مجزرة الفاشر.. جرح جديد في جسد السودان المنسي
حذرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين من نفاد الوقت أمام عائلات سودانية محرومة من المساعدات، بعد هجوم “قوات الدعم السريع” على عدة مناطق غربي وجنوبي البلاد.
جاء ذلك في تدوينة نشرتها المفوضية عبر منصة شركة “إكس” الأمريكية تطرقت فيها إلى الوضع بالسودان بعد هجمات “قوات الدعم السريع” الأخيرة على عدة مناطق، بما فيها مدينة الفاشر (غرب) التي استولت عليها في أكتوبرالمنصرم، وولايتي شمال وجنوب كردفان (جنوب)، وارتكابها مجازر بحق مدنيين، بحسب تقارير محلية ودولية.

تجاهل دولي
وفي نفس السياق، قالت صحيفة واشنطن بوست في تقرير، إن السودان شهد واحدة من أبشع المجازر منذ اندلاع الحرب الأهلية قبل نحو عامين، وذلك بعد حصار خانق لمدينة الفاشر دام 18 شهرًا. فلنقف لحظةً أمام معاناة هذا الشعب، الذي يواجه مآسي لا تحظى بالاهتمام الدولي الذي تستحقه.
كانت مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، موطنًا لأكثر من مليون إنسان قبل أن يبدأ الحصار. ومع مرور الوقت، تقلّص عدد سكانها إلى نحو 250 ألفًا فقط، معظمهم يعانون الجوع وسوء التغذية بعد عام ونصف من العيش على الأعشاب وعلف الحيوانات. وحين اقتحمت قوات الدعم السريع المدينة هذا الأسبوع، بعد قتال طويل ضد المقاتلين الأفارقة المتحالفين مع الجيش السوداني، تحوّل المشهد إلى كارثة إنسانية مروّعة.
قُتل الآلاف في عمليات تصفية جماعية، ووقعت إحدى أبشع الفظائع داخل مستشفى، حيث تم إعدام أكثر من 460 مريضًا وطبيبًا وممرضًا. ونشر مقاتلو قوات الدعم السريع مقاطع فيديو تُظهرهم وهم ينفذون إعدامات ميدانية بدم بارد بحق مدنيين يتوسلون من أجل حياتهم، فيما تباهى أحد قادتهم بأنه “ربما قتل شخصيًا نحو ألفي إنسان”.
صور الأقمار الصناعية أظهرت مشاهد مرعبة لجثث مكدسة وبقع دماء ضخمة يمكن رؤيتها من الفضاء. أما الشهود الذين تمكنوا من الفرار، فرووا قصصًا تقشعر لها الأبدان عن مسلحين يجوبون الشوارع ويقتحمون المنازل بيتًا بيتًا، يقتلون الرجال والنساء والأطفال دون تمييز.
حرب بالوكالة
هذه المأساة ليست فقط جرحًا سودانيًا، بل عبء أخلاقي على ضمير العالم. ويجب على الولايات المتحدة أيضًا أن تنتبه إلى خطورة ما يحدث، ليس فقط لأسباب إنسانية، بل لأن السودان يحتل موقعًا استراتيجيًا على البحر الأحمر يؤثر في طرق التجارة والطاقة العالمية، ولأن تاريخه المعقد يجعله نقطة تماس بين الإرهاب والتهريب والنفوذ الإقليمي المتصارع.
الحرب التي تجددت عام 2023 تحولت إلى حرب بالوكالة. فالإمارات العربية المتحدة هي الداعم الرئيسي لقوات الدعم السريع والمزوّد الأساسي لأسلحتها، بينما يحصل الجيش السوداني على الدعم من تركيا وإيران. وكلا الطرفين ارتكب جرائم ضد المدنيين؛ إذ قصف الجيش الأحياء عشوائيًا، وسمح لميليشيات إثنية بارتكاب أعمال قتل وانتقام.
في محاولة لاحتواء الكارثة، جمعت إدارة ترامب ممثلين عن الطرفين في واشنطن نهاية الأسبوع الماضي للبحث في وقفٍ لإطلاق النار يمتد ثلاثة أشهر. غير أن المفاوضات انهارت، بحسب مسؤولين في الخارجية الأمريكية، لأن كلا الجانبين ما زال يعتقد أنه قادر على تحقيق النصر العسكري. ومع ذلك، ما زال أمام واشنطن أوراق ضغط حقيقية عبر شركائها في أبو ظبي وأنقرة.
قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، الذي كان يُستقبل في بعض العواصم الإفريقية معاملة الرؤساء، أصبح اليوم تحت العقوبات الأمريكية. ورغم اعترافه بوقوع “انتهاكات” داخل قواته وتعهدِه بمحاسبة الجناة، إلا أن احتمالات العدالة تبدو شبه معدومة. فقد أعلنت قواته لاحقًا اعتقال عدد من مقاتليها، من بينهم الضابط الذي تفاخر بقتل ألفي شخص، لكن التجارب السابقة تشير إلى أن المحاسبة الحقيقية لن تتم.
فميليشيا حميدتي، التي كانت تُعرف سابقًا باسم الجنجويد، ارتكبت فظائع مماثلة في دارفور قبل أكثر من عقدين، ولا تزال تعمل بالمنطق ذاته: منطق الإفلات من العقاب.
لقد أثارت مجزرة الفاشر موجة من الغضب الأخلاقي المحدود، لكنها لم تلقَ الاهتمام الإعلامي الدولي الذي تستحقه. ومع ذلك، بدأت بعض الأصوات في واشنطن تتحرك. فقد دعا السيناتور جيمس ريش، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، ومعه ستة أعضاء آخرين، الإدارة الأمريكية إلى تصنيف قوات الدعم السريع كمنظمة إرهابية أجنبية، وهي خطوة متأخرة، لكنها ضرورية، وقد تكون بداية المسار نحو العدالة.
إن مجزرة الفاشر ليست مجرد مأساة محلية، بل تذكير مؤلم بأن العالم مستعد لتجاهل الفظائع عندما تقع بعيدًا عن دوائر نفوذه. وإذا لم يتغير هذا الواقع، فإن دارفور -مرة أخرى- قد تتحول إلى اسم آخر في قائمة المذابح التي لم يتعلم منها أحد.
Comments are closed.