من البحر الكاريبي إلى البحر الأحمر.. واشنطن تلاحق ظلّ الهيبة المفقودة
تمثل خطوة الولايات المتحدة بنشر حاملة الطائرات الأكبر في العالم، يو إس إس جيرالد آر فورد، قبالة السواحل الجنوبية لأمريكا اللاتينية تطورًا عسكريًا لافتًا يحمل أبعادًا تتجاوز الذريعة المُعلنة المتعلقة بـ”مكافحة تهريب المخدرات”.
فالتوقيت، وطبيعة القطع البحرية المشاركة، وحجم القوة المنقولة، والفضاء الجغرافي للعمليات، تشير جميعها إلى أن واشنطن تتحرك ضمن سياق إعادة رسم موازين السيطرة البحرية والجيوسياسية في نصف الكرة الغربي، واستعراض قوة موجهة بالدرجة الأولى نحو خصوم سياسيين إقليميين، وفي مقدمتهم فنزويلا. إن إرسال حاملة طائرات بحجم “فورد” ليس مجرد عملية مراقبة بحرية عادية؛ فالحاملة قادرة على قيادة حروب كاملة منفردة. وجودها يعني أن الولايات المتحدة بصدد فرض معادلة ردع مباشر، تُراد منها إيصال رسالة سياسية بأن واشنطن مستعدة للانتقال من مرحلة الضغط الاقتصادي إلى مرحلة الضغط العسكري الميداني.
وفي الوقت نفسه، فإن تزامن الانتشار مع تصاعد الهجمات الأمريكية على قوارب في الكاريبي والمحيط الهادئ تحت عنوان “قطع خطوط المخدرات” يعيد إلى الأذهان نفس الخطاب الذي استُخدم سابقًا لتبرير حروب التدخل تحت لافتة “الحرب على الإرهاب”. من جهة أخرى، يلفت النظر أن الأسطول الذي يجري حشده في البحر الكاريبي وبالقرب من فنزويلا يشمل ثماني سفن حربية وأكثر من ستة آلاف جندي ومشاة بحرية، مع احتمالية إضافة أربعة آلاف آخرين عند اكتمال وصول مجموعة “فورد” الضاربة. هذه ليست عملية لملاحقة زوارق صغيرة، بل هي عملية انتشار بحري متكامل، يمتلك القدرة على تنفيذ عمليات إنزال، وفرض حصار بحري، وتوجيه ضربات جوية دقيقة على مراكز القيادة والسيطرة والبنى السيادية الفنزويلية. يبدو واضحًا أن الإدارة الأمريكية تحاول، عبر هذا الانتشار، الوصول إلى صيغة توازن قسري في الإقليم، وإعادة إدماج الدول المطلة على الكاريبي ضمن هندسة النفوذ الأميركي المباشر.
إن اختيار فنزويلا كنقطة محورية للمواجهة لا يتعلق فقط بمسألة المخدرات، بل يرتبط بدورها المتنامي ضمن محور سياسي واقتصادي دولي يتقاطع مع روسيا والصين وإيران وكوبا، وكذلك بسبب موقعها الاستراتيجي المطل على خطوط الطاقة وتدفقات التجارة من الأطلسي. ردّ فنزويلا بانتشار عسكري واسع على طول 2000 كيلومتر من الساحل يكشف أنها تتعامل مع الوضع بوصفه تهديدًا وجوديًا وليس عملية أمنية عابرة. هذه المناورات التأهيلية تعني أن فنزويلا تستعد لاحتمال
سيناريويْن: الأول فرض حصار بحري طويل الأمد، والثاني عمليات ضربة جراحية تستهدف منظومات الدفاع الجوي ومراكز الاتصالات. في كلا السيناريوهين، يظهر أن الصراع إذا فُتح لن يكون محدودًا، بل سيكون صراع استنزاف مفتوح على احتمالات التدخل عبر وكلاء محليين أو حتى صدام مباشر محدود. البيئة الاستراتيجية العالمية أيضًا تُلقي بظلالها هنا. فشل واشنطن في حسم الحرب البحرية في البحر الأحمر أمام اليمنيين، وازدياد كلفة التفوق التكنولوجي أمام تكتيكات الاستنزاف يدفعها نحو ساحات أخرى تحاول فيها تثبيت صورة القوة. لكن المشكلة أن هذه الصيغة نفسها حملت في البحر الأحمر نتائج عكسية وفقدت واشنطن هيبة الردع. اليوم، تحاول الولايات المتحدة إعادة ترميم تلك الهيبة عبر استعراض ضخم القوة في منطقة تعتبرها “حديقتها الخلفية”.
لكن مشهد العالم اليوم لم يعد هو نفسه الذي كانت فيه القواعد الأمريكية وحدها تتحكم بخطوط السياسة. إن ما يجري ليس مجرد خطوة عسكرية، بل تعبير عن أزمة مركز الهيمنة الأميركي، الذي يبحث عن منافذ لإعادة فرض صورتة كقوة مُقرِّرة. غير أن الواقع الميداني يشير إلى أن الشعوب التي خاضت حروب الإرادة الطويلة أثبتت، كما في اليمن، أن حاملات الطائرات لا تنتصر في معارك الوعي والسيادة. الولايات المتحدة قد تنجح في فرض دوريات وقصف مواقع، لكنها لن تستطيع فرض نموذج تبعية طويل في منطقة تتحرك فيها قوى اجتماعية وشعبية ترى الصراع جزءًا من معركة أوسع ضد الهيمنة الغربية على الجنوب العالمي.
المصدر:”رادار360″
Comments are closed.