د.يحيى أبو زكريا: موت الثقافة في العالم العربي والإسلامي!

لم تتنكّب حالة في العالم العربي مثلما تنكبّت الثقافة العربية التي أصبحت كالقدس تماما مهملة منسيّة ثانويّة بعيدة عن كل إهتمام رسمي وحتى جماهيري، ولموت الثقافة بكل تفاصيلها ومصاديقها أسباب كثيرة ولعلّ أهمها السعي الحثيث للنظام الرسمي العربي لوأدها وشنق منتجيها ومفعلّيها على شكل رواية ومقالة ومسرح وقصيدة ومناظرة ومجادلة وحوار وكتاب وما إلى ذلك من تمظهرات الثقافة وتجلياتها.
والنظام الرسمي العربي المولع بالأحاديّة والشموليّة والبيداغوجيّة والدوغمائيّة أجهز على كل ما له صلّة بالإبداع وحصر الإبداع في الخطّ السياسي والإعلامي والإيديولوجي الذي يؤمن به، فالقصيدة التي لا تمجّد السيّد الرئيس هي قصيدة مشبوهة، والبيت الشعري الذي لا يسبّح بحمد هذا الملك وذاك الأمير البدوي ليس بيتا من الشعر ولا يمكن أن يرى النور في فضائيات وإذاعات وصحف هذا الأمير وذاك الملك، والرواية التي لا تتحدث عن بطولات السيد الرئيس ومجد الحزب الحاكم وفتوحات النظام السيّاسي ليست رواية والأغنية التي لا تمجّد السيد الرئيس الفاتح العربي صاحب النياشين الوهميّة ليست أغنية والمقالة التي لا تركّز على الإنتصار الحضاري والنهضوي الذي حققّه السيد الرئيس ليست مقالة…
وقد خلق النظام الرسمي العربي فضائيات تتناول الفنّ والفنانين أكثر مما تتناول الثقافة والمثقفين علما أنّ السلف الصالح في هذه الأمة قالوا: أخبث الكسب كسب الزمّارة، أي الكسب الحاصل من الغناء والطرب. والحاكم العربي عندما يأمر بإقامة فضائيّات لا تعنى إلاّ بالطرب والرقص الشرقي العاهر والداعر لا يهدف إلى إراحة المواطنين المسحوقين المظلومين والمحتقرين ببطشه وطغيانه وإفراحهم بقدر ما يهدف إلى إيجاد بضاعة رخيصة في المجتمع وتسفيه عقول المواطنين حتى لا يرقى عقلهم إلى إكتشاف مؤامراته وسرقاته وجهله، وكلمّا عمّ الجهل كلمّا إستمرّ إستبداده وإستتر جهله وغشاوته، وفي يوم من الإيّام كنت أتفاوض مع مدير تلفزيون عربي حول برنامج كان يفترض أن أنشطّه، فقال لي هامسا خوفا من وجود أجهزة تنصّت داخل مكتبه إنّ الجهات العليا لا ترغب في مثل هذا البرنامج، فقلت له بصوت مرتفع طبعا إنّ الجهات العليا تشجّع العهر والدعارة الثقافية والفنيّة حتى يدوم حكمها، وهل طالت أعمارهم السيّاسيّة إلاّ بفضل سياسة التجهيل التي طبقّوما ويكرسونّها في واقعنا كل واقعنا، وما زلت أتذكّر كيف طلب حاكم عربي من مخرج سينيمائي أن يكثر من عدد القبلات في أفلامه ومسلسلاته حتى تنطلق شهوات الناس إلى أبعد مدى وبالتالي يتجنّب الناس التنكيت عن الحكومة وأدائها السياسي.
يخطئ من يتصوّر أنّ الصدفة والصدفة وحدها هي التي تقف وراء تسفيه الثقافة والمسرح والبرامج الإعلامية والتلفزيونية والنصوص الأدبية، إنّ ذلك كل ذلك يرتبط بإستراتيجية كاملة لدوائر القرار العربي التي تريد فضائيات لا تصدح إلا بالغناء وأشير هنا أنّ فضائية عربية إتصلت بي لأدلي برأيي في حدث سياسي فظلّ معّد البرنامج يتوسلنّي حتى لا أتطرق إلى القيادة السياسية في البلد الذي توجد فيه هذه الفضائيّة … اذا تطرقنا إلى الإعلام المكتوب فالكارثة أشدّ وأعظم، فالأحاديّة السياسيّة والإعلامية هي سيّدة الموقف في معظم البلاد العربيّة والإسلامية وفي هذه الحالة فإنّ رئيس التحرير المعيّن من قبل الجهات العليا هو أشبه بجنرال لديه تعليمات ودساتير وملاحظات لها أول وليس لها آخر، فالمجال مفتوح ومفسوح للمتخندقين فقط في خطّ الموالاة والتحزّب لفقه السلطة ودستورها أمّا الشريحة الواسعة من المبدعين والمفكرين – لابدّ من الإشارة هاهنا أنّ صاحب الإبداع والفكر والعطاء المتواصل يأبى أن يكون تابعا لحكم أو معارضة ولذلك تجده منبوذا من قبل الحكم والمعارضة على السواء – وبهذه الطريقة يتكرس فكر الببغّاء وثقافة الإجترار البعيدة عن النظرة النقديّة والأفكار الإحتجاجيّة التي بها دون غيرها تزدهر الثقافة وتتقدم حركة الفكر ولولا الأخذ والردّ والإيراد في الفكر البشري لما تطورّت المدارس الكلاميّة والفلسفية والشعرية والفنيّة وغيرها.

 

Comments are closed.

اهم الاخبار