المناضل الذي لم تنحِنِ له النار، جار اللَّه عمر.. سيرة الواجب التي تتحدى الزمن
د. سامي عطا
في مسيرة النضال اليمني، تبرز أسماء كالجمر تتقد بضمير لا يعرف المساومة، وأخلاق ترفض الانحناء. ومن بين هذه الأسماء، يشكل جار الله عمر نموذجاً فريداً للمناضل الذي جعل من ثقافة الواجب والمسؤولية ديناً شخصياً وسلوكاً جماعياً، لا ينفصل عن مشروعه السياسي، بل هو أساسه وقاعدته الصلبة.
لقد كانت شخصيته مصفاةً أخلاقية حادة، تختبر المواقف قبل المصالح. فبعد انتخابات 1993، لم ينظر إلى مقاعد السلطة كغنيمة، بل كأمانة. وعندما رأى أن الخيار الأصوب للحزب الاشتراكي هو التحول إلى معارضة رقابية لصالح المصلحة العامة، لم يتردد في المطالبة بهذا المسار الصعب، مفضلاً واجب النقد البناء على مغريات المناصب.
كما تجلت مسؤوليته العالية في لحظة تاريخية مصيرية، عندما وقف حاجزاً أمام قرار الانفصال المدمر عام 1994. لقد ناصح سالم البيض بعدم الإقدام على هذه الخطوة، مدركاً بعمق رؤيته وحرصه على الوحدة الوطنية أن العواقب ستكون وخيمة على الشعب اليمني بكافة أطيافه. كان موقفاً شجاعاً يختزل أخلاقيات الواجب الوطني التي تتجاوز الولاء الحزبي الضيق.
ولكن أقسى اختبار لأخلاق المناضل الحقيقي يأتي في لحظات الشدة والهزيمة. بعد حرب 1994 ونزوحه إلى القاهرة، رفض جار الله عمر أن يتحول إلى “مناضل” في المنفى. لقد رفض تسجيل اسمه في كشوفات الإعاشة المخصصة للنازحين، معتبراً ذلك انتقاصاً من كرامته وانسجاماً مع مفهومه للالتزام. لم يقبل أن يعيش كبقية القيادات في راحة الشتات، بل أصر على واجب العودة إلى أرض المعركة الحقيقية. فعاد إلى صنعاء، تحت وطأة الظروف الصعبة، ليمارس دوره من الداخل، ويساهم مع رفاق درب كالمناضل الراحل علي صالح عباد مقبل، الأمين العام للحزب، في إعادة لملمة الصفوف وتنظيم المؤتمر التاريخي الثالث للحزب عام 1997. لقد آمن أن المسؤولية تُمارس حيث تكون الجراح، لا حيث تُمنح المكافآت.
إن قراءة هذه المحطات ليست استحضاراً للماضي فحسب، بل هي مرآةٌ لحاضرنا. وبالتأكيد، لو كان جار الله عمر – ذلك العصامي النقي ذو المبادئ المتجذرة – حاضراً بيننا أثناء حرب العدوان على اليمن، لكانت مسيرته خير دليل على المسلك الذي كان سيسلكه. فالثقافة التي رفضت السلطة الزائفة، وحذرت من الانفصال، وأبت العيش على إعانات المنفى، هي نفس الثقافة التي كانت سترفض وبشدة أي ارتماء في حضن الخارج، أو التحول إلى أداة تشرعن العدوان على تراب الوطن. لم يكن ممكناً لهذا الضمير الحيّ أن يتحول إلى مرتزق أو أن يبيع قضيته. كان ليتخذ، دون أدنى شك، المسار الوحيد الذي يستقيم مع مبادئه: مسار مقاومة ورفض العدوان من الداخل، والتمسك بالسيادة، والنضال بمبدأ واضح ويد نظيفة.
هكذا يظل جار الله عمر أيقونةً للأخلاق النضالية، وعلماً شامخاً في ثقافة الواجب، تذكرنا أن أعظم انتصارات المناضل هي انتصارات ضميره، وأن سلاح المبدأ أقوى وأبقى من كل أسلحة المصالح العابرة.
Comments are closed.