدق من التاريخ¿! فهل أنت مع هذه المقولة.. وإلى أي مدى كأستاذ تاريخ تتفق مع من يقول أن الشعر هو التاريخ الحقيقي حتى للتاريخ نفسه¿!
>> التاريخ بحاجة لكتابة واعية مناخ ديمقراطي حقيقي لكتابته ولذلك يتعذر علينا حتى الآن وبالرغم من محاولات بعض الهيئات والمؤسسات أن تقول الحقيقة كل الحقيقة عن التاريخ ومجرياته لا زالت النظرة تعبر عن نظرة الماسك بزمام الأمور أو المنتصر أو من بيده المؤسسات والدولة.
ولكننا الآن بحاجة على الأقل لتوثيق الحقائق من أفواه الذين ساهموا أو شاركوا في هذا الحدث أو ذاك أو من سمعوا أو من يمتلكون بعض الأدلة والوثائق وفي حين آخر يستطيع جيل آخر محايد في ظروف مواتية يسودها الأمان والحرية أن يكتب بمنهجية هذا التاريخ..
أما الشعر فإنه ريادي ويكاد أن يكون وجه الحقيقة الآخر الملفع بعواطف ومشاعر قائله وأنت سيدي تنظر إلى فترة ما قبل الإسلام »الجاهلية كما تسمى« من أفواه الشعراء بل من فوائض العاطفة المتفجرة من قبل أن يؤرخ المؤرخون لتلك المرحلة.
وقصائد الزبيري والبردوني ولطفي جعفر أمان والقمندان والجرادة والفضول سجلات تاريخية تنبئ المرء بما كانوا عليه وأحياناٍ يفتحون ثغرة في جدار المخبوء نقرأ من خلاله المستقبل..
>> سافترض أن هناك تداخلاٍ في الحديث والمعاصر يأتي بمقصد حسن النية أحياناٍ وللتقارب الذي يوحيه اللفظ »الحديث والمعاصر« فالحديث مقرون عند البعض بالكشوفات الجغرافية الكبرى وعند آخرين بالثورة الصناعية والتشكل القومي في أوروبا وربما هو عند البعض بموجة الاستعمار الغربي.. وفي هذه الحقبة لن نرى اليمن وخاصة في القرن الخامس عشر إلا ساحة مفتوحة لغزوات يحملها البحر سواء كانت برتغالية أو عثمانية وبعد فترة زمنية انجليزية وعثمانية مرة ثانية متزامناٍ ذلك مع فشل تجربة الدولة القاسمية الامامية الساعية إلى بسط نفوذها في غير مكان في اليمن..
أما التشكل التاريخي المعاصر فانني أراه يبدأ في غداة الحرب العالمية الأولى وظهور مملكة الامام يحيى المتوكلية عام ٨١٩١م في الشطر الشمالي من الوطن وبقاء الجنوب كمحميات وعدن تحت الإدارة البريطانية وكان بإمكان الإمام يحيى – رحمه الله – أن يبدأ عهداٍ جديداٍ وقد نالت مملكته استقلالاٍ مبكراٍ مقاربة بكثير من بلاد الدنيا لكن الامام فرض على المملكة الوليدة سياسة العزلة ولم تحدث ارهاصات حداثية كالتي شهدتها بلدان عربية أخرى مصر مثلاٍ في القرن التاسع عشر وهي تحت حكم أسرة محمد علي باشا غير العربية وغير المصرية لقد خيب الامام آمال اليمنيين وخاصة القادة الذين خاضوا النضال التحرري ضد الاتراك معه أو النخب المثقفة بالمقاييس اليمنية في تلك الفترة..
حراك ثقافي
> كيف وفرت ظروف الحرب العالمية الثانية ٩٣ – ٥٤٩١م وما بعدها مناخاٍ ملائماٍ لتنامي الشعور الوطني والقومي عند المواطنين اليمنيين بأهمية قيام الثورة اليمنية¿!
>> تنامى الشعور الوطني قبل الحرب العالمية الثانية ففي العشرينيات كانت عدن بحكم موقعها وانفتاحها على العالم تشهد حراكاٍ ثقافياٍ وأدبياٍ عبرت عنه الأندية الثقافية والأدبية التي ظهرت بتعبيرات بازرة لشخصيات مثل محمد علي لقمان الأمير العبدلي أحمد فضل القمندان الأستاذ عبده غانم والد الشاعر الكبير محمد عبده غانم عبدالمجيد الاصنج وآخرين ومع تزايد اهتمام الانجليز بعدن كقاعدة عسكرية وميناء لا يضاهى في الأهمية تزايد أيضاٍ حراكها الثقافي والاجتماعي وأصبحت قبلة لكثير من رواد النهضة العربية مثل أمين الريحاني وعبدالعزيز الثعالبي ناهيك عن علاقات القمندان بالغنيمي ولقمان بأرسلان… إلخ
في الشطر الشمالي من الوطن بدأ التململ من سياسات الامام بشكل جلي في الثلاثينيات خاصة بعد ترسيم الحدود مع المحميات برعاية انجليزية طبعاٍ عام ٤٣٩١م وللخسارة الفادحة التي نجمت عن الحرب مع المملكة العربية السعودية عام ٤٣٩١م.
في كتابات الأستاذ المناضل الكبير أحمد محمد نعمان وخاصة مذكراته ما يشير بوضوح إلى هذه الفترة وفي نهاية الثلاثينيات يجد مجموعة من المثقفين غايتهم في مجلة »الحكمة« التي أصدرها الشهيد الوريث عام ٩٣٩١م.
رسمت الحرب العالمية الثانية أفقاٍ مفتوحاٍ بعد دخول الاتحاد السوفيتي في المعادلة الدولية ومع تنامي مكانة عدن يجد أحرار الشمال »هكذا يسمون ولنا تحفظ على هذه التسمية« مكاناٍ آمناٍ نسبياٍ لبدء نشاطهم المعادي للامام مستفيدين من مناخات عدن وما وفرته وجاهات هذه المدينة لهؤلاء النازحين إليها من أجواء أفرزت تأسيس حزب الأحرار واصدار صحيفته وانتقاله إلى طور متقدم من النضال بعد اليأس الذي أصاب معظم »الأحرار« من عدم استجابة الامام لمطالبهم الاصلاحية فكانت ثورة ٨٤٩١م الدستورية التي يطول الحديث عنها أما عدن فقد شهدت في هذه الفترة ظهور الصحافة فيها ابتداء من ٠٤٩١م بصحيفة »فتاة الجزيرة« كأول صحيفة مهنية – بمعنى الصحيفة – في اليمن.
ومع اتساع دائرة التعليم وظهور منظمات المجتمع المدني واحراز بعض المطالب المتقدمة مثل انتخابات المجلس البلدي ظهرت الأحزاب السياسية والنقابات على قاعدة التطور الاقتصادي والاجتماعي والتأثر بمناخات الثورة والحركة القومية العربية بعد ٢٥٩١م.
> هل يمكن اعطاؤنا صورة مختصرة عن الكيفية التي جعلت عدن الحاضن الأمين للطلائع الوطنية المعارضة للإمام¿ والانتقال بحركة المعارضة من طور تقديم النصائح للامام إلى طور العمل التنظيمي¿
>> جزء من اجابتي على السؤال السابق فيه تفصيل عن الحياة الثقافية والاجتماعية في مدينة عدن واستفادة المعارضين للإمام من مناخات إدارية مدنية معينة في عدن من العمل التنظيمي الراقي – نوعاٍ ما – ضد الإمام باصدار الصحيفة »صوت اليمن« وتأسيس كيانهم السياسي حزب الأحرار والالتقاء بالمواطنين في المهجر وحث التجار على دعم حركتهم كان الدينامو المحرك لهذا العمل السياسي الأستاذ أحمد محمد نعمان وإلى جواره الشهيد الشاعر محمد محمود الزبيري كان الرجلان قد يئسا تماماٍ من انصياع الإمام لدعوات الإصلاح التي تجيء على هيئة قصائد للزبيري أو دعوات موجهة من النعمان خطباٍ ورسائل وفي الواقع أن هذا العمل المنظم قد أثمر فيما بعد ثورة ٨٤م الدستورية التي نصبت إماماٍ دستورياٍ أو هكذا أريد له أن يكون دون أن نشطح بالخيال لرسم رؤية وطنية شاملة للأحرار تستهدف الشمال والجنوب على السواء كما أن بصمات حركة الاخوان المسلمين على الحركة واضحة تماماٍ وأقصد المصرية بطبيعة الحال.
كانت الصحافة العدنية في قلب الحدث وربما لديها معرفة بمجريات الأمور وحتى ساعة الصفر وفي الوقت الذي استطاع الثائرون اغتيال الامام في حزيز تحرك أحمد محمد النعمان إلى صنعاء بعد أن تقاطر زملاؤه من قبل ولكن حلم الثورة لم يستمر وسقطت صنعاء بيد سيف الإسلام أحمد بعد أقل من شهر على قيامها..
نضج سياسي
> كيف ساهمت أفكار الثورة العربية المتصاعدة بعد انتصار ثورة يوليو ٢٥٩١م في تطور الحال السياسية وظهور الأحزاب القومية في اليمن التي وضعت في برامجها القضية الوطنية اليمنية ككل لا يتجزأ في الجنوب عنه في الشمال¿
>> كانت عدن تمثل النضج السياسي المتطلع إلى بلورة أفكار الثورة العربية خاصة ثورة يوليو ٢٥٩١م مستفيدين من المناخ السياسي المتاح فيها.. انتشار التعليم تنامي الطبقة العاملة ودور نقاباتها الدور الذي لعبته الصحافة العدنية ودور المثقفين والرواد في تهيئة الشارع لمعارضة السياسات البريطانية وكان حزب رابطة أبناء الجنوب أول حزب نخبوي يتأسس مطلع العام ١٥٩١م بعد تهيئة سابقة لاشهاره وهو الحزب الذي خرج من عباءته كثير من قادة العمل السياسي القومي واليساري وتجلت الأحزاب القومية في استلهام أفكار الثورة العربية القادمة من مصر وسوريا ولبنان لعبت خطب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وصوت العرب دوراٍ مؤثراٍ في اذكاء نار الثورة في صدور اليمنيين وانطلقت الأحزاب القومية والتنظيمات التابعة لها في رؤية واحدة لمجريات العمل الوطني في اليمن ككل انطلاقاٍ من عدن.
وربما لا يتذكر من يؤرخون لهذه الفترة دورة الحركة الطلابية اليمنية في مصر التي استطاعت قبل غيرها أن تتوحد تنظيميا بمعايير العمل النضالي والنقابي اليمني ومن أبرز رموزها الأستاذ عمر الجاوي وأبو بكر السقاف ومحمد عمر اسكندر »السقاف« وآخرون..
إرادة جبارة
> بقيام ثورة سبتمبر تجلت منذ البدء واحدية الإحساس الجمعي لليمنيين بأهمية هذه الثورة التي هزت سكون الجزيرة العربية من خلال ذلك الالتحام الوطني للدفاع عنها .. فكيف مثلت العمق الاستراتيجي الذي وفر إمكانية مقاومة الاستعمار بالسلاح واندلاع ثورة ٤١ أكتوبر بدعم مباشر من جمهورية مصر¿
>> واحدية الثورة اليمنية تبدأ من احساس أبناء الجنوب منذ اليوم التالي لثورة سبتمبر أهمية هذه الثورة في عدن بدأ المواطنون ينفرون إلى صنعاء عبر تعز للدفاع عن هذه الثورة لعبت الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والصحافة دوراٍ وطنياٍ عظيماٍ في الدفع بالمواطنين للانخراط في الدفاع عن الثورة ولم تكن هناك مغريات سوى مبلغ بسيط يعطى للأفراد يكاد لا يكفي لوصولهم إلى صنعاء لكن الإرادة كانت جبارة مثلت قوة الدفع الحقيقية لهؤلاء للذهاب إلى صنعاء.
وتقاطر أيضاٍ أبناء الضالع وردفان والصبيحة وتبن ويافع بفروعها وأبين ودثينة والمحفد وشبوة وحضرموت والمهرة للدفاع عن الثورة والجمهورية في المراحل المختلفة لهذه الثورة وظهرت الصورة ساطعة في الدفاع عن صنعاء ٧٦٩١م .
إلى فبراير ٨٦٩١م وأذكر وأنا طفل صغير عندما وصلنا إلى تعز نازحين بعد تسلم الجبهة القومية الحكم في عدن في ٣ نوفمبر ٧٦٩١م ونزوح جبهة التحرير والتنظيم الشعبي الذي كان الوالد – رحمه الله – ينتمي إليه أن النازحين من شباب التنظيم لم يلتقطوا أنفاسهم أو يقولوا اننا لاجئون ليس لنا فيما يجري في صنعاء من دخل وانما ذهبوا مباشرة لمحاولة فك الحصار عن صنعاء واستشهد الكثيرون منهم في نقيل يسلح مثل القائد هاشم عمر والقائد الهارش وسواهما.
وقد مثلت ثورة سبتمبر العمق الاستراتيجي الداعم لثورة الجنوب التي تفجرت في ٤١ من أكتوبر ٣٦٩١م وسجلت على مدى أربعة أعوام احدى أهم الثورات التحررية الكبرى في العالم إلى جانب الثورة الجزائرية والفيتنامية.
وكما كان للمصريين دور معمد بالدم في إسناد ثورة سبتمبر فإن للمصريين الدور الذي لا ينكره إلا جاحد في دعم ثورة الجنوب.
تداع جماهيري
> في قراءتنا التاريخية لثورة ٦٢ سبتمبر و ٤١ أكتوبر نجد أن الأولى انطلقت من داخل المدن بينما الثانية من الريف.. ما تحليلك التاريخي لهذين الفعلين¿
> استفادت ثورة سبتمبر وتنظيم الضباط الأحرار بقيادة البطل علي عبدالمْغني من تجربة الثورة المصرية حتى الأهداف وهذا ليس عيباٍ كما استفاد التنظيم من تجارب ثورتي ٨٤ و٥٥٩١م ومن التراكم التاريخي في تطور الأحداث الداخلية في اليمن وتصاعد المد الثوري التحرري العالمي وكان الجيش هو المؤسسة الوحيدة تقريباٍ في الشمال المؤهل لخوض تجربة نوعية بالاستفادة من السرية ورسم الخطوات باتقان وطبيعي أن يتم الأمر على هيئة حركة للجيش تطيح بالنظام الامامي القائم وتتطور كثورة وطنية اجتماعياٍ وسياسياٍ لتلامس كل هموم وتطلعات الشعب وهو ما تم في حركة التداعي الجماهيري للدفاع عن أول ثورة وجمهورية في الجزيرة العربية في القرن العشرين.
أما ثورة الجنوب فقد قامت من الريف وإن كانت إرهاصاتها قد بدأت في عدن بحركة المقاومين الذين ألقوا قنبلة المطار الشهيرة وكان للنقابات والأحزاب والطلاب والمرأة دور ثوري نضالي مشهود في عدن نفسها وحتى الفنانين كانوا قد واكبوا العمل التحريضي من خلال إقامة الحفلات الداعمة لثورة الجزائر ولصمود بور سعيد كما فعلت الرابطة بجهود الأديب الكبير عبدالله هادي سبيت وبأصوات محمد صالح حمدون وحسن عطا وأغاني شيخ الفنانين اليمنيين محمد مرشد ناجي فعدن لم تكن بمعزل وعندما تقرأ صحافة عدن في الخمسينيات والستينيات سوف تلاحظ المدى الوطني الذي جرت فيه أعاصير الثورة اليمنية قبل قيامها هنا وهناك.
ثم خاضت عدن بعد نضوج فكرة الثورة المسلحة في الريف من خلال جبهات القتال وانتقال العمل الفدائي إلى قلب أحيائها تجربة ثورية قل أن نجد لها نظيراٍ ولكنها لم تلق حتى الآن من يتقصى وقائعها الثورية تاريخياٍ بكتابات ناضجة تبتعد عن الأهواء الشخصية.
لكن لصنعاء ميزة أخرى تمثلت بمعارك المدن أثناء الحصار – حصار السبعين يوماٍ – وهي تجربة أبدع فيها الأستاذ عمر الجاوي الذي كان أحد قادة المقاومة الشعبية فيها صياغة ريبورتاجية من خلال كتابه الشهير »حصار صنعاء« وهي تجربة تعيد إلى أذهاننا تجربة المراسلين العسكريين فما بالنا وقد توفر لعمر الجاوي فرصة ليس مشاهدة الحدث فحسب وانما الاندماج فيه وضياغته أيضاٍ.
وقد أشاد الأستاذ والشاعر الكبير عبدالله البردوني بذلك الكتاب عندما زرته في موسكو – أثناء الدراسة – وقد جاء للعلاج فيها مع زوجته الكريمة أظن في منتصف الثمانينات وللأستاذ الشهيد جار الله عمر كتاب مماثل عن حصار صنعاء.
مخططات مشوبهة
> هل لكم أن تضعونا أمام الحقائق التاريخية والوطنية التي اكتسبها الاستقلال¿!.. وماذا عن الأساليب الفاشلة التي اتخذها المستعمر لتكريس الانفصال من خلال طرد الشماليين من وطنهم في الشطر الجنوبي¿! وكيف كان يقابلها الشارع اليمني آنذاك¿!
>> لا شك أن الاستقلال الوطني في ٠٣ نوفمبر ٧٦٩١م هو ثمرة نضال جماهير شعبنا طوال أربع سنوات من النضال الوطني التحرري في المدينة والريف ولا ينبغي الانتقاص من هذا الإنجاز الكبير كأن يقال عنه »يوم الجلاء« فالجلاء يكون سلمياٍ وبالتفاوض وبعيداٍ عن الثورة والنضال المسلح..
كان الاستقلال دعماٍ إضافياٍ لثورة سبتمبر التي كانت تواجه تحديات كثيرة في ٧٦ و ٨٦٩١م.
ومهما كان للاستعمار من مخططات مشبوهة في الجنوب والشمال فإن إرادة الثورة قد أنجزت هذا الاستقلال المعمد بالتضحيات من كل اليمنيين..
ولا نريد أن نخضع التاريخ لمشيئة الأماني واخضاع الأمس البعيد لرؤية اليوم كأن يتشارك كل الذين صنعوا الاستقلال في حكم البلاد التي استقلت والنأي عن ازاحة الآخر والاستفراد بالحكم فهذه أمور معقدة جرت على تلك الجريرة والصيرورة التي رأيناها وكان بالإمكان تجنب الكثير من الأخطاء.
روح وحدوية
> كيف مثل شعار الوحدة اليمنية من خطورة على الاستعمار البريطاني فخطط لتسويق هوية هلامية لا علاقة لها بالتاريخ والجغرافيا¿
>> ربما القضية أبعد وأعمق من أن تكون شعاراٍ يرفع كان للإدارة البريطانية سياستها الخاصة في عدن وكان للمواطنين إرادتهم القادرة على إفشال مخططات هذه الإدارة عندما استثنى أبناء الشمال أو غير المولودين في عدن من حق الدراسة في مدارس عدن الحكومية نشطت الفعاليات الوطنية في بناء المدارس الأهلية.
لماذا نلزم الاستعمار بشعار الوحدة اليمنية فقد سارت السياسة الاستعمارية باتجاه يخدم مصالحها وسعت إلى ترسيم الحدود بين الشطرين لكن السياسة الامامية لم تقدم أنموذجاٍ وطنياٍ جاذباٍ لليمنيين. ومن المؤسف أنه بعد الاستقلال صدر قانون الجنسية وكذلك نظر للجنوبيين النازحين وكأنهم مقيمون ولم يتم الدمج الحقيقي لهم لكن المشاعر الجمعية لليمنيين في الشمال والجنوب ظلت في ظل التشطير مفعمة بتلك الروح الوحدوية وإلا لماذا يستشهد أبناء الجنوب في نقيل يسلح والحيمتين وبني مطر إلخ ويستشهد أبناء الشمال في شوارع عدن¿
جيل حقيقي
> ماذا عن النضال البطولي للحركة العمالية ضد الانجليز¿
>> لا شك أن بناء مصفاة النفط في البريقة بعدن مطلع الخمسينيات كان البداية لجيل حقيقي من العمل بالمفهوم المتعارف عليه ومع اتساع وتيرة العمل في المصفاة والخدمات الأخرى وازدياد أعداد العمال ونضوج العمل السياسي في عدن في الخمسينيات في ظل الصحافة الحرة والتأثيرات التي تهب على المنطقة من غير مكان في الوطن العربي والعالم تصبح الطبقة العاملة ونقاباتها احدى دعائم العمل الوطني في عدن وقد كتبت رسائل علمية وكتب كثيرة عن النقابات في عدن لكن الحقيقة يجب أن يعلنها المرء بوضوح أن هذه النقابات استطاعت أن تكون احدى مكونات العمل السياسي الذي قض مضجع الإدارة البريطانية في عدن.
وينبغي أن يكون للنقابات دور وطني رائد بعيداٍ عن وصاية الدولة أي دولة إذا أردنا أن نتحدث عن مجتمعات حرة وديمقراطية لكن للأسف عندما تصبح الدولة الوطنية التي تحررت من الاستعمار – مثلاٍ – وكانت واحدة من دعامات نضالات الشعب هي النقابات – تصبح هذه الدولة وصية على النقابات وسواها من التعبيرات العصرية من منظومة المجتمع المدني ومن ثم تفقد هذه أو تلك دورها الحقيقي وتصبح تابعاٍ باهتاٍ في منظومة مسخة..
محطات تاريخية
> من خلال التتبع لصيرورة التاريخ الحديث.. ألا ترى أن واحدية اليمن مثلت أهم عناصر الثورة الشاملة¿! وأن ما أنشطه سياسياٍ لم ينشطه اجتماعياٍ وثورياٍ¿!
>> مسألة التشطير التي مرت بها اليمن مسألة معقدة وقديمة لكننا نتحدث عن وجدان الشعب الذي ظل يؤمن ويحلم بهذه الوحدة ولا يضير هذا النسيج النفسي الغائر في الضمير الجمعي للشعب أن يخوض شطر أو جماعة حركة تحررية أو انتفاضة في جزء من الوطن المشطور لأن الحقائق الاجتماعية والأولويات تكون أول ما تكون في الخصائص المحلية ثم تتطور فعندما قامت ثورة سبتمبر في الشمال وأكتوبر في الجنوب والتلاحم الذي بينهما كما أوردناه آنفاٍ محطات تاريخية على طريق الوحدة نعم تأخر هذا المولود ثلاثة عقود تقريباٍ من قيام الثورة لكن هذا التأخير مرهون بأوضاع داخلية وخارجية معقدة هناك.. مثل روسي يقول: أن تأتي متأخراٍ خير من أن لا تأتي..
وقد أشرت إلى أن الأحاسيس الوطنية تجاه الوحدة اليمنية وتجاه بعضناٍ بعضاٍٍ في ظل التشطير كانت أعلى وتيرة وفعلاٍ في النفس بشكل إيجابي.
ما زلنا نطمح
> يقال أن الثورة بالمفهوم تتبنى بديلاٍ مغايراٍ كليا عن القائم المرفوض.. إلى أي مدى حققت الثورة اليمنية سبتمبر – أكتوبر هذا الهدف¿!
>> سيدي أنا من مواليد هذه الثورة وأدين لها بأشياء كثيرة لكنني أصدقك القول أن مشروع الدولة الحديثة المتطورة اللائقة بشعب عظيم مثل شعبنا وأرض معطاءة واسعة ومتنوعة مثل أرضنا لم نزل نطمح إليه ونسعى فهناك دول أقل في المستوى الاقتصادي وغير الاقتصادي من دولتنا لكنها حققت للإنسان أفضل مما حققناه فانظر مثلاٍ بعد نصف قرن ماذا حققنا من خلال الأرقام وليس من وحي المزايدة والمكايدة كثير تحقق ولكنه دون الطموح أنظر إلى نسبة 42٪ من الذين يتقاضون دولارين من أبناء هذا الشعب نسبة الأمية والأمية الثقافية الاصلاح الاقتصادي والمالي الذي يترنح الأوضاع العامة وهي مسائل ملحة يجب أن نتشارك في مواجهتها جميعاٍ بمشروع دولة عصرية متطورة مؤمنة بالديمقراطية قولاٍ وفعلاٍ..
كتابة واعية
> يقال أن الشعر أصدق من التاريخ¿! فهل أنت مع هذه المقولة.. وإلى أي مدى كأستاذ تاريخ تتفق مع من يقول أن الشعر هو التاريخ الحقيقي حتى للتاريخ نفسه¿!
>> التاريخ بحاجة لكتابة واعية مناخ ديمقراطي حقيقي لكتابته ولذلك يتعذر علينا حتى الآن وبالرغم من محاولات بعض الهيئات والمؤسسات أن تقول الحقيقة كل الحقيقة عن التاريخ ومجرياته لا زالت النظرة تعبر عن نظرة الماسك بزمام الأمور أو المنتصر أو من بيده المؤسسات والدولة.
ولكننا الآن بحاجة على الأقل لتوثيق الحقائق من أفواه الذين ساهموا أو شاركوا في هذا الحدث أو ذاك أو من سمعوا أو من يمتلكون بعض الأدلة والوثائق وفي حين آخر يستطيع جيل آخر محايد في ظروف مواتية يسودها الأمان والحرية أن يكتب بمنهجية هذا التاريخ..
أما الشعر فإنه ريادي ويكاد أن يكون وجه الحقيقة الآخر الملفع بعواطف ومشاعر قائله وأنت سيدي تنظر إلى فترة ما قبل الإسلام »الجاهلية كما تسمى« من أفواه الشعراء بل من فوائض العاطفة المتفجرة من قبل أن يؤرخ المؤرخون لتلك المرحلة.
وقصائد الزبيري والبردوني ولطفي جعفر أمان والقمندان والجرادة والفضول سجلات تاريخية تنبئ المرء بما كانوا عليه وأحياناٍ يفتحون ثغرة في جدار المخبوء نقرأ من خلاله المستقبل..
