الهجمات المتبادلة بين طهران وتل أبيب: بين حرب الأعصاب ومعادلات الردع
سالم عوض العولقي
منذ اللحظة الأولى التي أقدمت فيها #إسرائيل على تنفيذ ضربات نوعية داخل العمق الإيراني، استهدفت فيها قادة بارزين وعقولًا مؤثرة ضمن تركيبة النظام العسكري والأمني في طهران، بدا المشهد وكأنه تفوق نوعي لتل أبيب يغيّر ميزان القوة في المنطقة، ويفرض معادلة ردع جديدة. إلا أن نظرة متأنية في طبيعة هذه الهجمات، وتقدير الموقف الإيراني وردوده، تشير إلى ما هو أعمق وأبعد من مشهد اغتيال أو تفجير في حي راقٍ بطهران.
آلية “شبكة العنكبوت” في العقيدة العسكرية الإيرانية
يُخطئ من يظن أن فقدان قائد بارز أو شخصية إعلامية ضمن منظومة الحرس الثوري أو فيلق القدس يُعد ضربة قاصمة لطهران. فالنظام الإيراني، وتحديدًا جناحه العسكري، لا يدار عبر أفراد بل وفق منظومة عنكبوتية بالغة التعقيد. كل حقيبة أمنية أو عسكرية أو حتى دبلوماسية داخل هذا النظام تُدار بواسطة فريق من عشرة أشخاص على الأقل، يظهر منهم للعلن شخص واحد فقط، بينما يعمل الباقون ضمن الظل، في إطار لا مركزي، يمنع تعطيل أي عمل في حال سقوط الواجهة.
هذه الآلية جعلت إيران وفصائل “محور المقاومة” التابعة لها في اليمن ولبنان وسوريا والعراق، قادرة على امتصاص الهزات الأمنية والسياسية، دون أن تتأثر بنية القرار ولا مسار العمليات الميدانية. إنها آلية تمنع الانهيار وتحمي المؤسسة من الاستنزاف عبر الضربات الانتقائية.
طبيعة الضربات الإسرائيلية: حرب نفسية قبل أن تكون عسكرية
إن ما تسعى إليه إسرائيل من خلال ضرباتها الموجعة لا يهدف فقط إلى إضعاف القدرات العسكرية الإيرانية بقدر ما يهدف إلى تحقيق اختراق معنوي ونفسي داخل العمق الإيراني، أو على الأقل في صفوف الجمهور الداعم لمحور المقاومة في الإقليم.
إسرائيل تدرك صعوبة الدخول في حرب أو مواجهة شاملة مع إيران، لذا فهي تميل إلى ما يمكن تسميته بـ”الحرب المركّبة”: ضربات محدودة، موجهة، تخترق الرمزية أكثر من البنية، وتهدف إلى رفع منسوب التوتر وإرباك المؤسسة الحاكمة، ودفع طهران إلى رد فعل متسرع يمكن استغلاله دوليًا لتبرير تدخلات أوسع.
الدور الأمريكي والغربي: إسرائيل كذراع اختبار لا أكثر
من الضروري الإشارة إلى أن إسرائيل لا تتحرك بمعزل عن الغرب، بل إن معظم الهجمات التي تنفذها، خصوصًا ضد إيران، تكون بتنسيق مباشر مع الولايات المتحدة، بل وفي كثير من الأحيان بتكليف غير معلن. فالمحور الغربي يستخدم إسرائيل كـ”حقل اختبار” لاستكشاف جاهزية إيران وقدرتها على الرد، ومدى تطور بنيتها الدفاعية والهجومية، استعدادًا لأي مواجهة محتملة مستقبلًا، مباشرة أو بالوكالة.
هذه الضربات، إذًا، لا تُقرأ فقط في إطار الصراع الإيراني الإسرائيلي، بل ضمن حسابات أكبر تقودها واشنطن، وتُبقي فيها طهران تحت المجهر طوال الوقت، لقياس أي نقطة ضعف قد تظهر.
الرد الإيراني: دقة، حذر، ورسائل استراتيجية
الرد الإيراني على هذه الضربات لم يكن ردًا تقليديًا. لم تهرع إيران لإطلاق وابل من الصواريخ بطريقة انفعالية، بل كان الرد مدروسًا ومركّزًا، استهدف منشآت استراتيجية إسرائيلية بالغة الحساسية، منها مراكز أمنية، ومواقع استخباراتية، ومرافق بنية تحتية ذات طابع اقتصادي وعسكري.
هذا الرد لم يأتِ فقط لتسجيل نقطة ميدانية، بل لتوصيل رسائل في غاية الأهمية:
- أن طهران قادرة على توجيه ضربات دقيقة ومؤثرة حتى داخل العمق الإسرائيلي.
- أن لديها بنك أهداف جاهز، وتحتفظ بخيارات تصعيدية أكبر.
- أن الحرب النفسية التي تعتمد عليها إسرائيل يمكن قلبها عليها إذا اختارت طهران الرد في التوقيت المناسب.
نتنياهو في مأزق داخلي: حين يتحول الإنجاز العسكري إلى عبء سياسي
في أعقاب الرد الإيراني، لم يتأخر الداخل الإسرائيلي كثيرًا في التفاعل. فقد واجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عاصفة من الانتقادات من المعارضة، بل حتى من شخصيات أمنية وعسكرية سابقة، حمّلته مسؤولية “توريط إسرائيل في حرب طويلة لا يعرف مداها، ولا تملك تل أبيب أدوات الحسم فيها”.
الضربة الأخيرة تحديدًا، التي جاءت اليوم، أعادت خلط الأوراق. فقد باتت المعارضة ترى أن استمرار هذا النهج التصعيدي يمثل خطرًا وجوديًا على إسرائيل، وأن نتنياهو لا يُدير صراعًا من أجل الأمن القومي، بل يُقامر بمستقبل البلاد السياسي والأمني خدمة لأجندات خارجية.
المعارضة الإسرائيلية لن تكتفي ببيانات الشجب، بل ستسعى لتصعيد سياسي واسع ضد حكومة نتنياهو، وفتح ملفات مساءلة، وربما الدفع لإسقاط الائتلاف الحاكم، خاصة إذا تزايدت الضغوط الشعبية، وارتفعت أصوات الرأي العام التي بدأت تتساءل عن جدوى هذه المواجهات، وأثمانها الحقيقية.
Comments are closed.