محمد سلطان غالب*: ما بعد السرطان!

 

حين يقول لك الطبيب: “مبروك، شُفيت”، تشعر للحظة أن العالم صار خفيفاً، وأنك خرجت من النفق المظلم. لكن سرعان ما تكتشف أن النجاة بداية أخرى لا تقل صعوبة عن المرض نفسه. الناجون من السرطان يعيشون حياة مختلفة، جسداً وروحاً، حيث يبدأ فصل جديد من المعاناة بعيداً عن ضوء المستشفى وصخب العلاج.

فأنا، وقد نجوت من سرطان الدم، عرفت أن الجسد لا يعود كما كان. صديقي محمد، وهو نجار من صنعاء، كان يحدثني عن يده التي تورّمت بعد العلاج. كان يقول: “أمسك بالمطرقة كأنها جبل، وأخاف أن تخذلني في أي لحظة.” حين بحثت أكثر، قرأت في مجلة طبية أن هذا التورّم هو احتباس لمفاوي، حالة تصيب كثيراً من الناجين، وتجعل أبسط الحركات معركة يومية تحتاج إلى تخطيط وعلاج فيزيائي وتمارين وأكمام ضغط.

لكن ليست الأطراف وحدها التي تتغير، فالعلاجات تغيّر الكيمياء الداخلية للجسد أيضاً. سالم، معلم من المكلا، أخبرني أنه أصبح ينام لساعات طويلة ويستيقظ منهكاً، مزاجه يتقلب بلا سبب واضح. حين قرأت في موقع طبي متخصص، فهمت أن العلاج الكيماوي يربك الغدد ويخلخل توازن الهرمونات، فيصنع إرهاقاً لا يزول بالراحة ويؤدي أحياناً إلى اكتئاب طويل الأمد. منظمة الصحة العالمية تؤكد أن ثلث الناجين يمرون بهذا النوع من الاضطرابات النفسية والعاطفية.

والأصعب من كل ذلك، هو الخوف الذي لا يغادر. عبد الله، موظف أرشيف من الحديدة، قال لي ذات يوم: “الناس يفرحون بنجاتي، لكنني كل يوم أعيش مع خوف أن يعود المرض.” هذا ما يسميه الأطباء قلق الانتكاسة، وهو قلق دائم يعيش في قلب الناجي، يجعله يفسر أي ألم صغير كأنه عودة للسرطان. قرأت في تقرير للجمعية الأمريكية للسرطان أن أكثر من نصف الناجين يعانون من هذا القلق بدرجات مختلفة، ما يفسر حالات الأرق والعزلة التي يعيشها الكثيرون.

 

وحين يحاول الناجي العودة إلى عمله، تبدأ معركة أخرى. حسين، سائق باص من تعز، يقسّم الطريق إلى مقاطع قصيرة لأنه لم يعد يحتمل ثقل المقود كما كان. أما فواز من ميناء عدن، فقد اتهمه زملاؤه بالكسل بعد عودته من العلاج، إلى أن تفهّم مشرفه وضعه وحوّل مهامه من الرفع الشاق إلى التفتيش والتوثيق. قال لي مبتسماً: “حين اعترفوا أنني أتعافى لا أتكاسل، استطعت أن أواصل وأعيل أسرتي.”

هكذا فهمت أن الناجي يحتاج أكثر من الدواء. يحتاج إلى رعاية تمتد لما بعد العلاج: إعادة تأهيل جسدي لمواجهة الإرهاق المزمن وضعف المناعة، متابعة هرمونية دقيقة، دعم نفسي يبدد الوصمة، وتفهّم من الأسرة والعمل. المنظومات الصحية عندنا، للأسف، تركز على الورم وتنسى ما يتركه بعده. كثيرون يخرجون من المستشفى بعبارة “شُفيت”، لكنهم يدخلون في عزلة بلا خريطة ولا رفيق.

بالنسبة لي، أدركت أن النجاة الحقيقية لم تأت فقط من العلاج الكيماوي، بل من الهدوء النفسي الذي تمسكت به، ومن الدعم الذي تلقيته من أسرتي وأصدقائي. الصحة النفسية كانت طوق نجاتي، مثلما كانت الأدوية والعمليات.

وهكذا تبقى الحقيقة أن السرطان لا يرحل تماماً. هو يترك ندوباً في الجسد، وخوفاً في الروح، لكنه أيضاً يمنح الناجي شجاعة خاصة. نحن لا نطلب شفقة، بل اعترافاً بأن معركتنا لم تنتهِ بعد، وأن الحياة بعد السرطان ليست استعادة لما فات، بل بناء جديد لمعنى آخر للحياة.

  • أحد الناجين من مرض السرطان

 

Comments are closed.

اهم الاخبار