سيّد المقاومة.. الإرث واقتفاء الأثر
السفير/ عبد الله علي صبري
الحديث عن السيّد الشهيد حسن نصر الله ليس بالمهمة السهلة، فقد بدت الكتابة عنه بعيدة المنال، ولا عجب، فنحن أمام شخصية أكبر من أن يستوعبها أو يقتفي أثرها أحد. فالسيد نصر الله ليس قائدًا سياسيًا فحسب، ولا رجل دين فحسب، وليس قائدًا عسكريًا فقط، أو مجرد خطيب مفوّه باذخ الحضور وعميق التأثير. ليس شخصية وطنية لبنانية وفقط، ولا رمزًا لمحور الجهاد والمقاومة وكفى، كما أن وصفه بالقائد الأممي لا يمكن أن يختزل حقيقة شخصيته الفريدة والاستثنائية.
وعليه، فالإرث كبير ومتعدد الوجوه؛ فنحن أمام إرث سياسي، وإرث ديني وقيمي، إرث على الصعيد المحلي اللبناني، وإرث على صعيد المواجهة مع المشروع الصهيوني، وإرث أممي مرتبط بالبعد الإنساني في شخصية الشهيد السيد، وهناك إرث المقاومة بكل معانيها وأبعادها ومسؤولياتها.
1- الإرث السياسي والتحديات المنظورة
في هذا الجانب يمكن القول إن الفراغ الكبير الذي تركه السيد حسن نصر الله كأمين عام لحزب الله يشكل أكبر التحديات الماثلة أمام الحزب. فالأداء السياسي للحزب والزخم الذي اكتسبه طيلة العقود الماضية كان محصلة لقيادة فريدة جمعت بين الإيمان والإخلاص، وبين العلم الشرعي والفقه السياسي الحركي الذي لا يقتصر على استيعاب التطورات والمستجدات المحلية، بل يربطها في إطار المتغيرات الإقليمية والدولية. كذلك كان السيد الشهيد يجمع بين الذكاء والفطنة في قراءة الواقع، مع التزامه بالرؤى المنهجية العلمية والاستراتيجية، والنجاح الباهر في اختيار البدائل المطروحة أو ابتكار الحلول الخلّاقة إن لزم الأمر.
نجح الشهيد القائد في نسج تحالفات سياسية وطنية اجتازت أشواك الطائفية المقيتة، وجعلت من المقاومة حجر الأساس لهذه التحالفات والتفاهمات، التي شملت أحزابًا وشخصيات سياسية وعلمائية واجتماعية، شكّلت رافدًا مهمًا للحاضنة الشعبية القوية والصلبة التي يتمتع بها الحزب والمقاومة. وعلى الصعيد الإقليمي والدولي، نسج الحزب بقيادة السيد الشهيد علاقات متينة مع دول وأحزاب وحركات ومنظمات عززت من موقع ومكانة الحزب ومنحته أدوارًا خارج النطاق اللبناني.
أما على صعيد المواجهة المباشرة مع العدو الصهيوني، وكقائد سياسي وعسكري لحزب الله والمقاومة، فقد انتقل الشهيد ونقل لبنان من زمن الهزائم إلى زمن الانتصارات العسكرية المتوالية، التي أنجزت تحرير جنوب لبنان في العام 2000م، وقوّضت مقولة “العدو الذي لا يُقهر”، ثم الانتصار في العام 2006م، وفرض قواعد اشتباك التزم بها العدو الصهيوني لأكثر من 17 عامًا، لم يجرؤ فيها على المجازفة والتحدي.
واليوم فإن هذه القاعدة غدت في مهب الريح، خاصة وأن قوى سياسية لبنانية وازنة تعمل بدأب مع أمريكا وإسرائيل وبعض الأنظمة العربية، وبشكل ممنهج على تجاوز مرحلة نصر الله وانتصاراته، وتعميق جراح الحزب وحاضنته، ومحاصرة سلاح المقاومة.
2- الإرث القيمي والأخلاقي
لم يمارس نصر الله السياسة من بوابة مغلقة، أو بالاعتماد على حسابات المصلحة والربح والخسارة، أو من زاوية تسجيل النقاط على الخصوم ودغدغة مشاعر الجمهور. كان صادق الوعد بكل ما تعنيه الكلمة، وكان أعداؤه وخصومه يثقون في صدق وعوده وكلامه، لأنه الرائد الذي لا يكذب أهله. وقد كانت الخلفية الدينية والأخلاقية حاضرة في كل تفاصيل حراك حزب الله وأمينه العام، وكانت المبادئ هي المحرك الأساسي للموقف الذي ينطلق منه السيد الشهيد، وينطلق بالحزب من خلالها إلى مكانة متقدمة بين القوى السياسية دون أن يخسر الرأي العام المحلي أو العربي والإسلامي إلا فيما ندر.
فعلى سبيل المثال، كان موقف حزب الله من الأوضاع السورية أثناء أحداث ما يسمى بـ”الربيع العربي” مثار جدل كبير، لكن نصر الله كان يعرف ما تخطط له إسرائيل في سوريا منذ زمن بعيد، وأن هدفها كسر الحلقة الأهم في محور المقاومة وعزل حزب الله عن إيران، ما يجعل المقاومة اللبنانية محاصرة في “غيتو” يسهل تصفيتها. ولهذا كان تدخل الحزب في سوريا دفاعًا عن المقاومة بذاتها. واليوم، ما حدث في سوريا بعد استشهاد نصر الله يقدم الدليل الناصع على هذه الرؤية الاستشرافية للسيد الشهيد.
3- إرث الكاريزما
هذا النوع من الإرث هو الأخطر والأوسع امتدادًا في المستقبل، فقد تجاوز الشهيد السيد بإرثه الجغرافيا السياسية والحدود الثقافية بمراحل كبيرة.
جمال عبد الناصر، تشي جيفارا، فيدل كاسترو، سيمون بوليفار، المهاتما غاندي، ونيلسون مانديلا.. هؤلاء لم يكونوا مجرد قادة جسدوا طموحات شعوبهم، بل كانوا رموزًا للإنسانية جمعاء بمختلف انتماءاتهم وثقافاتهم. وكذلك فإن الشهيد نصر الله، بزعامته الروحية والسياسية وانتصاراته العسكرية، يعدّ رمزًا وبطلًا ملهمًا للأحرار في فلسطين وفي العالم العربي، وللأحرار في العالم من اليمن إلى فنزويلا، ومن إيران إلى جنوب إفريقيا.
وتمتاز كاريزما نصر الله بأنها تجاوزت سقوف الإعلام الرقمي الذي يقدم الرموز كل ساعة وكل لحظة عبر صناعة ما يعرف بـ”الترند”، الذي يلهث وراءه كل طامح إلى الشهرة والأضواء. بيد أن نصر الله ليس “ترندًا” عابرًا أو سريع الزوال.
ودائمًا ما يطرح رحيل القادة الكبار سؤالاً وجوديًا: هل ينتهي المشروع برحيل القائد؟
فمثلًا بعد عبد الناصر تراجعت القومية العربية وانحسرت حتى كادت أن تضمحل، فهل تتراجع المقاومة بعد نصر الله؟
4- إرث المقاومة والصراع مع العدو الصهيوني
هذا الإرث لا يتعلق بمستقبل حزب الله في لبنان فحسب، ولا بمستقبل محور القدس والجهاد والمقاومة، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالصراع العربي الصهيوني، ذلك التهديد الوجودي الذي يشكله العدو منذ ما يقارب ثمانين عامًا.
لقد كان استشهاد نصر الله فاتحًا لشهية المجرم نتنياهو، الذي هدد بتغيير خرائط الشرق الأوسط الجديد، ثم أعلن لاحقًا عن مشروع إسرائيل الكبرى وسط جرائم الإبادة اليومية في غزة، والعمل على إعادة احتلال القطاع والضفة الغربية، والتحول من تصفية القضية الفلسطينية إلى تصفية الفلسطينيين وجودًا وهوية وأرضًا، عبر القتل والتشريد والتهجير والتدمير، وكل وسائل الإجرام المعروفة، وعبر الحلول المخادعة كحل الدولتين، ومن خلال اتفاقات الخيانة والتطبيع.
فهل تنهار المنطقة أمام المشروع الصهيوأمريكي؟ وهل ستقبل المقاومة بهذا المنحى الخطير؟
وهل كان السيد الشهيد هو صمام الأمان والسد المنيع الذي أصبح ما بعده ليس كما قبله؟
5- إرث الشهادة
لقد أدرك السيد الشهيد أن الصهيوني قد عزم على حرب إبادة لا تقتصر على غزة ولبنان، وآمن أن لا سبيل للتراجع، فأقدم على الاستشهاد في أشرف موقف وأقدس معركة، وهو يعلم جيدًا ماذا يعني استشهاد القادة، وكيف للشهادة أن تصنع التحول في حياة الأمم والمجتمعات التي تعشق الحرية والكرامة ولا تقبل بالضيم والهوان والإذعان. وهكذا قدم حزب الله كبار قادته شهداء على طريق القدس، وكذلك فعلت حماس والمقاومة الفلسطينية التي قدمت القادة الشهداء إسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف. وفي اليمن قدّم شعبنا رئيس الحكومة أحمد الرهوي وعددًا من وزراء حكومة التغيير والبناء شهداء على طريق القدس.
إن ثقافة الاستشهاد، بمرجعيتها الإيمانية لدى كل المسلمين، وبخصوصيتها في تاريخ الشيعة وآل البيت عليهم السلام، رسخت جذورها من جديد بعد استشهاد نصر الله، فغدت ضمن الإرث الكبير الذي يخلق مسؤوليات جسيمة أمام كل مؤمن بالمقاومة وبالشهادة في سبيل القضايا العادلة.
6- إرث الأسطورة
ويبقى أن نقول إننا أمام شخصية كادت أن تتحول في حياتها وعند استشهادها إلى أسطورة، تفتح المجال لنسج الحكايات التي لا يدري المرء إن كانت واقعًا أم خيالاً. وهذا التحدي يفرض على كل المعنيين بكتابة وتوثيق سيرة نصر الله تقديمها على نحو موضوعي وعلمي، بسلبياتها وإيجابياتها، ومواطن القوة والضعف فيها، بحيث يمكن لمن شاء اقتفاء أثره والسير على منهجيته بعيدًا عن هالة التقديس التي تقدم العظماء خارج صفاتهم البشرية التي يعتورها النقص ويشوبها القصور. فنصر الله هو السيد، وهو القائد، وهو كل ما شئت من صفات وألقاب، لكنه أيضًا حسن عبد الكريم.
سيّد الحضور
سامحني سماحتك
لا نثر ينعيك
ولا شعر،
لا كلمات ولا حروف.
كيف تهوي سماءٌ بلا عمد؟
وكيف ينطفئ نورٌ هو مصدر النور؟
وكيف يموت من اختاره ربّه إلى جواره شاهدًا وشهيدًا؟
أنّى يغيب من كان سيّد الحضور؟!
كلماته
مواقفه
بأسه ورأفته،
رنّات ضحكاته وحرارة دمعاته،
وصخبه وهمسه،
كلها محفورة في مشاعرنا،
وفي دمنا ومدادنا،
في حشاشة الفؤاد وبؤرة الشعور.
سامحنا سماحتك
فما أنت إلا قيامة في جينات الأبرار،
وما أنت إلا ثورة في مسيرة الأحرار.
أنت الأمة فردًا،
والسيّد سرمدًا،
من أسرار الملكوت أتيت،
ومن معين كربلاء نهلت وارتويت،
على ضوء الحسين اهتديت،
وعلى وضوئه صلّيت.
أنت الدم الذي انتصر على السيف،
وأنت الكلمة الطيبة،
وفصل الخطاب.
صنعاء – 28/9/2025
Comments are closed.