درويش .. الشاعر الذي خبّأ الزيتون في جيب قلبه ومشى إلى العالم
هدى صبر
لكل أسطورة بداية، ولكل قصيدة عظيمة شراراة أولى .
وفي تاريخ الأدب العربي الحديث ، يقف اسم محمود درويش كعلامة فارقة ، ليس فقط كشاعر فلسطين الأبرز ، إنما كصوت إنساني عالمي تحدث عن الحب والأرض والذاكرة والموت والفقد والخسارة ، قصته ليست مجرد سيرة فرديه ، لكنها ملحمة شعب بأسرة ارتبط بها وارتبطت به ، حياته كانت رحلة طويلة بين المنافي ، من قريته المدمرة إلى مدن العالم الكبرى وفي كل محطة كان يعيد تعريف نفسه وشعره وقضيته ، حاملا وطنه كجرح أبدي وكنز لا يفنى ، لفهم هذا الشاعر الاستثنائي يجب أن نعود إلى نقطة البداية ، إلى المكان الذي بدأ فيه كل شيء .
هكذا بدا لي وأنا أقرأ ماكتب ، وإبحر معه وسط دموع المنافي والوجع وألم الفقد للروح والوطن لا سيما وقد باتت شعوبنا مؤخرا منفية ولاجئة داخل الجغرافيا نفسها .
محمود درويش ذلك الفلسطيني ، ولد ليحمل قدره على هيئة قصيدة لا تنتهي عام 1941 في قرية البروة الفلسطينية التي مُسحت من الوجود بعد النكبة 1948، وكأن ميلاده كان وعداً شعرياً بأن الأرض ستجد من يكتبها حين تُسلب، ومن ينطق عنها حين تُخرس.
لم يكن درويش مجرد شاعرٌ فقط ، فقد كان أيضا الابن الذي حمل فلسطين في صوته منذ المهد، وحين خرج من قريته صغيراً هارباً مع عائلته إلى لبنان، ترك وراءه طفولته، غير أنه خبّأ الحقل والزيتون والسماء في جيب القلب.
قال: “سنرجعُ يوماً إلى حيِّنا، ونغرقُ في دافئاتِ المنى.”
في حيفا، ثم في موسكو، فالقاهرة، ثم بيروت وباريس، كانت المنافي تصنعه بيتاً بعد بيت، وكان الشعر وطنه الوحيد.
كتب في صباه قصيدته الأولى “بطاقة هوية”، فصارت بمثابة بطاقة الأمة كلها:
“سجّل! أنا عربي،
ورقم بطاقتي خمسون ألف،
وأطفالي ثمانيةٌ،
وتاسعُهم سيأتي بعد صيفٍ…”
لم تكن القصيدة فقط صرخة ذاتية ، بقدر ما كانت تحمل في جوهرها بياناً شعرياً للوجود الفلسطيني المهدد بالمحو، ورغم بساطتها اللغوية حملت نضجاً مبكراً ووعياً حاداً بأن الهوية ليست ورقة، إنما هي مقاومة.
ثم يواصل فيه استحضار فلسطين بوصفها امرأة ووطنًا وجرحًا.. وفى ديوان ” عاشق من فلسطين” الحب هنا ممتزج بالأرض، والغزل بالدم.
عيونك شوكة في القلب
توخزنى.. وتوجعنى
وأعبدها
خلال حياة درويش اللغوية ، شكّل اثنان من عمالقة الأدب العربي نقطتي ارتكاز مختلفتين هما: غسان كنفاني ونزار قباني.
فقد شكّل غسان كنفاني بداياته الجذرية، حيث كانا يلتقيان في بيروت السبعينيات، يتناقشان في معنى المقاومة بين القلم والبندقية.
رأى درويش أن غسان جعل من الأدب “فعل مقاومة”، بينما كان هو يمثل الذاكرة الجريحة. كان كنفاني (الروائي والناطق باسم الجبهة الشعبية) يمثل الوعي الحاد والمباشر. وبعد اغتياله في 8 يوليو 1972، رثاه درويش كمن يرثي نصفه الآخر، قائلاً: “نم يا صديقي، فالحكاية تبدأ حين تنتهي.”
أما نزار قباني، فقد علّمه أن اللغة يمكن أن تكون أنثى، وأن القصيدة لا تخاف من الجمال.
تأثره كان واضحاً في تحرر اللغة من القوالب، وفي جعل الحب جزءاً من المقاومة.
لم يكن درويش تلميذاً في مدرسة نزار، لكن شريكاً في تطوير القصيدة العربية الحديثة نحو بعد إنساني أكثر عمقاً، حيث جعل من الحب استعارة كبرى عن الوطن، ومن المرأة “وطناً موازياً”.
مع حلول السبعينيات، واشتداد الحرب اللبنانية، بدأ شعر درويش ينزاح من المباشرة السياسية إلى الرمزية الإنسانية، من “القصيدة الرأية” إلى “القصيدة الإنسان”.
في “أحبك أكثر” و”مديح الظل العالي”، نضجت لغته، وأصبح صوته يقطر حنيناً لا شعارات ، وصارت فلسطين امرأة، أمّاً، خبزاً، نجمة، وسماءً تُسكن الروح.
قال:“وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافراً، إنني العاشق، والأرض حبيبتي.”
بين قريته الجليل التي نُزِع منها، وسماء باريس التي عاد إليها هارباً من صخب العالم العربي، ظل يبحث عن مكانٍ لا يسأله أحد فيه: من أين أنت؟ ولا يضطر فيه أن يجيب: “أنا من هناك، ولي ذكريات.”
وفي تلك المدينة التي تلمع في الشعر مثل كأس نبيذ، عاش درويش لياليه الأكثر صفاءً والأشد وحدةً.
جلس في مقاهيها التي تعبق بالحبر والفكر والضجر، يستعيد طفولته في أصوات الغرباء، ويستمع إلى موسيقى اللغة كما لو كانت صلاة .
في حوارٍ له عام 2001 عندما سأله سامر ابوهواش عن باريس ؟
وصف درويش إقامته بالقول : ” أنه في باريس تمت ولادتي الشعرية الحقيقية … هناك أتيحت لي فرصة التأمل والنظر إلى الوطن والعالم والأشياء من خلال مسافة ، هي مسافة الضوء بالنسبة لي” .
فأنت عندما ترى من بُعد ، ترى أفضل، وترى المشهد في شموليته .
وفي إحدى مقابلاته التلفزيونية شبه درويش تطوّر مسيرته الشعرية بتعاقب الفصول الأربعة ، قائلاً: ”باريس هي فصل الخريف في حياتي الشعرية، تُرغمك على النطق، ينهمر الشعر هناك كأوراق الخريف… لا أريد لهذا الخريف أن ينقضي، فهو فصل يلتقي فيه الشباب مع الحكمة.”
ليقول في قصيدته “يحقّ لنا أن نحبّ الخريف”، : “نحن، يحقّ لنا أن نحبّ نهايات هذا الخريف، وأن نسأله أفي الحقل متسع لخريف جديد…خريف ينكس أوراقه ذهباً … ياليتنا عشبة مهملة لنشهد ما الفرق بين الفصول.”
خلال تلك المرحلة كتب درويش أهم أعماله، التي تمثل ذروة نضجه الشعري والفلسفي، مثل “ورد أقل”، “أحد عشر كوكباً”، و”لماذا تركت الحصان وحيداً؟”. كما كتب نصوص “ذاكرة للنسيان” التي كانت محاولة للتحرر من أثر بيروت، والأهم من ذلك، أنه كتب في باريس نص إعلان الدولة الفلسطينية عام 1988م، وهو ما يبرز دوره كشاعر-سياسي.
أنُتخب بعدها عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكنه قدم استقالته الشهيرة عام 1993 احتجاجاً على توقيع اتفاقية أوسلو، رافضاً ما رآه “تخفيفاً” من حقوق الشعب الفلسطيني.
هذه الخطوة أكدت أن درويش كان ذاكرة كاملة تمشي على قدمين، يكتب ليمنح الفلسطينيين هوية حين أراد العالم أن يصادرها، حتى لو كان الثمن هو الانفصال عن القيادة السياسية.
درويش كان شاعراً يفكر كفيلسوف، ويحلم كطفل، ويكتب كعاشقٍ يخبئ وجعه.
جمع في شعره بين البساطة والعمق، الغنائية والوعي السياسي.
كتب عن المرأة ليقول الوطن، وعن الوطن ليمنحه وجهًا أنثويًا.
كانت “ريتا” وطنًا مؤجلًا، والفصل بينهما مسافة منفى .
بالانتقال من “جدارية” إلى “كزهر اللوز أو أبعد”، صار درويش يكتب من مسافة بين الأرض والسماء. كان يسائل الموت كما يسائل المعنى:
“هذا هو اسمك، قالت امرأة،
وغابت في الممر اللولبيّ،
فقلتُ: لم أعد اسمي، ولم أعد أنا.”
تحولت قصيدته إلى مرآة للإنسان العربي المنهك بالحروب، المنفي في أرضه، الذي يقرأ نفسه في شعر درويش أكثر مما يقرأ فلسطين.
كتب الحب كمن يكتب المنفى، وكتب المنفى كمن يكتب الحب ، في “سرير الغريبة” قال:
“يعلّمني الحب أن لا أحب،
ويتركني هائمًا في الطريق.”
تحول الحب لديه من رغبةٍ إلى وعي، من لقاءٍ إلى تجربةٍ كونيةٍ تمتحن الوجود الإنساني نفسه.
ومن هنا، ومن قلب هذه الرحلة بين المنافي والحياة والذاكرة، يتجلى الشعر في أبهى صوره، حيث يصبح أوتو-بيوغرافيًا وسيرة ذاتية، موسيقيًا بامتياز، ومراياً تنعكس فيها تجاربه الإنسانية بكل ثقلها وحنينها.
و يمكن تشبيه دواوين مرحلته الباريسية بالأعمال الموسيقية الكلاسيكية من منظور تنوّع أساليبها ، فقصائد ديوان “ورد أقل” (حوالي خمسين قصيدة) تشبه قالب السوناتة الى حد كبير. أجمل قصائد الحب كتبها في باريس. يقول درويش: “إن القدرة على الحب، شكل من أشكال المقاومة. إذا كتبتُ قصائد حب، فإنني أقاوم الظروف التي لا تسمح لي بكتابة قصائد الحب”.
غنى له مارسيل خليفة في بداية سبيعينيات بيروت لتتحول قصائده بعد ذلك إلى أناشيد تتنفسها الأجيال، فأصبحت الموسيقى بيتًا آخر لشعره.
حين غنّى مارسيل “جواز السفر” و”أحنّ إلى خبز أمي”، لم تعد الكلمات حبرًا، صارت وجدانًا حيًا في كل بيتٍ عربي.
قال درويش ذات
يوم:
“أحنُّ إلى خبز أمي،
وقهوةِ أمي،
ولمسةِ أمي…”
وما كان يدرك أن هذه الأبيات ستصبح النشيد الخفي لكل من فقد أمه أو وطنه.
كان مارسيل خليفة، الفنان اللبناني، أكثر من مغنٍ لقصائده، كان ترجمانها الموسيقي. .”
فيما يخص ديوانه “لماذا تركت الحصان وحيدًا”، عاد إلى طفولته كمن يعود إلى الجرح الأول. استحضر قريته “البروة” التي محيت من الوجود، واستعاد من خلالها ما لا يمكن استعادته: براءة الزمن المفقود.
كتب عن الطفل الذي يلاحق الحصان، لا ليلعب معه، ولكن ليمنع الذاكرة من الرحيل.
في “حالة حصار” كتب عن الحصار الخارجي والداخلي معًا، عن الإنسان الذي يواجه العالم والوقت بلا سلاح سوى الوعي.
في “كزهر اللوز أو أبعد” بلغ ذروة النضج، مزج بين الفلسفة والرمز، وكتب عن الجمال الذي يتخفى في هشاشة
الحياة:
“كزهر اللوز أو أبعد،
هل كان حلمًا أم تأويلاً للهواء؟”
كان يحول العبارة إلى لغزٍ من الضوء، ويجعل الشعر فلسفةً صافية تنبض بالدهشة.
قصائده المغناة كانت امتدادًا طبيعيًا لصوته ، لذلك أصبحت كلماته جزءًا من الذاكرة السمعية للأمة.
لم تكن أغانيه سياسية وحسب، ولكنها وجدانيةً تعيد تعريف الانتماء ، لأن جملة الشعرية دائما تنبض بنغمةٍ أصيلة، كأنها خُلقت لتُغنّى.
لم يحب أحد دوواينه كما أحبها درويش فقد كانت بالنسبة له أبناءه بدء من “أوراق الزيتون” أول نبوءاته الشعرية، “عاشق من فلسطين” صرخته الأولى، “هي أغنية إلى البحر البعيد”، “مديح الظل العالي”، “ورد أقل”، “جدارية”، “لا تعتذر عمّا فعلت”، “كزهر اللوز أو أبعد”…
فكل ديوان منها كان مرحلة من عمره، شاهدًا على تطور وعيه من شاعر المقاومة إلى شاعر الوعي الإنساني.
أجمع النقاد على فرادته: قال عنه إدوارد سعيد: “كان محمود درويش أكثر من شاعر، كان ذاكرة كاملة تمشي على قدمين.”
أما أدونيس فقال : “في شعره يتحول الجرح إلى لغة، واللغة إلى وطن.”
ويوضح صديقه الروائي اللبناني الكبير إلياس خوري عنه ايضا أنه أحد أربعة من الذين صاغو اللغة الفلسطينة بعد النكبة التي كانت كفيلة بتدمير اي لغة وثقافة الا ان درويش كان له الأثر الاكبر في اعادة صياغة الهوية واللغة الفلسطينية .
تجاوز صوت درويش حدود المنفى ليصل إلى منابر العالم، فحصل على تقدير رسمي رفيع، شمل جائزة اللوتس للآداب، وجائزة لينين للسلام، وجائزة الأمير كلاوس، إضافة إلى أرفع التكريمات العربية.
لم تكن هذه الجوائز مجرد احتفاء بالشاعر، وإنما اعتراف صريح بأن فلسطين، بجراحها وذاكرتها، قد سكنت قصائده، وأن الأدب صار الوعاء الخالد الذي يحمل الوطن.
في النهاية، لم يكن محمود درويش شاعراً يعيش في الكتب، لكنه كان كائناً من ضوء وذاكرة.
في 9 أغسطس 2008، وبعد عملية قلب مفتوح في هيوستن، أسدل الستار على حياته.
لكنه لم يترك فراغاً، فقد ترك لنا نصاً تأسيسياً لفهم الذاكرة والوجود .
لم يكن درويش يعلم بأن قصائدة التي كتبها عن فلسطين بأنها هي ذاتها الذي كتبها عن سوريا قبل أن تنزف، وعن اليمن قبل أن تجوع، وعن الإنسان العربي الذي صار غريباً في وطنه.
قصيدته “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” لم تعد نشيداً وطنياً فقط، إنما صارت صرخة كونية ضد القبح والخراب.
“على هذه الأرض ما يستحق الحياة:
خجلُ الغزلانِ من حُسْنِها،
أمٌّ تُهَيِّئُ قهوتَها،
الموتُ حين يكونُ الحياةَ.”
لذلك ، إننا حين نقرأ درويش اليوم، نقرأ أنفسنا.
نقرأ ما لم نستطع قوله، ونستعيد في صوته حقنا في الحلم.
كان يعرف أن الشعر لا يوقف الحرب، لكنه يوقف موت المعنى. ولأن العالم العربي اليوم مثقلٌ بالخراب، يظل شعره هو الجزء السليم من ذاكرتنا، الشاهد الوحيد على أننا كنا بشراً ذات يوم نحلم ونحب ونكتب.
هكذا يبقى درويش فينا: شاعرًا للدهشة، وصوتًا للحياة، وذاكرةً لا تنام. شاعر الوجود العربي الموزع بين المنفى والسماء، بين الحلم والرماد.
كلما مات وطن، فتح ديوانه صفحة جديدة في القلب، ليقول من جديد:”ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا.”
Comments are closed.