محمد اللوزي: عبثية السياسة السعودية في اليمن: كيف صنعت الرياض القوة التي أرادت منعها؟
في منطقة تُعاد فيها صياغة ميزان القوى كل يوم، يبرز اليمن كأوضح مثال على بلدٍ لا يُسمح له بأن ينهض. فمنذ عقود، تتعامل السعودية مع اليمن باعتباره فضاءًا يجب أن يبقى ضعيفًا ومفككًا، غير قادر على بناء دولة مستقلة أو امتلاك مشروع وطني متماسك. هذه ليست سياسة طارئة، بل ركيزة ثابتة من ركائز العقيدة الأمنية السعودية، التي ترى في يمن قوي تهديدًا مباشرًا لعمقها الاستراتيجي وهويتها السياسية.
ولهذا اعتمدت الرياض على مزيج من الأدوات: شراء الولاءات، إبقاء البُنى القبلية متصدّرة المشهد، صناعة قوى محلية متنازعة، وتمويل تشكيلات موازية تُضعف الدولة أكثر مما تدعمها. ومع كل محاولة يمنية لبناء مؤسسات حقيقية، كانت السعودية تعود إلى الأدوات ذاتها لضمان عدم تشكّل دولة قادرة على إدارة مواردها وحدودها وقرارها السيادي.
لكن أكثر النتائج المفارِقة لهذه السياسة هو أنها أنجبت القوة التي حاولت السعودية منعها لسنوات.
فبقدر ما سعت الرياض إلى تفتيت البنية اليمنية لإيقاف نشوء قوة مستقلة، فقد أنتجت سياستها العكس تمامًا: ظهور حركة أنصار الله كقوة صلبة، منظَّمة، وذات نفوذ إقليمي يتجاوز اليمن نفسه. لقد نشأت هذه الحركة على أرضية غضب شعبي من التدخلات الخارجية ومن فساد النخب الداخلية التي تكوّنت برعاية إقليمية، ثم نمت بشكل متسارع بفعل الحرب وتراكم الأخطاء السعودية، حتى أصبحت اليوم لاعبًا رئيسيًا في معادلة القوة في اليمن والمنطقة بأسرها.
إن الرياض، التي كانت تتوقع حربًا قصيرة، اكتشفت أنها تواجه تنظيمًا عسكريًا وسياسيًا شديد التماسك، قادرًا على تطوير قدراته، وتوسيع نفوذه، وفرض شروط جديدة على طاولة الصراع الإقليمي. لقد تحولت الحركة التي أرادت السعودية القضاء عليها إلى قوة وازنة يصعب تجاهلها، وإلى فاعل يُعيد رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة، من البحر الأحمر إلى باب المندب وصولاً إلى ساحل الخليج.
وفي واقع الأمر، فإن عبثية السياسة السعودية هي التي صنعت هذا التحول. فلو كانت الرياض قد تعاملت مع اليمن باعتباره شريكًا مستقبليًا بدل اعتباره تابعًا، ولو كانت قد دعمت مشروع دولة يمنية مستقرة بدل تمزيق السلطة داخل اليمن، لما كانت قد ساهمت في ولادة قوة بهذا الحجم والتأثير. إن أنصار الله اليوم ليسوا مجرد طرف سياسي داخلي، بل أصبحوا ورقة إقليمية، وامتدادًا لتوازنات تتجاوز اليمن، من محور المقاومة إلى الصراع على خطوط الملاحة الدولية.
ومع كل هذا، لا تزال السعودية تتمسك بذات الأدوات القديمة. فهي تحاول صناعة تحالفات محلية متقلّبة، وتستمر في الرهان على شراء النفوذ، وتلتزم بمقاربات قصيرة النظر، دون إدراك بأن اليمن تغيّر جذريًا، وأن معادلة «الدولة الضعيفة» لم تعد قابلة للحياة. فاليمن اليوم دخل مرحلة جديدة، وأي مقاربة لا تعترف بأن الأرضية السياسية تغيّرت، وأن اللاعبين تغيّروا، وأن المزاج الشعبي نفسه تغيّر—هي مقاربة محكومة بالفشل.
إن استمرار السعودية في هذه السياسة لا يهدد اليمن وحده، بل يهدد الاستقرار الإقليمي بأكمله. فاليمن المستنزَف ليس ضمانًا لأمن السعودية، بل هو وصفة طويلة الأمد لإنتاج قوى أكثر صلابة وعداءً وتأثيرًا. ومن هنا، فإن إعادة النظر في النهج السعودي تجاه اليمن لم يعد مسألة اختيار سياسي، بل ضرورة استراتيجية.
لقد حان الوقت لاعتراف واضح:
اليمن لا يحتاج وصاية، بل يحتاج احترامًا.
ولا يحتاج محاولات تشكيله من الخارج، بل يحتاج إلى دولة تُبنى من الداخل.
والسعودية لن تحصل على أمنها عبر إضعاف اليمن، بل عبر شراكة حقيقية معه.
فالجار لا يبقى جارًا إذا مُنِع من الوقوف.
والحال ان المنطقة اليوم تقف على شفير إعادة تشكّل عميقة، إذ أن العلاقة بين صنعاء والرياض أمام مفترق تاريخي غير قابل للتأجيل. فبعد عقد من الصراع، لم تعد المعادلة الإقليمية كما كانت، ولا يمكن إدارتها بعقلية الأمس ولا بأدواته. اليوم تبرز معادلة جديدة تتبلور بسرعة: إمّا أن تكون الرياض مثل صنعاء، أو تكون صنعاء مثل الرياض. إنها حقيقة تختصر واقعاً سياسيّاً وأمنياً يفرض نفسه بقوة، ويحدّد خيارات الطرفين في مسار وجودي يرسم مستقبل الجزيرة العربية.
لقد دفعت السياسة السعودية، بما تميّزت به من تهوّر وغياب رؤية استراتيجية لشراكة مستقبلية مع اليمن، إلى نتائج لم تكن في حساباتها. فالرهان على كسر إرادة صنعاء أو تطويعها تحوّل إلى نقيضه. فقد نشأت في اليمن قوة صلبة ومتماسكة تمثّلت في أنصار الله، الذين أصبحوا لاعباً إقليمياً لا يمكن تجاوز حضوره ولا تجاهل تأثيره، سواء في أمن البحر الأحمر أو موازين القوى الخليجية.
صنعاء التي حاولت الرياض إخضاعها أصبحت اليوم رقماً صعباً، تمتلك قدرة عسكرية متطورة، وقراراً سيادياً مستقلاً، وتأثيراً يتجاوز حدود اليمن. أما الرياض، التي راهنت طويلاً على تفوّقها السياسي والعسكري، فقد وجدت نفسها أمام واقع لم تستوعبه بعد: أن استمرار الحرب لم يضعف اليمن، بل قوّاه؛ ولم يعزز النفوذ السعودي، بل أضعفه.
ونستطيع القول: أن المعادلة الجديدة اليوم تفرض سؤالاً مصيريّاً:
هل تملك الرياض الشجاعة للانتقال من عقلية الوصاية إلى منطق الشراكة؟
أم أنها ستصر على نموذج الهيمنة الذي أثبت عجزه في إدارة ملف اليمن وتطويق تداعياته؟
إن السعودية اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما أن تعيد صياغة علاقتها مع اليمن وفق معايير الندية والاحترام المتبادل، أو تستمر في مسار الصدام الذي لم يعُد ممكناً احتواء تداعياته، لا على المستوى الأمني ولا الاقتصادي ولا السياسي. فاستقرار السعودية يبدأ من استقرار اليمن، والعكس صحيح؛ أما التنافس الصفري فلم يعد خياراً قابلاً للاستمرار.
لقد تغيّرت صنعاء، وتغير اليمن كله. وما لم تتغير الرياض، فإن المنطقة ستظل تدفع ثمناً باهظاً من أمنها واستقرارها. النهج القديم لم يعد صالحاً، والمعادلة الجديدة لا ترحم. إنها لحظة إعادة تعريف العلاقات، أو لحظة انزلاق نحو اضطراب طويل الأمد.إن الخيار وجودي بالفعل؛ مستقبل المنطقة يتوقف على قدرة الرياض على قراءة المتغيرات والاعتراف بأن شريك الأمس الذي اعتادت إدارته من بعيد، أصبح اليوم قوة إقليمية صاعدة تُدار المعادلات من خلالها، لا حولها. ومع كل يوم يمر، يفقد الزمن قدرته على منح السعودية فرصة أخرى.وحينها تكون الرياض هي الخاسر الأكبر. فاليمن لم يعد لديها ماتخسره او تخشى ضياعه، وبذات المعنى السعودية التي تمتلك من المنجزات الهائلة مايشكل أهدافا استراتيجية لليمن إن نشبت الحرب وهو مايفرض على السعودية التعقل والدخول في سلام يحفظ لها كرامتها ومنجزاتها قبل أن يتطاير كل ذلك ويتحول الى نسيا منسيا.
Comments are closed.