د. أحمد العرامي: الشرق الأوسط: النشأة والأبعاد والخطر

يُعد مصطلح “الشرق الأوسط” من أكثر المصطلحات الجغرافية والسياسية إثارةً للجدل في الفكر الحديث، لما يحمله من دلالات هيمنية تتجاوز المعنى الجغرافي إلى أبعاد سياسية وثقافية واستراتيجية عميقة. فالمصطلح لم ينشأ في بيئة عربية إسلامية، بل وُلد في أحضان الفكر الغربي ليكون أداة لإعادة تشكيل المنطقة وتحديد أطر النفوذ فيها.
ظهر مصطلح “الشرق الأوسط” لأول مرة في الأدبيات الغربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم شاع استخدامه مطلع القرن العشرين. ويُنسب أول استخدام رسمي له إلى الضابط الأمريكي ألفرد ثاير ماهان عام 1902م، حين كتب مقالة بعنوان “الخليج والمنطقة المجاورة له كمركز استراتيجي للشرق الأوسط”، استخدم فيها المصطلح للدلالة على المنطقة الواقعة بين الهند ومصر. اعتمدت بريطانيا هذا المفهوم لاحقاً خلال الحرب العالمية الأولى لتوصيف المنطقة التي تقع بين “الشرق الأدنى” و“الشرق الأقصى”، معتبرة إياها المعبر بين مستعمراتها في آسيا ومصالحها في البحر المتوسط، وبذلك اكتسب المصطلح بعداً جيوسياسياً أكثر من كونه توصيفاً جغرافياً بريئاً. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية تبنّت الولايات المتحدة المصطلح لتوسيع نفوذها السياسي والعسكري، وربطته بمصالحها الاستراتيجية، خاصة بعد اكتشاف النفط وبروز الصراع العربي الإسرائيلي، فأصبح “الشرق الأوسط” مرادفاً لمنطقة النفوذ الأمريكي ومجالاً لتأمين الموارد وضمان تفوق كيان العدو الصهيوني.
وقد شهد مطلع الثمانينيات من القرن العشرين تحولاً خطيراً في مضمون مصطلح “الشرق الأوسط”، حين أعيد طرحه كمشروع سياسي استراتيجي شامل على يد المؤرخ البريطاني الأمريكي اليهودي برنارد لويس، أحد أبرز منظّري الاستشراق والهيمنة الغربية. فقد قدّم لويس تصوراً لما سماه “إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط” يقوم على تفكيك الدول العربية والإسلامية إلى كيانات طائفية وعرقية صغيرة يسهل التحكم فيها، وهو ما عُرف لاحقاً بـ “مشروع برنارد لويس ”. وقد تبنّت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) هذا المشروع ضمن تصوراتها للأمن القومي بعد الحرب الباردة، باعتباره وسيلة لضمان الهيمنة الأمريكية في المنطقة ومنع قيام أي قوة عربية أو إسلامية موحّدة.
أُعيد إحياء الفكرة في تسعينيات القرن الماضي على نحوٍ علنيّ، عندما ألقى المفكر الأمريكي إيريد شارلون محاضرة في جامعة “جون هوبكنز” تحدّث فيها عن “الشرق الأوسط الكبير” بوصفه نظاماً جديداً للعلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية، يقوم على إدماج كيان العدو الصهيوني في المنطقة العربية كجزء طبيعي من بنيتها. وبعدها جاء كتاب شمعون بيريز رئيس وزراء كيان العدو الصهيوني الأسبق بعنوان “الشرق الأوسط الجديد” الصادر عام 1994م ليمنح المشروع بُعداً عملياً وسياسياً واضحاً، إذ دعا إلى إقامة ما أسماه “شرق أوسط منفتح” يقوم على السلام الاقتصادي والتعاون الإقليمي، في ظاهر تنموي، وباطن تطبيعي يهدف إلى تكريس وجود كيان العدو الصهيوني كقوة محورية في المنطقة وإلغاء فكرة الصراع العربي–الإسرائيلي.
لقد مثّل هذا التسلسل التاريخي انتقال المصطلح من كونه إطاراً وصفياً إلى خطة استراتيجية لإعادة بناء المنطقة وفق الرؤية الغربية–الصهيونية، وهو ما يفسر ارتباطه الدائم بالمشاريع السياسية الكبرى ومحاولات إعادة تشكيل الوعي والحدود والهوية في العالم العربي.
يمتد مفهوم ما يسمى بالشرق الأوسط جغرافياً من شرق البحر المتوسط إلى الخليج العربي، ويشمل دولاً عربية وغير عربية مثل إيران وتركيا ، بل يمتد أحياناً ليضم أفغانستان وباكستان وفق الرؤية الأمريكية. غير أن هذا الاتساع يؤكد أن معيار التسمية ليس جغرافياً بقدر ما هو سياسي واستراتيجي. وقد تحول المصطلح إلى إطار سياسي لإعادة رسم خريطة النفوذ الدولي في المنطقة، حيث ترتبط به قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، والنفوذ الإيراني والتركي، والتنافس على الممرات المائية مثل قناة السويس ومضيق هرمز وباب المندب، وكلها عناصر تندرج ضمن مفهوم الشرق الأوسط الذي تُديره القوى الكبرى بما يضمن بقاء المنطقة في حالة تبعية أمنية وسياسية.

اقتصادياً، تُعد منطقة المشرق العربي الإسلامي أغنى مناطق العالم بالنفط والغاز الطبيعي، إذ تحتوي على أكثر من 60% من احتياطي النفط العالمي، مما جعلها محوراً للتنافس الدولي ومسرحاً للمشاريع الاقتصادية العابرة للحدود. ومن هنا نشأت فكرة “الشرق الأوسط الكبير” في الخطاب الأمريكي بعد عام 2003 لتوسيع دائرة السيطرة الاقتصادية والسياسية بحجة التنمية والديمقراطية.
أما ثقافياً، فإن استخدام هذا المصطلح يُخفي الهوية العربية والإسلامية للمنطقة، فيُستبدل الانتماء الحضاري العريق بمفهوم جغرافي غامض يخدم الرؤية الغربية ويُسهم في تذويب الخصوصية الثقافية للأمة.
تكمن خطورة المصطلح في أبعاده المفاهيمية والسياسية والاستراتيجية. فمن الناحية الفكرية، يؤدي تبني المصطلح إلى تشويه الوعي العربي وإضعاف الانتماء القومي والديني، إذ يذيب الهوية في إطار إقليمي لا هوية له، فيصبح “الشرق الأوسط” بديلاً عن “العالم العربي الإسلامي ” مما يسهم في تفكيك الوعي الجمعي وإضعاف الشعور بالوحدة.
أما سياسياً، فقد استُخدم المصطلح لتبرير مشاريع غربية وإسرائيلية تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالح القوى الكبرى، مثل مشروع “الشرق الأوسط الجديد” ومحاولات دمج كيان العدو الصهيوني في الإقليم تحت شعار “السلام الإقليمي”، إضافة إلى إنشاء تحالفات عسكرية واقتصادية جديدة تُهمّش الدور العربي المستقل.
ومن الناحية الأمنية، تبرز خطورة المصطلح في أنه يُستخدم ذريعة للتدخلات العسكرية الأجنبية بحجة “محاربة الإرهاب” أو “حماية الاستقرار”، بينما الهدف الحقيقي هو ضمان السيطرة على الممرات الحيوية وإعادة رسم الخرائط السياسية بما يكرس التجزئة والتبعية.
أما في البعد الثقافي، فإن أخطر ما يحمله المصطلح هو تغريب الوعي العربي الإسلامي وفرض مفاهيم مستوردة مثل “الشرق الأوسط الديمقراطي” و“الشراكة الأمنية”، وهي شعارات براقة تُخفي خلفها مشروعاً لإعادة صياغة المنطقة على النمط الغربي وتكريس الهيمنة الفكرية.
لقد أدرك العديد من المفكرين العرب خطورة هذا المصطلح، ودعوا إلى استبداله بمصطلحات أكثر دقة وأصالة مثل “الوطن العربي” أو “المنطقة العربية الإسلامية” ، لأنها تعبّر عن الهوية والانتماء الحقيقيين بعيداً عن التوصيفات المفروضة.

إن رفض المصطلح لا يعني إنكار الواقع الجغرافي، بل رفض الرؤية الغربية التي تسعى إلى فرض تصور محدد للعالم يخدم مصالحها الاستراتيجية.
إن مصطلح “الشرق الأوسط” ليس مجرد تسمية جغرافية بريئة، بل هو أداة فكرية وسياسية هدفها السيطرة وإعادة التشكيل. ووعي الأمة بخطورته يمثل الخطوة الأولى نحو تحصين الذات واستعادة الخطاب العربي الأصيل، وتأكيد أن هذه المنطقة ليست مجرد “شرق” بالنسبة للغرب، بل هي قلب العالم ومهد الحضارات، وصاحبة رسالة إنسانية وحضارية لا يمكن طمسها بتسمية دخيلة أو منظور احتلالي.

 

*رئيس جامعة البيضاء

Comments are closed.

اهم الاخبار