دوغين.. حين يتحول الغضب إلى استراتيجية
د. حمود العودي*
في مقال تعبوي الطابع يتم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي منسوب للمفكر الروسي ألكسندر دوغين – المعروف بميوله الأوراسية ونزعته الحضارية الصراعية حمل عنوان – رؤية تحليلية للوضع في إيران، مدرجاً إياه كحلقة افتتاحية في مسلسل مواجهة كونية مرتقبة، تُحاك خيوطها – بحسب قراءته – من قبل الغرب ضد دول الجنوب والعالم الصاعد.. هذه المقالة الغنية بشحناتها الأيديولوجية، تطرح خطاباً مكثفاً حول الصراع على النفوذ العالمي، وتعيد إنتاج سردية الحرب الباردة ولكن بثوب رمزي مُعاد تصميمه. غير أن هذا الطرح، ورغم ما يحمله من عناصر توصيف دقيق لبعض آليات الصراع، يثير تساؤلات جوهرية حول مدى وجاهته التحليلية واستقامته الاستراتيجية.
وقبل الخوض في قراءة موضوعية للنص فكرةً وجوهراً أو التأكيد هنا على أننا – من منظور نقدي تحرري – لا نقف إلى جانب أي عدوان خارجي أو استهداف سيادي يُمارس على دول مثل إيران أو غيرها من بلدان الجنوب. فكما نرفض منطق الهيمنة الغربية بسياساته الانتقائية وممارساته الاستعمارية الجديدة، فإننا نرفض أيضاً استهداف الدول تحت ذرائع مصلحية أو أيديولوجية. غير أن رفض العدوان لا يعني التغاضي عن الانتهاكات الداخلية أو تحويل الصراع إلى تبرير للاستبداد، بل يدعونا إلى تبني رؤية نقدية مزدوجة تُدين الخارج المهيمن وتطالب الداخل بالإصلاح.
بنية الخطاب وتصوراته
ينطلق دوغين في خطابه من مجموعة من الفرضيات المركزية التي تشكل الهيكل المفاهيمي لتحليله.. أولى هذه الفرضيات تفيد بأن الغرب لا يخوض حروبه بشكل مباشر، بل يعتمد على استراتيجيات “حرب التسلل” التي تستخدم وكلاء داخليين، والعقوبات الاقتصادية والانقلابات الناعمة..
ثانيًا، يرى أن دول الجنوب – وإيران كنموذج بارز – لا تدرك تماماً طبيعة هذه الحرب الهجينة، وتتعامل معها كأزمات طارئة لا تتطلب سوى ردود فعل ظرفية..عوضاً عن تبني منظور استراتيجي يفكك بنيتها كمنظومات عدائية ينبغي إسقاطها.
في الفرضية الثالثة.. يؤكد دوغين أن مصير إيران، سواء صموداً أو سقوطاً يشكل نقطة تحول حاسمة في ميزان النظام العالمي.. أما الفرضية الرابعة فتدفع باتجاه أن المقاومة الفعالة لا تتحقق إلا عبر تحولها إلى مقاومة شاملة متعددة الأوجه؛ سياسية، واقتصادية، وثقافية، وعسكرية.
وفي الفرضية الخامسة.. يدعو إلى أن تتحول مجموعة البريكس من مجرد تكتل دبلوماسي إلى محور نضالي لتحرير الجنوب العالمي.
مقاربة نقدية
رغم أن دوغين ينجح في توصيف بعض آليات الهيمنة الغربية، خاصة تلك المرتبطة بالحروب غير التقليدية، إلا أن خطابه لا يخلو من مثالب تحليلية ومنهجية..تتجلى في ثلاثة محاور أساسية:
- المنطق والواقعية:
فيصيب دوغين- أو المقال المنسوب إليه -في قراءته لطبيعة “الحروب غير المعلنة” التي تتوسل أدوات مالية، إعلامية ودبلوماسية وهي من خصائص “الحرب الهجينة” التي تشكل اليوم جزءاً أصيلاً من أدبيات الأمن القومي الحديث (انظر: NATO Hybrid Warfare Doctrine). إلا أن الخلل المنهجي يتمثل في تعميمه القاطع، وتصويره الغرب ككتلة شريرة متجانسة لا تعرف الانقسامات أو التناقضات الداخلية.
لكن هذا التوصيف يتجاهل الواقع المتعدد للغرب؛ حيث توجد صحافة حرة ومجتمعات مدنية قد تُعارض توجهات حكوماتها كما يغفل التباينات بين السياسات الأوروبية والأميركية، بل وحتى تمايز مواقف دول مثل اليابان وأستراليا عن شركائها في الأطلسي.. إضافة إلى ذلك فإن اختزال الغرب كإمبراطورية شر مطلق ؛ مقابل تقديم روسيا أو الصين أو إيران كقوى “مقاومة نبيلة”، يتجاهل الطابع السلطوي لهذه الأنظمة وتورطها في ممارسات قمعية وانتهاكات لحقوق الإنسان.
- البُعد الأخلاقي والسياسي:
تغرق لغة دوغين في نبرة تحريضية تبرر العنف الشامل – حتى ضد المدنيين – تحت شعار “كسر أوهام السلام”، وهو ما يُعد خطاً أحمر أخلاقياً قد يُستغل لتبرير الإرهاب والعنف العابر للحدود..
كما أن الخطاب يتبنى نزعة عنصرية صارخة تظهر في تعبيرات مثل “تحطيم العمود الفقري لإمبراطورية التغطرس الأبيض”، وهي تعبيرات تتناقض مع قيم العدالة والحرية التي يُفترض أن يدافع عنها الخطاب نفسه.
- غياب المشروع البديل:
رغم ما يحمله المقال من تشخيصات لافتة…إلا أنه لا يقدم بديلً استراتيجياً متكاملاً، بل يكتفي بالدعوة إلى مواجهة شاملة.. ومن الملاحظ بوضوح أنه يغيب عن النص أي تناول جدي لإصلاح الداخل في دول الجنوب، مثل مكافحة الفساد، بناء مؤسسات رشيدة، أو تمكين المجتمعات المحلية..
كما أنه لا يطرح أفكاراً لتأسيس إعلام بديل يتجاوز خطاب الكراهية أو مبادرات اقتصادية تعاونية مثل بنك الجنوب أو منظومات استثمارية بديلة عن النظام المالي القائم على الدولار. بل الأدهى أنه يتجاهل ضرورة التكامل الإقليمي كوسيلة للخروج من التبعية والتهميش.
نحو استراتيجيات بديلة بناءة
في مقابل خطاب الصدام الشامل الذي يقدمه المقال المنسوب لدوغين ؛هل يمكن تصور بدائل استراتيجية تستند إلى مبدأ “المقاومة الذكية” متعددة الأبعاد بما يتجاوز ثنائية الهيمنة والمواجهة العسكرية؟
على سبيل المثال وبعجالة:
تبني سياسات المقاومة الهيكلية اتبدأ من الداخل عبر إصلاح المؤسسات وترسيخ دولة القانونو تمكين المجتمع المدني والتركيز على ربط مسارات التنمية بالاستقلال الاقتصادي.
بالإضافة إلى تطوير خطاب إعلامي عالمي عبر ما قد يمكننا أن نسميه ب(الاعلام النوعي) يخاطب الغرب بلغته ويفكك بنيته الرمزية دون الانزلاق إلى ردود فعل شعبوية أو عنصرية.
كما أن إنشاء تحالفات بديلة من خلال تحويل تكتلات مثل البريكس ومنظمة شانغهاي إلى أدوات فاعلة للتعاون الأمني والتكنولوجي بدلاً من بقائها منتديات رمزية.
يمكن دول الجنوب انتهاج النفوذ الناعم من خلال التركيز على أدوات مثل التعليم الابتكار، الصناعات الثقافية والدبلوماسية الشعبية، مع دعم الحركات العالمية المناهضة للاستعمار الجديد من داخل الغرب نفسه.
ربما أن بناء أمن عالمي مشترك تحت منهج مفهوم “الأمن الإنساني المتعدد الأقطاب” كبديل عن منطق الأمن القومي الأحادي والعمل على صياغة ميثاق أممي جديد يوازن بين الردع والعدالة الدولية.. يُعد مدخلاً ضرورياً لإعادة تعريف العلاقات الدولية خارج ثنائية الهيمنة والمواجهة… فهذا النموذج يضع الإنسان، لا الدولة أو العرق أو العقيدة، في قلب المنظومة الأمنية، ويعترف بتعدد مصادر التهديد التي تشمل الفقر، التهميش.. تغيّر المناخ والاحتلال، كما يُشجع على إعادة توزيع أدوات التأثير والقرار داخل المنظومة الأممية بما يتيح تمثيلاً أكثر عدالة للدول النامية، ويحدّ من انفراد القوى الكبرى بصياغة مصير العالم سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
من خلال ما سبق نخلص إلى أن خطاب دوغين، في جوهره لا يقدم قراءة تحليلية صافية بقدر ما يُشكل دعوة مفتوحة إلى صدام كلي… ينطوي على مخاطر فكرية وسياسية جسيمة.. ورغم صدقه في توصيف بعض آليات الهيمنة، إلا أن غياب الرؤية البديلة والانزلاق نحو التهويم الأيديولوجي؛ يجعل منه نصاً تعبوياً أكثر منه مشروعاً للتحرر الفعلي. وإذا ما أراد “العالم الصاعد” أن ينهض فعلاً خارج منطق “التبعية” فعليه ألا يكرر أدوات الهيمنة الغربية.. بل يُنتج نُظما بديلة تُقنع الداخل وتنافس الخارج… بدلاً من جرّ البشرية إلى محرقة جديدة تحت شعار مقاومة الظلم.
وبالمناسبة.. لا بد من التوقف عند مفارقة لافتة تستحق التأمل من داخل السياق اليمني ذاته.. إذ يُلاحظ – من منظور سوسيولوجي نقدي – أننا في اليمن نخبةً وجمهوراً.. ننشغل- أحياناً إلى حد المبالغة- بخطابات الشرق والغرب وتحليل خرائط التوازنات الدولية، في حين أن أزماتنا الداخلية المتراكمة تظل بلا تفكيك جاد، ولا معالجة ممنهجة؛ فنتحدث كثيراً عن التحرر من الهيمنة العالمية.. بينما نعجز عن تفكيك شبكات الفساد المحلية أو بناء نموذج حدّ أدنى من التعاقد الاجتماعي.
إن اقتراح حلول عالمية أو بدائل استراتيجية لا يعني القفز فوق واقعنا، بقدر ما يعكس قناعة بأن استعادة الفاعلية تبدأ من التمركز حول الذات لا الانكفاء داخلها. ولعل السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم: كيف يمكن لأمة لم تخرج بعد من دوامات الانقسام والتبعية والفشل المؤسسي أن تسهم بفاعلية في صياغة ميثاق عالمي جديد؟
الإجابة – كما يعلمنا علم الاجتماع – تبدأ من إعادة بناء الداخل، لا من الهروب نحو عوالم كبرى لا مكان لنا فيها حتى الآن.
- أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة صنعاء
Comments are closed.