تمنح وعوداً بالثراء السريع.. منصات التداول فخ احتيالي يبتلع مدخرات اليمنيين

الوحدة نيوز – خالد الصايدي/ شهد اليمن خلال السنوات الأخيرة انتشاراً متزايدا لمنصات التداول الاستثمارية الوهمية، التي تستدرج المواطنين لدفع مبالغ مالية بحجة الاستثمار وتنمية أموالهم، غير أن النتيجة تكون وقوعهم ضحايا لوعود زائفة بالثراء السريع وأرباح خيالية، وذلك في ما يُعرف بمخططات النصب الشبكي، ويستغل القائمون على هذه المنصات حاجة الناس وضعف وعيهم بأساليب الاستثمار، حيث تنشط هذه الكيانات في الخفاء قبل أن تختفي فجأة، تاركةً وراءها ضحايا خسروا ملايين الريالات.

استنزاف مدخرات اليمنيين

الأسبوع الماضي أُغلقت ما عُرفت بـ”منصة AITS” الوهمية واختفت تماما بعد أن استقطبت خلال فترة وجيزة عشرات الآلاف من الضحايا المشتركين وذلك بعد ان وعدتهم بارباح مغرية تصل إلى 25% أسبوعيا، وأرباح شهرية تصل إلى 100%، وسنوية تتجاوز 1200%، وهذه الوعود الخيالية كانت كفيلة بجذب الآلاف ممن حلموا بالأرباح المالية الباهظة، قبل أن تتبخر أموالهم مع اختفاء الشركة.

الناشط علي التويتي كان قد حذر مرارا عبر صفحته الرسمية على فيسبوك من هذه المنصة وغيرها، مؤكدا “أنه لا وجود حقيقي لها في عالم العملات الرقمية، وأنها مجرد مخطط احتيالي جديد يستنزف مدخرات اليمنيين”.

وأشار التويتي الذي قاد حملة تفاعلية واسعة على منصات التواصل الاجتماعي للكشف عن هذه المنصات وفضحها إلى أن “أي استثمار يوزع أرباحا بهذه النسب غير منطقي، وإنما مجرد إغراء للإيقاع بأكبر عدد ممكن من الضحايا، وما حدث مع AITS ليس سوى حلقة في سلسلة متكررة من النصب الشبكي، حيث تُغلق منصة لتظهر أخرى باسم جديد، وتُسحب الملايين من جيوب الناس”.

أرقام صادمة

ووفقا للتويتي فإنه خلال أسبوعين فقط، وصل عدد المشتركين في منصة AITS إلى نحو 40 ألف مشترك، وأن أقل مبلغ استثمار كان 80 دولارا، وأعلى مبلغ 900 دولار، بمتوسط تقديري 300 دولار لكل شخص وهو ما يعني أن الخسائر بلغت نحو ١٢ مليون دولار، لكن أرقاما لاحقة أوضحت أن المبلغ ربما يتجاوز 25 مليون دولار.

نكبة للجميع

من جانبه قال الناشط أنور الحيمي في منشور له على فيسبوك، إن “المشكلة ليست فقط في ملايين الدولارات التي تبخرت، بل في العقلية التي تعامل بها المشاركون، كثير منهم كانوا شبه متأكدين أن المنصة احتيالية وستهرب، ومع ذلك خاطروا بأموالهم، والأسوأ أنهم جرّوا معهم أصدقاءهم وأقاربهم، دخلوا على أساس أنهم أذكى من غيرهم وسيخرجون رابحين، بينما تقع النكبة على المشتركين اللاحقين، حتى لو كانوا من أقرب الناس إليهم”.

نصب بأسلوب منظم

أما الخبير الاقتصادي رشيد الحداد فقد أكد أن “ظاهرة المنصات الوهمية اتسعت بشكل لافت في الآونة الأخيرة، وأوقعت آلاف اليمنيين في فخاخها، حتى تحولت إلى ما يشبه الظاهرة الخطيرة التي تستقطب مختلف الفئات الاجتماعية من أكثر من محافظة ومنطقة، وبأسلوب ممنهج يكشف عن وجود عصابات منظمة تقف وراءها، قد تكون داخل البلاد أو خارجها.

وأشار الحداد في حديثه لـ”الوحدة” إلى “أن هذه العصابات تتعمد العمل عبر شبكة الإنترنت، وهو ما يمنحها هامشاً واسعاً لتجنب المخاطرة الأمنية، ويجعلها أكثر غموضاً وصعوبة في الملاحقة.

مضيفا “أن خطورة هذه الظاهرة لم تقتصر على المدن الكبرى، بل امتدت أيضاً إلى المناطق الريفية، حيث تم الاستحواذ على مدخرات الكثير من الأسر، بل ودفعت بعضهم إلى بيع أصول مهمة بغرض الاستثمار في منصات تداول غير حقيقية.

منصة AITS تتلاشى بعد سرقة ما يقارب 20 مليون دولار من آلاف الضحايا

وشدد الحداد على “أن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب تضافر الجهود الإعلامية والثقافية لتوعية المواطنين، إلى جانب تدخل الجهات الأمنية المختصة، خصوصاً في مجال الأمن السيبراني، لتتبع مواقع تلك العصابات ومعرفة الدول التي تنتمي إليها، والتحقق من مسارات الأموال والأرصدة التي يتم الاستحواذ عليها.

كما دعا الحداد إلى “تعزيز الوعي الديني والاقتصادي لدى المواطنين بمخاطر الاشتراك في مثل هذه المنصات، مؤكداً أن من تورطوا فيها لم يكونوا سوى ضحايا لعمليات نصب واحتيال محكمة التنظيم”.

منصات وهمية كثيرة

ولم تكن منصة “AITS” الأولى في هذا المسلسل، إذ سبقتها عدد من المنصات وما تعرف بالشركات الاستثمارية التي استنزفت أموال اليمنيين خلال السنوات الماضية.

حيث تعرض الآلاف من اليمنيين لعمليات نصب واسعة نفذتها شركة وهمية تُعرف باسم “العربي”، وكانت تنشط بشكل رئيسي عبر مجموعات “واتساب”، حيث تشير التقارير إلى ان الاموال التي استولت عليها هذه المنصة تتراوح بين 750 مليون إلى مليار دولار خلال عقد من الزمن قبل ان تختفي.

وفي أبريل من العام الماضي، اختفت فجأة منصة استثمار وهمية تُدعى “Future GPT” بعد أن جمعت ملايين الدولارات من أكثر من 30 ألف يمني. المنصة التي ادعت العمل في الاستثمار الرقمي، استدرجت المشتركين عبر عروض لأرباح يومية متزايدة مقابل إيداع مبالغ بالدولار فيما سُمّي بـ”شراء ريبورت” وقدّر الناشط الرقمي أحمد غازي في منشور على صفحته بفيسبوك حجم المبالغ المنهوبة من اليمنيين بأكثر من 4 ملايين دولار في هذه المنصة.

أسلوب مميز لجذب الضحية

فيما يشير مراد سند وهو أحد الضحايا الذين وقعوا في فخ شركة تسمى “كيونت” إلى أن ما يميز هذه الشركات هو غياب أي شفافية حول طبيعة العمل أو نشاط الشركة، إذ يُطمئن الضحية بأنها “حلال مائة بالمائة”، بينما يُمارس عليه ضغط نفسي وعاطفي يجعل من المستحيل رفض المشاركة، كثيرون يجدون أنفسهم مضطرين لتوفير المبلغ بأي طريقة كانت، سواء ببيع ذهب الزوجة أو الأم، أو تصفية بعض الممتلكات، أو حتى الاستدانة من الأقارب والأصدقاء، كل ذلك في ظن أن الأرباح الموعودة ستغطي كل شيء قريبا.

مستشارون وقانونيون: غياب التشريعات والرقابة يجعل الضحايا بلا حماية أمام منصات التداول الوهمية

ويؤكد مراد أن جلسات تقديم المشروع الوهمي نفسها مصممة بعناية، حيث تُقام عبر الإنترنت باستخدام تطبيقات مثل الزوم، ويتحدث خلالها ممثلون بأسلوب جذاب، يلبسون أفضل الملابس، ويخلقون شعورا بالألفة وكأن الجميع يعرفون بعضهم منذ سنوات، ويضيف” تُعرض للضحية خطة العمل وعوائد الأرباح الخيالية، مع وعود بأن المبالغ المستثمرة ستسترد خلال أشهر قليلة، فيقع الشخص في وهم كبير يغلق بصره عن حقيقة أن كل ما حوله مجرد خدعة منظمة”.

ويختتم مراد شهادته بالتأكيد على أن هذه التجربة كانت درسا قاسيا، إذ لم يسرق المال فقط، بل أثّرت أيضًا على علاقاته الاجتماعية، لتصبح عبرة لكل من يطمح للثراء السريع دون وعي بالمخاطر.

عوامل اقتصادية

وقد ساهمت الأوضاع الاقتصادية الخانقة التي يعيشها اليمن واليمنيون منذ أكثر من عشر سنوات في تفاقم الظاهرة او المشكلة، حيث توقفت المرتبات، وتقلصت فرص العمل، وتدهورت مستويات المعيشة بشكل غير مسبوق، وفي ظل هذا الواقع، برزت هذه الشركات كملاذ زائف أو فرصة وهمية، دفعت كثير من المواطنين إلى المخاطرة بكل ما يملكون، فمنهم من باع أرضه أو أنفق مدخراته القليلة، ومن النساء من لجأن إلى بيع مجوهراتهن للالتحاق بهذه المشاريع المزعومة، بينما اندفع آخرون وراء وعود بعوائد شهرية مغرية لم تتحقق قط.

راي قانوني

وحول المسؤوليات القانونية للأشخاص القائمين على هذه الشركات الوهمية اوضح المستشار القانوني محمد الحاتمي أنها “متعددة الأبعاد تبدأ بالمسؤولية الجنائية التي قد تضع المتورطين أمام تهم الاحتيال والغش والتدليس، وما يترتب عليها من عقوبات تصل إلى السجن والغرامات المالية الباهظة، مرورًا بالمسؤولية المدنية التي تتيح للضحايا المطالبة بتعويضات عن الأضرار التي لحقت بهم، وصولًا إلى المسؤولية الإدارية التي قد تنتهي بفرض غرامات وإلغاء أي تراخيص وحظر من مزاولة الأنشطة المالية”.

وأشار الحاتمي في حديثه لـ”الوحدة” إلى “أن ملاحقة هذه الشركات تستدعي تحركا من الجهات الرقابية والعدلية على أكثر من مستوى، بدءًا بالتحريات والتحقيقات لكشف القائمين عليها، مرورًا بإجراءات الإيقاف والتحفظ على الأصول، وانتهاءً بالمساءلة القضائية أمام المحاكم المختصة”.

خبراء اقتصاد: التداول عبر المنصات الوهمية أصبح يهدد الاستقرار الاقتصادي ويستنزف مدخرات المواطنين

واكد الحاتمي ان “انتشار هذه الشركات الوهمية يؤكد القصور في القوانين المنظمة وآليات الرقابة والتطبيق على أرض الواقع، وذلك يتطلب تحديث القوانين وتعزيز آليات الرقابة لمنع تكرار هذه الظواهر، ويمكن أن تشمل الإجراءات المطلوبة لتعزيز الرقابة،  تحديث القوانين واللوائح ذات العلاقة لتشمل حظر مثل هذه الأنشطة الجديدة ووضع عقوبات رادعة أو القيام بإصدار تشريعات ناظمة توضح الأدوار والواجبات والمسؤوليات بشكل متطور لضمان تغطية جميع جوانب النشاط وخاصة الجوانب المالية وضمانات استرداد المستثمرين لقيمة أسهمهم وضمان تشغيل تلك المساهمات في مشاريع واقعية وحقيقية وذات مردود حقيقي للأرباح العائدة على السهم وأن يتم كل ذاك تحت إشراف ورقابة جهات متخصصة ورفع كفاءتها للقيام بهذه المسؤولية”.

وأضاف “يجب تعزيز آليات الرقابة والتفتيش لاكتشاف الأنشطة غير القانونية في وقت مبكر ومنعها من الانتشار، وتوعية الجمهور بمخاطر هذه الشركات الوهمية وكيفية التعرف عليها وتبليغ السلطات عنها”.

وشدد الحالمي على أن حماية مدخرات المواطنين مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، ولا يمكن الحد من هذه الظاهرة إلا بتكامل الجهود الرسمية والشعبية.

تطبيق عقوبات صارمة

بدوره يرى المستشار القانوي والمحامي زيد الرفاعي أن مواجهة منصات التداول الاستثماري الوهمية “يتطلب استراتيجية متكاملة تبدأ بنشر الوعي المجتمعي حول خطورة هذه المنصات وكيفية التعرف على أساليب الاحتيال التي تنتهجها”، مشددًا على “أهمية تحصين الأفراد بالمعلومة حتى لا يقعون ضحايا للوعود الزائفة”.

وأشار الرفاعي في حديثه لـ”الوحدة” إلى ضرورة التحقق من مصادر أي منصة إلكترونية قبل التعامل معها، إلى جانب تعزيز استخدام البرامج الأمنية وتحديث الأجهزة بشكل دوري لضمان الحماية من أي ثغرات قد تستغلها تلك العصابات. كما دعا الرفاعي المواطنين إلى سرعة الإبلاغ عن أي منصة مشبوهة للسلطات المعنية، باعتبار ذلك مسؤولية جماعية تساهم في الحد من هذه الظاهرة.

وفيما يتعلق بدور السلطات، شدد الرفاعي على أهمية إصدار قوانين ولوائح صارمة تواكب تطور الجرائم الإلكترونية، إضافة إلى تعزيز الرقابة الإلكترونية على المنصات ومتابعتها عن قرب، مع توفير الدعم الفني للضحايا، والتعاون مع الدول الأخرى لملاحقة العصابات العابرة للحدود.

وختم الرفاعي حديثه بالتأكيد على أن محاربة هذه المنصات لا يمكن أن يتحقق دون شراكة حقيقية بين السلطات والمجتمع، لافتًا إلى أن وعي المواطنين وحذرهم عند استخدام الإنترنت، إلى جانب التزام الدولة بتطبيق العقوبات الرادعة، يمثلان معًا خط الدفاع الأول لحماية مدخراتهم وصون أمنهم الاقتصادي.

أرقام صادمة وتحذيرات رسمية

وتكشف بيانات رسمية حجم الكارثة التي خلّفتها الشركات الوهمية في اليمن، حيث تجاوز عدد الضحايا 300 ألف مواطن، غالبيتهم من النساء، فيما وصلت قيمة الأموال المنهوبة إلى عشرات المليارات من الريالات، ويؤكد مراقبون أن هذه الظاهرة لم تكن مجرد عمليات نصب فردية، بل جزء من حرب اقتصادية استهدفت المجتمع في لقمة عيشه واستقراره المعيشي.

وبحسب تقرير صادر عن البنك المركزي اليمني في عام 2022، فقد سجلت بعض هذه القضايا أرقاما مهولة، أبرزها قضية “قصر السلطانة” التي طالت أكثر من 200 ألف شخص، وبلغت قيمة الأموال المنهوبة فيها أكثر من 50 مليار ريال، ضمن خسائر إجمالية تخطت 66 مليار ريال يمني.

ومع اتساع الظاهرة، أصدر البنك المركزي بصنعاء سلسلة تحذيرات رسمية حثّ فيها المواطنين على عدم الانجرار وراء كيانات غير مرخصة تمارس أنشطة استثمارية أو مالية مشبوهة، وأكد البنك أن هذه الكيانات لا تستند إلى أي مشاريع حقيقية، بل تعتمد على الوهم والخداع، ما يعرّض المتعاملين معها لمخاطر قانونية وخسائر فادحة. كما شدد على أن التعامل عبر شبكات غير نظامية يمثل مخالفة صريحة لقوانين المصارف ولوائح مكافحة غسل الأموال.

أحكام قضائية بارزة

هذه التحذيرات لم تقف عند حدود البيانات الرسمية، بل تبعتها إجراءات قضائية صارمة ضد المتورطين في أبرز قضايا الاحتيال المالي التي هزّت الرأي العام، فقد أصدرت محكمة الأموال العامة في صنعاء حكمًا على بلقيس الحداد بالسجن ١٠ سنوات مع الزامها بتسليم ٢٧ مليار ريال وذلك فيما يُعرف بقضية “قصر السلطانة”، وفي قضية مشابهة، أُدينت فتحية المحويتي رئيسة شركة “تهامة فلافور” الوهمية، بالنهب والاحتيال على عشرات الالاف من المشتركين فيما يعرف بشركة تهامة فلافور، وصدر بحقها حكم بالسجن ٧ سنوات.

كما أدانت المحكمة فادية عقلان وشقيقها محمد عقلان بتأسيس شركة وهمية باسم “إعمار تهامة”، استدرجوا عبرها مئات المواطنين ونهبوا أكثر من 3 مليارات ريال، وحُكم عليهما بالسجن سبع سنوات مع النفاذ.

ولم يقتصر الأمر على المؤسسين، بل شمل أيضا ثلاثة من العاملين في قطاع الصرافة، الذين فُرضت عليهم غرامات مالية بقيمة مليوني ريال لكل منهم لتورطهم في تسهيل العمليات غير المشروعة المرتبطة بهذه الشركات.

Comments are closed.

اهم الاخبار