عهد المحمودي: جيل القلق الصامت
- في هذا الزمن الذي تداخلت فيه الحروب مع التفاصيل اليومية، وتشابكت الأزمات الاقتصادية مع أبسط احتياجات الإنسان، يظهر جيل كامل يمشي فوق أرض رخوة، لكنه يرفع رأسه وكأن شيئًا لا يحدث من تحته ، جيل يبدو قويًا في الصورة، لكنه يحمل في داخله ارتجافًا لا يُسمع؛ ارتجافًا يتقاسمه الشاب والشابة، الرجل والمرأة، والجيل الذي تقدّم به العمر كما الجيل الذي ما زال يتعلّم المشي في الحياة.
ليس الأمر محصورًا في بلد محدد، لكنه في اليمن يبدو أكثر وضوحًا، وأكثر صراحة، وأكثر قسوة ، إذ كيف ينشأ جيلٌ عاش سنواته الأولى تحت هدير الحرب، ثم كبر ليجد أن الحياة نفسها أصبحت معركة أخرى؟ معركة مع الأسعار، ومع الأحلام المؤجّلة، ومع الوظائف التي لا تأتي، ومع الطرق الطويلة التي لا تنتهي، ومع الشعور الدائم بأننا نركض لنلحق بشيء مجهول.
في البيوت، خلف الأبواب التي يُفترض أن تمنح الأمان، يقف الإنسان في كل عمر أمام أسئلته العميقة:
هل خيّبتُ ظن أحد؟هل أنا أقوم بما يكفي؟هل أعيش أم أؤجّل حياتي؟هل ما أشعر به طبيعي؟ هل وهل وهل ؟؟
لا أحد يسمع هذه الأسئلة، لكنها ترتفع في الصدر كما يرتفع صدى الطرقات في بيت فارغ.
وفي أماكن العمل، أو في رحلة البحث عنه، يشعر كثيرون بأن أعمارهم تُستنزف في محاولة لإثبات أنهم “جديرون بالفرصة” يركض الشاب ليقنع نفسه قبل الآخرين بأنه قادر، وتكتم المرأة تعبها كي لا تُعتبر أقل، ويتظاهر الكبار بأنهم ما زالوا صامدين كي لا يراهم أحد وهم ينهارون من الداخل ، والجميع يمرّر يومه كما لو أنه يخوض امتحانًا لا نهاية له.
أما العلاقات، فهي الأخرى أصبحت ميدانًا للقلق، علاقة بين شخصين تبحث عن البقاء وسط عالم يتغيّر بسرعة مخيفة؛ صداقة تخشى الفتور، حبٌّ يخاف الخذلان، أخوّة يتسلل إليها البعد، وزمالة تتأرجح بين الثبات والمنافسة، كل علاقة تحمل حساسية مضاعفة، لأن الإنسان اليوم متعب بما يكفي، ولا يريد خسارة جديدة فوق خساراته القديمة.
وعلى منصّات التواصل، بينما تبدو الحياة مُرتّبة ومشرقة، يعيش كل فرد حربًا صامتة مع المقارنة، كل صورة تصبح معيارًا جديدًا، وكل نجاح مصوّر يتحوّل إلى ضغط إضافي، وكل ابتسامة منشورة تثير سؤالًا داخليًا: “هل أنا أقلّ؟ هل ينقصني شيء؟”، وهكذا يتحوّل العالم الافتراضي إلى مرآة تُضخّم العيوب وتُصغّر الذات، حتى يصبح اليقين بالحياة هشًّا مثل زجاج رقيق.
لكن القلق لا يتسلل فقط من الخارج؛ إنه يأتي أيضًا من الداخل ،تلك الجلسة الليلية التي يجلس فيها الإنسان مع نفسه ويشعر أن قلبه أثقل من العادة، ذلك الإحساس الذي لا يستطيع أن يشرحه لأحد: رغبة في الراحة لا يعرف مصدرها، شوق لحياة لم يعشها بعد، خوف من الغد حتى لو كان الغد بسيطًا، إنها لحظة يواجه فيها الإنسان ذاته دون ضجيج، فيكتشف أنه يحمل فوق كتفيه ما لم يعد يستطيع حمله وحده.
والأكثر قسوة أن هذا الجيل (كل الأجيال الآن) لا يملكون رفاهية الانهيار ، الجميع يريد أن يبدو قويًا، ثابتًا، واثقًا ، الجميع يترك ابتسامة على وجهه وهو يعرف جيدًا أن العالم في داخله يترنح ، إنها بطولة صامتة لا تُذكر في الإعلام، لكنها تُوجد في كل بيت، في كل شارع، في كل مكتب، في كل قلب.
ومع ذلك، ورغم كل هذا الصراع الذي لا يُرى، يستمر الإنسان ينهض كل صباح ويعيد ترتيب نفسه، يكمّل يومه رغم التعب، ويضع همومه جانبًا كي يساند غيره، ويضحك كي لا يزعج أحدًا، ويعمل كي لا ينهار، ويأمل رغم أنه لا يعرف كيف سيصبح الغد.
هذا الجيل ليس جيلًا ضعيفًا كما يُقال، بل جيلٌ يحمل ما لم يُحمّله الزمن لغيره ، جيلٌ يلمّ جراحه بصمت، ويُرمّم قلبه وحده، ويحافظ على اتزانه رغم اختلال العالم ، جيلٌ لم يجد وقتًا كافيًا ليحلم، لكنه ما زال يحلم، لم يجد أرضًا ثابتة ليقف عليها لكنه ما زال يقف.
والحقيقة التي يجب أن تُقال هي أن الإنسان (أي إنسان) لا يبحث عن الكثير، إنه يبحث فقط عن مساحة آمنة يقول فيها “أنا متعب” دون أن يخاف من الحكم ، ربما لن يتغير العالم غدًا، ولن تختفي الحروب فجأة، ولن تنتهي الأزمات بسهولة، لكن ما يمكن أن يتغير هو طريقة رؤيتنا لأنفسنا ولمن حولنا ، أن نفهم أن كل شخص (مهما بدا قويًا) يحمل قصة لا نعرفها، وجرحًا لا نراه، وصراعًا لا نسمعه وأن الرحمة ليست ضعفًا بل قوة ، وأن اللطف ليس رفاهية، بل ضرورة كي نستمر ،وربما حين نمنح بعضنا تلك اللحظة، قد يبدأ كل شيء بالهدوء، وتبدأ أرواحنا جميعنا تعود إلى اتزانها المفقود.
Comments are closed.